[ ص: 537 ] الآية السابعة والعشرون قوله تعالى :
{ وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما } .
وفيها خمس عشرة مسألة : وهي من الآيات الأصول في الشريعة ، ولم نجد لها في بلادنا أثرا ; بل ليتهم يرسلون إلى الأمينة ، فلا بكتاب الله تعالى ائتمروا ، ولا بالأقيسة اجتزوا ، وقد ندبت إلى ذلك فما أجابني إلى بعث الحكمين عند الشقاق إلا قاض واحد ، ولا إلى القضاء باليمين مع الشاهد إلا قاض آخر ، فلما ولاني الله الأمر أجريت السنة كما ينبغي ، وأرسلت الحكمين ، وقمت في مسائل الشريعة كما علمني الله سبحانه من الحكمة والأدب لأهل بلدنا لما غمرهم من الجهالة ; ولكن أعجب ليس للحكمين عنده خبر ، وهو كثيرا ما يترك الظواهر والنصوص للأقيسة ; بل أعجب أيضا من لأبي حنيفة فإنه قال ما نصه : الذي يشبه ظاهر الآية أنه فيما عم الزوجين معا حتى يشتبه فيه حالاهما ، وذلك أني وجدت الله سبحانه أذن في نشوز الزوج بأن يصالحا ، وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ، وبين في الشافعي بالضرب ، وأذن في خوفهما ألا يقيما حدود الله بالخلع ، وذلك يشبه أن يكون برضاء المرأة ، وحظر أن يأخذ الرجل مما أعطى شيئا إن أراد استبدال زوج مكان زوج ، فلما أمر فيمن خفنا الشقاق بينهما بالحكمين دل ذلك على أن حكمهما غير حكم الأزواج ، فلما كان كذلك بعث حكما من أهله وحكما من أهلها ، ولا يبعث الحكمين إلا مأمونين برضا الزوجين وتوكيلهما للحكمين بأن يجمعا أو يفرقا إذا رأيا ذلك . نشوز المرأة
ووجدنا حديثا بإسناد يدل على أن الحكمين وكيلان للزوجين . قال : هذا منتهى كلام القاضي أبو بكر ، وأصحابه يفرحون به ، وليس فيه ما يلتفت إليه ولا يشبه نصابه في العلم ، وقد تولى الشافعي القاضي أبو إسحاق الرد عليه ولم ينصفه في الأكثر . والذي يقتضي الرد عليه بالإنصاف والتحقيق أن نقول : أما قوله الذي يشبه ظاهر [ ص: 538 ] الآية أنه فيما عم الزوجين فليس بصحيح ; بل هو نصه ، وهي من أبين آيات القرآن وأوضحها جلاء ; فإن الله تعالى قال : { الرجال قوامون على النساء } . ومن وعظها ; فإن أنابت وإلا هجرها في المضجع ; فإن ارعوت وإلا ضربها ، فإن استمرت في غلوائها مشى الحكمان إليهما ; وهذا إن لم يكن نصا ، وإلا فليس في القرآن بيان . خاف من امرأته نشوزا
ودعه لا يكون نصا يكون ظاهرا ، فأما أن يقول يشبه الظاهر فلا ندري ما الذي يشبه الظاهر ؟ وكيف يقول الله : { الشافعي وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها } ; فنص عليهما جميعا ، ويقول هو : يشبه أن يكون فيما عمهما وأذن في خوفهما ألا يقيما حدود الله بالخلع ، وذلك يشبه أن يكون برضا المرأة ، بل يجب أن يكون كذلك ، وهو نصه .
ثم قال : فلما أمر بالحكمين علمنا أن حكمهما غير حكم الأزواج ، ويجب أن يكون غيره بأن ينفذ عليهما بغير اختيارهما ، فتتحقق الغيرية . وأما قوله : لا يبعث الحكمين إلا مأمونين فصحيح ، ولا خلاف فيه .
وأما قوله : برضا الزوجين بتوكيلهما فخطأ صراح ; فإن الله خاطب غير الزوجين إذا خافا الشقاق بين الزوجين بإرسال الحكمين ، وإذا كان المخاطب غيرهما فكيف يكون ذلك بتوكيلهما ، ولا يصح لهما حكم إلا بما اجتمعا عليه ، والتوكيل من كل واحد لا يكون إلا فيما يخالف الآخر ، وذلك لا يمكن هاهنا .
المسألة الأولى : قوله : { وإن خفتم } : قال السدي : يخاطب الرجل والمرأة إذا ضربها فشاقته ، تقول المرأة لحكمها : قد وليتك أمري وحالي كذا ; ويبعث الرجل حكما من أهله ويقول له : حالي كذا ; قاله ، ومال إليه ابن عباس . وقال الشافعي : المخاطب السلطان ، ولم ينته رفع أمرهما إلى السلطان ، فأرسل الحكمين . وقال سعيد بن جبير : قد يكون السلطان ، وقد يكون الوليين إذا كان الزوجان محجورين . [ ص: 539 ] مالك
فأما من قال : إن المخاطب الزوجان فلا يفهم كتاب الله كما قدمنا . وأما من قال : إنه السلطان فهو الحق . وأما قول : إنه قد يكون الوليين فصحيح ، ويفيده لفظ الجمع ، فيفعله السلطان تارة ، ويفعله الوصي أخرى . وإذا أنفذ الوصيان حكمين فهما نائبان عنهما ، فما أنفذاه نفذ ، كما لو أنفذه الوصيان . مالك
وقد روى ، محمد بن سيرين وأيوب عن عبيدة ، عن ; قال : جاء إليه رجل وامرأة ومعهما فئام من الناس ، فأمرهم فبعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها ، ثم قال للحكمين : أتدريان ما عليكما ؟ إن رأيتما أن تجمعا جمعتما ، وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما . فقالت المرأة : رضيت بما في كتاب الله لي وعلي . وقال الزوج ، أما الفرقة فلا . فقال : لا تنقلب حتى تقر بمثل الذي أقرت . قال علي القاضي أبو إسحاق : فبني على أن الأمر إلى الحكمين اللذين بعثا من غير أن يكون للزوج والزوجة أمر في ذلك ولا نهي . فقالت المرأة بعد ما مضيا من عند : رضيت بما في كتاب الله تعالى لي وعلي . وقال الزوج : لا أرضى . فرد عليه علي تركه الرضا بما في كتاب الله ، وأمره أن يرجع كما يجب على كل مسلم ، أو ينفذ ما فيه بما يجب من الأدب ، فلو كانا وكيلين لم يقل لها : أتدريان ما عليكما ؟ إنما كان يقول : أتدريان بما وكلتما ، ويسأل الزوجين ما قالا لهما . علي