المسألة الرابعة عشرة : قوله تعالى : { من بعد وصية يوصي بها أو دين } قال علماؤنا : هذا فصل عظيم من فصول الفرائض ، وأصل عظيم من أصول الشريعة ; وذلك أن الله سبحانه جعل المال قواما للخلق ; ويسر لهم السبب إلى جمعه بوجوه متعبة ، ومعان عسيرة ، وركب في جبلاتهم الإكثار منه والزيادة على القوت الكافي المبلغ إلى المقصود ، وهو تاركه بالموت يقينا ، ومخلفه لغيره ، فمن رفق الخالق بالخلق صرفه عند فراق الدنيا ; إبقاء على العبد وتخفيفا من حسرته على أربعة أوجه : الأول : . الثاني : ما تبرأ به ذمته من دينه . الثالث : ما يتقرب به إلى الله من خير ليستدرك به ما فات في أيام مهلته . الرابع : ما يصير إلى ذوي قرابته الدانية وأنسابه المشتبكة المشتركة . فأما الأول فإنما قدم ; لأنه أولى بماله من غيره ، ولأن حاجته الماسة في الحال متقدمة على دينه ، وقد كان في حياته لا سبيل لقرابته إلى قوته ولباسه ، وكذلك في كفنه . ما يحتاج إليه من كفنه وجهازه إلى قبره
وأما فلأن ذمته مرتهنة بدينه ، وفرض الدين أولى من فعل الخير الذي يتقرب به . [ ص: 443 ] تقديم الدين
فأما ففيه مصلحة شرعية وإيالة دينية ; لأنه لو منع جميعه لفاته باب من البر عظيم ، ولو سلط عليه لما أبقى لورثته بالصدقة منه شيئا لأكثر الوارثين أو بعضهم ; فقسم الله سبحانه بحكمته المال وأعطى الخلق ثلث أموالهم في آخر أعمارهم ، وأبقى سائر المال للورثة ، كما قال عليه السلام : { تقديم الصدقة على الميراث في بعض المال } . مع أنه كلالة منه بعيد عنه . وأراد بقوله : " خير " هاهنا وجوها معظمها أن ذلك سبب إلى ذكره بالجميل ، وإحياء ذكره هو إحدى الحياتين ، ومعنى مقصود عند العقلاء ، وقد أثنى الله سبحانه على الأنبياء في طريقه فقال : { إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس وتركنا عليه في الآخرين } وأخبر عن رغبته فيه فقال : { واجعل لي لسان صدق في الآخرين }
وإذا كان ورثته أغنياء عظم قدرهم ، وشرف ذكرهم في الطاعة وذكره . وقد ذكر الله تعالى الأوجه الثلاثة وترك الأول ; لأنه ليس بمتروك ، وإنما يكون متروكا ما فضل عن حاجته ومصلحته ; ولما جعل الله في القسم الثالث الوصية مشروعة مسوغة له ، وكلها إلى نظره لنفسه في أعيان الموصي لهم ، وبمقدار ما يصلح لهم . وقد كانت قبل ذلك مفروضة للوالدين والأقربين غير مقدرة ثم نسخ ذلك ، فروى أبو داود والترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { } . [ ص: 444 ] إن الله أعطى لكل ذي حق حقه ; لا وصية لوارث
وقد روى عن { البخاري قال : هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الحديث ، ثم قال : ومنهم خباب قتل يوم مصعب بن عمير أحد ، فلم نجد له ما نكفنه فيه إلا نمرة كنا إذا غطينا بها رأسه بدت رجلاه ، وإذا غطينا بها رجليه بدا رأسه . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : غطوا بها رأسه واجعلوا عليه من الإذخر } ; فبدأ بالكفن على كل شيء .
وروى الأئمة ، { أن أباه استشهد يوم جابر أحد ، وترك ست بنات ، وترك دينا ، فلما حضر جداد النخل أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ; قد علمت أن والدي استشهد يوم أحد ، وترك عليه دينا ، وإني أحب أن يراك الغرماء . قال : اذهب فبيدر كل تمرة على حدة ففعلت : فلما دعوته وحضر عندي ونظروا إليه كأنما أغروا بي تلك الساعة ، فلما رأى ما يصنعون طاف حول أعظمها بيدرا فجلس عليه ، وقال : ادع أصحابك ; فما زال يكيل لهم حتى أدى الله أمانة والدي } . عن . وروى فقدم الدين على الميراث ، عن البخاري قال : { سلمة بن الأكوع : صل عليه يا رسول الله وعلي دينه ، فصلى عليه أبو قتادة } ، فجعل الوفاء بمقابلة الدين . كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتي بجنازة فقالوا : صل عليها ، فقال : هل عليه دين ؟ قالوا : لا ، فصلى عليه ، ثم أتي بجنازة أخرى فقالوا : يا رسول الله ، صل عليها . فقال : هل عليه دين ؟ قالوا : نعم . قال : فهل ترك شيئا ؟ قالوا : ثلاثة دنانير ، فصلى عليه . ثم أتي بالثالثة فقالوا : صل عليها . فقال : هل ترك شيئا ؟ قالوا : لا ، قال : أعليه دين ؟ قالوا : ثلاثة دنانير . [ ص: 445 ] قال : صلوا على صاحبكم . قال
ولهذه الآثار والمعاني السالفة قال رواه علي بن أبي طالب الترمذي وغيره : إن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالدين قبل الوصية ، وأنتم تقدمون الوصية قبل الدين . فإن قيل : فما ؟ قلنا ; في ذلك خمسة أوجه : الحكمة في تقديم ذكر الوصية على ذكر الدين ، والدين مقدم عليها
الأول : أن " أو " لا توجب ترتيبا ، إنما توجب تفصيلا ، فكأنه قال : من بعد أحدهما أو من بعدهما ، ولو ذكرهما بحرف الواو لأوهم الجمع والتشريك ; فكان ذكرهما بحرف " أو " المقتضي التفصيل أولى .
الثاني : أنه قدم الوصية ; لأن تسببها من قبل نفسه ، والدين ثابت مؤدى ذكره أم لم يذكره .
الثالث : أن وجود الوصية أكثر من وجود الدين ; فقدم في الذكر ما يقع غالبا في الوجود .
الرابع : أنه ذكر الوصية ، لأنه أمر مشكل ، هل يقصد ذلك ويلزم امتثاله أم لا ؟ لأن الدين كان ابتداء تاما مشهورا أنه لا بد منه ، فقدم المشكل ; لأنه أهم في البيان .
الخامس : أن الوصية كانت مشروعة ثم نسخت في بعض الصور ، فلما ضعفها النسخ قويت بتقديم الذكر ; وذكرهما معا كان يقتضي أن تتعلق الوصية بجميع المال تعلق الدين . لكن الوصية خصصت ببعض المال ; لأنها لو جازت في جميع المال لاستغرقته ولم [ ص: 446 ] يوجد ميراث ; فخصصها الشرع ببعض المال ; بخلاف الدين ، فإنه أمر ينشئه بمقاصد صحيحة في الصحة والمرض ، بينة المناحي في كل حال ; يعم تعلقها بالمال كله . ولما قام الدليل وظهر المعنى في تخصيص الوصية ببعض المال قدرت ذلك الشريعة بالثلث ، وبينت المعنى المشار إليه على لسان النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ; { سعد للنبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله ، لي مال ولا يرثني إلا ابنة لي ، أفأتصدق بثلثي مالي الحديث ، إلى أن قال له النبي صلى الله عليه وسلم : الثلث والثلث كثير ، إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس سعد } . فظهرت المسألة قولا ومعنى وتبينت حكمة وحكما . قال