يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل
السائلون: هم المؤمنون، والمعنى: يسألونك: ما هي الوجوه التي ينفقون فيها؟ [ ص: 518 ] وأين يضعون ما لزم إنفاقه؟ و "ما" يصح أن تكون في موضع رفع على الابتداء و "ذا" خبرها، فهي بمعنى الذي، و"ينفقون" صلة، وفيه عائد على "ذا" تقديره: ينفقونه. ويصح أن تكون "ماذا" اسما واحدا مركبا في موضع نصب بـ "ينفقون" فيعرى من الضمير، ومتى كانت اسما مركبا فهي في موضع نصب، لا ما جاء من قول الشاعر:
وماذا عسى الواشون أن يتحدثوا سوى أن يقولوا: إنني لك عاشق
فإن عسى لا تعمل فيما قبلها، فـ "ماذا" في موضع رفع، وهو مركب إذ لا صلة لـ "ذا".
قال قوم: هذه الآية في الزكاة المفروضة، وعلى هذا نسخ منها الوالدان ومن جرى مجراهما من الأقربين.
وقال : نزلت هذه الآية قبل فرض الزكاة، ثم نسختها الزكاة المفروضة. السدي
ووهم المهدوي على في هذا فنسب إليه أنه قال: إن الآية في الزكاة المفروضة ثم نسخ منها الوالدان. السدي
وقال ، وغيره: هي ندب، والزكاة غير هذا الإنفاق، فعلى هذا لا نسخ فيها. ابن جريج
واليتم: فقد الأب قبل البلوغ، وتقدم القول في المسكين و"ابن السبيل".
وما تفعلوا جزم بالشرط، والجواب في الفاء. وقرأ رضي الله عنه: "يفعلوا" بالياء على ذكر الغائب، وظاهر الآية الخبر، وهي تتضمن الوعد بالمجازاة. علي بن أبي طالب
[ ص: 519 ] و"كتب" معناه: فرض، وقد تقدم مثله، وهذا هو فرض الجهاد. وقرأ قوم: "كتب عليكم القتل". وقال : فرض القتال على أعيان أصحاب عطاء بن أبي رباح محمد ، فلما استقر الشرع وقيم به، صار على الكفاية. وقال جمهور الأمة: أول فرضه إنما كان على الكفاية دون تعيين.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
واستمر الإجماع على أن محمد فرض كفاية، فإذا قام به من قام من المسلمين سقط عن الباقين، إلا أن ينزل العدو بساحة للإسلام فهو حينئذ فرض عين. الجهاد على أمة
وذكر المهدوي ، وغيره عن أنه قال: الجهاد تطوع، وهذه العبارة عندي إنما هي على سؤال السائل، وقد قيم بالجهاد فقيل له: ذلك تطوع. الثوري
والـ"كره" بضم الكاف: الاسم، وفتحها المصدر، وقال قوم: "الكره" بفتح الكاف ما أكره المرء عليه، و "الكره" ما كرهه هو.
وقال قوم: هما بمعنى واحد.
وقوله تعالى: وعسى أن تكرهوا شيئا الآية. قال قوم عسى من الله [ ص: 520 ] واجبة، والمعنى: عسى أن تكرهوا ما في الجهاد من المشقة وهو خير لكم في أنكم تغلبون وتظهرون وتغنمون وتؤجرون، ومن مات، مات شهيدا، وعسى أن تحبوا الدعة وترك القتال وهو شر لكم في أنكم تغلبون وتذلون ويذهب أمركم.
وفي قوله تعالى: والله يعلم الآية قوة أمر.
وقوله تعالى: يسألونك عن الشهر الحرام الآية، نزل في قصة عمرو بن الحضرمي ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية عليها عبد الله بن جحش الأسدي ، مقدمه من بدر الأولى، فلقوا عمرو بن الحضرمي ومعه عثمان بن عبد الله بن المغيرة ، وأخوه نوفل المخزوميان، والحكم بن كيسان ، في آخر يوم من رجب، على ما ذكر ، وفي آخر يوم من جمادى الآخرة على ما ذكره ابن إسحاق عن الطبري وغيره، والأول أشهر. على أن السدي قد ورد عنه أن ذاك كان في أول ليلة من رجب، والمسلمون يظنونها من جمادى، وأن القتل في الشهر الحرام لم يقصدوه، وأما على قول ابن عباس فإنهم قالوا: إن تركناهم اليوم دخلوا ابن إسحاق الحرم ، فأزمعوا قتالهم، فرمى واقد بن عبد الله عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله، وأسر عثمان بن عبد الله [ ص: 521 ] والحكم ، وفر نوفل فأعجزهم واستسهل المسلمون هذا في الشهر الحرام خوف فوتهم، فقالت قريش : محمد قد استحل الأشهر الحرم، وعيروا بذلك، وتوقف النبي صلى الله عليه وسلم. وقال: ما أمرتكم بقتال في الأشهر الحرم ، فنزلت هذه الآية.
وذكر المهدوي أن سبب هذه الآية; أن عمرو بن أمية الضمري قتل رجلين من بني كلاب في رجب فنزلت، وهذا تخليط من المهدوي . وصاحبا عمرو كان عندهما عهد من النبي صلى الله عليه وسلم، وكان عمرو قد أفلت من قصة بئر معونة ، وذكر الصاحب بن عباد في رسالته المعروفة بالأسدية: أن عبد الله بن جحش سمي أمير المؤمنين في ذلك الوقت لكونه مؤمرا على جماعة من المؤمنين.
وقتال بدل عند ، وهو بدل الاشتمال. وقال سيبويه : هو خفض بتقدير عن. وقال الفراء : هو خفض على الجوار. وقوله هذا خطأ، وفي مصحف أبو عبيدة : "يسألونك عن الشهر الحرام عن قتال فيه" بتكرير "عن" وكذلك قرأها عبد الله بن مسعود ، الربيع . وقرأ والأعمش : "عن الشهر الحرام قتل فيه قل قتل" دون ألف فيهما. عكرمة
[ ص: 522 ] و"الشهر" في الآية اسم الجنس، وكانت العرب قد جعل الله لها الشهر الحرام قواما، تعتدل عنده، فكانت لا تسفك دما، ولا تغير في الأشهر الحرم، وهي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب.
وروى جابر بن عبد الله ، فذلك قوله تعالى: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يغزو فيها إلا أن يغزى قل قتال فيه كبير ، و"صد" مبتدأ مقطوع مما قبله، والخبر "أكبر"، و"المسجد" معطوف على "سبيل الله"، وهذا هو الصحيح.
وقال : "صد" عطف على "كبير" وذلك خطأ لأن المعنى يسوق إلى أن قوله: "وكفر به" عطف أيضا على "كبير"، ويجيء من ذلك أن إخراج أهل المسجد منه أكبر من الكفر عند الله، وهذا بين فساده. الفراء
ومعنى الآية على قول الجمهور; إنكم يا كفار قريش تستعظمون علينا القتال في الشهر الحرام، وما تفعلون أنتم من الصد عن سبيل الله لمن أراد الإسلام، ومن كفركم بالله وإخراجكم أهل المسجد منه -كما فعلوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه- أكبر جرما عند الله.
وقال ، الزهري ، وغيرهما قوله: ومجاهد قل قتال فيه كبير منسوخ بقوله وقاتلوا المشركين كافة وبقوله: فاقتلوا المشركين وقال : لم تنسخ، ولا ينبغي عطاء وهذا ضعيف. القتال في الأشهر الحرم،
[ ص: 523 ] وقوله تعالى والفتنة أكبر من القتل المعنى عند جمهور المفسرين: والفتنة التي كنتم تفتنون المسلمين عن دينهم حتى يهلكوا أشد اجتراما من قتلكم في الشهر الحرام. وقيل: المعنى: والفتنة أشد من أن لو قتلوا ذلك المفتون، أي: فعلكم على كل إنسان أشد من فعلنا. وقال وغيره: "الفتنة" هنا: الكفر، أي كفركم أشد من قتلنا أولئك. مجاهد