تفسير سورة الأنفال
هي مدنية كلها، كذا قال أكثر الناس، وقال : هي مدنية غير آية واحدة وهي قوله تعالى: مقاتل وإذ يمكر بك الذين كفروا الآية كلها، وهذه الآية نزلت في قصة وقعت بمكة، ويمكن أن تنزل الآية في ذلك بالمدينة، ولا خلاف في هذه السورة أنها نزلت في يوم بدر وأمر غنائمه.
قوله عز وجل:
يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين
النفل والنفل والنافلة في كلام العرب: الزيادة على الواجب، وسميت الغنيمة نفلا لأنها زيادة على القيام بالجهاد وحماية الدين والدعاء إلى الله عز وجل، ومنه قول لبيد :
إن تقوى ربنا خير نفل ... .................
أي خير غنيمة، وقول عنترة:
إنا إذا احمر الوغى نروي القنا ... ونعف عند مقاسم الأنفال
[ ص: 127 ] والسؤال في كلام العرب يجيء لاقتضاء معنى في نفس المسؤول، وقد يجيء لاقتضاء مال أو نحوه، والأكثر في هذه الآية أن السؤال إنما هو عن حكم الأنفال فهو من الضرب الأول، وقالت فرقة: إنما سألوه الأنفال نفسها أن يعطيهم إياها، واحتجوا في ذلك بقراءة ، سعد بن أبي وقاص ، وعبد الله بن مسعود ، وعلي بن الحسين وأبي جعفر محمد بن علي، ، وزيد بن علي وجعفر بن محمد، ، وطلحة بن مصرف ، وعكرمة ، والضحاك : ( يسألونك الأنفال ) ، وقالوا في قراءة من قرأ "عن" أنها بمعنى (من) ، فهذا الضرب الثاني من السؤال. وعطاء
واختلف الناس في المراد بالأنفال في هذه الآية، فقال ، ابن عباس ، وعكرمة ، ومجاهد ، والضحاك ، وقتادة ، وعطاء : هي الغنائم مجملة، قالوا وذلك أن سبب الآية ما جرى يوم وابن زيد بدر، وهو أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم افترقوا يوم بدر ثلاث فرق: فرقة أقامت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش الذي صنع له وحمته وآنسته، وفرقة أحاطت بعسكر العدو وأسلابهم لما انكشفوا، وفرقة اتبعوا العدو فقتلوا وأسروا. وقال رضي الله عنه في كتاب ابن عباس : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حرض الناس قبل ذلك فقال: الطبري فسارع الشبان وبقي الشيوخ عند الرايات، فلما انجلت الحرب واجتمع الناس رأت كل فرقة الفضل لنفسها، وقالت: نحن أولى بالمغنم، وساءت أخلاقهم في ذلك، فنزلت الآية بأن الغنائم لله وللرسول فكفوا، فقسمه حينئذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على السواء. "من قتل قتيلا أو أسر أسيرا فله كذا وله كذا"،
وأسند وغيره الطبري قال: سألت أبي أمامة الباهلي عن [ ص: 128 ] الأنفال، فقال: فينا - أهل بدر - نزلت حين اختلفنا وساءت أخلاقنا، فنزعه الله من أيدينا فجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقسمه عليه الصلاة السلام عن بواء. عبادة بن الصامت عن
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
يريد عن سواء، فكان في ذلك تقوى الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وصلاح ذات البين.
مما جرى أيضا يوم بدر فقيل إنه سبب ما أسنده الطبري ، قال: لما كان يوم سعد بن أبي وقاص بدر قتل أخي عمير، وقتلت سعيد بن العاص وأخذت سيفه، وكان يسمى ذا الكثيفة، فجئت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، هذا السيف قد شفى الله به من المشركين فأعطنيه، فقال: "ليس هذا لي ولا لك فاطرحه في القبض" فطرحته، فرجعت وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي وأخذ سلبي، قال: فما جاوزت إلا قليلا حتى نزلت عليه سورة الأنفال، فقال: "اذهب فخذ سيفك فإنك سألتني السيف وليس لي، وإنه قد صار لي فهو لك". عن
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وفي بعض طرق هذا الحديث، قال سعد : فقلت لما قال لي: "فضعه في القبض": إني أخاف أن تعطيه من لم يبل بلائي، قال: فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفي، قال: فقلت: أخاف أن يكون نزل في شيء، فقال: "إن السيف قد صار لي" فأعطانيه، ونزلت: يسألونك عن الأنفال . وأسند أيضا الطبري أبي أسيد مالك بن ربيعة قال: [ ص: 129 ] أصبت سيف ابن عائد يوم بدر، وكان يسمى المرزبان، فلما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يردوا ما في أيديهم من النفل أقبلت به، فألقيته في النفل، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمنع شيئا يسأله، فرآه الأرقم المخزومي فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه إياه. عن
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
فيجيء من مجموع هذه الآثار أن نفوس أهل بدر تنافرت، ووقع فيها ما يقع في نفوس البشر من إرادة الأثرة، لا سيما من أبلى، فأنزل الله عز وجل الآية فرضي المسلمون وسلموا، فأصلح الله ذات بينهم ورد عليهم غنائمهم، وقال بعض أهل هذا التأويل " عكرمة ": كان هذا الحكم من الله لرفع الشغب، ثم نسخ بقوله تعالى: ومجاهد واعلموا أنما غنمتم من شيء الآية. وقال : لم يقع في الآية نسخ، وإنما أخبر أن الغنائم لله من حيث هي ملكه ورزقه، وللرسول من حيث هو مبين بها أحكام الله والصادع بها ليقع التسليم فيها من الناس، وحكم القسمة نازل خلال ذلك، ولا شك في أن الغنائم وغيرها والدنيا بأسرها هي لله وللرسول. ابن زيد
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وقال أيضا: الأنفال في الآية: ما يعطيه الإمام لمن رآه من سيف أو فرس أو نحوه، وهذا أيضا يحسن مع الآية ومع ما ذكرناه من آثار يوم ابن عباس بدر. وقال علي بن صالح بن حي، فيما حكى والحسن المهدوي: الأنفال في الآية: ما تجيء به السرايا خاصة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا القول بعيد عن الآية غير ملتئم مع الأسباب المذكورة، بل يجيء خارجا عن يوم بدر، وقال : الأنفال في الآية: الخمس، قال مجاهد المهاجرون: لم يخرج منا هذا الخمس، فقال الله تعالى: هو لله وللرسول، وهذا أيضا قول قليل التناسب مع الآية. [ ص: 130 ] وقال ، ابن عباس أيضا: الأنفال في الآية: ما شد من أموال المشركين إلى المسلمين كالفرس العائر والعبد الآبق، وهو للنبي صلى الله عليه وسلم يصنع فيه ما شاء، وقال وعطاء أيضا: الأنفال في الآية: ما أصيب من أموال المشركين بعد قسمة الغنيمة هو لله ورسوله. ابن عباس
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذان القولان لا تخرج بهما الآية عن الأسباب التي رويت في يوم بدر، ولا تختص الآية بيوم بدر على هذا، وكأن هاتين المقالتين إنما هي فيما ناله الجيش دون قتال وبعد تمام الحرب وارتفاع الخوف، وأولى هذه الأقوال وأوضحها القول الأول الذي تظاهرت الروايات بأسبابه، وناسبه الوقت الذي نزلت الآية فيه، وحكى عن النقاش أنه قال: الأنفال: الأسارى. الشعبي
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا إنما هو على جهة المثال فيعني كل ما يغنم.
ويحسن في تفسير هذه الآية أن نذكر شيئا من اختلاف العلماء في وما يجوز من ذلك وما يمتنع، وما لهم في السلب من الاختلاف، فقالت فرقة: لا نفل بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الجمهور: النفل باق إلى يوم القيامة، ينفل إمام الجيش ما رآه لمن رآه لكن بحسب الاجتهاد والمصلحة للمسلمين ليحض الناس على النجدة، وينشطهم إلى مكافحة العدو والاجتهاد في الحرب، ثم اختلفوا، فقال تنفيل الإمام لمن رآه من أهل النجدة والغناء، ابن القاسم عن في "المدونة": إنما ينفل الإمام من الخمس لا من جملة الغنيمة، وينفل في أول المغنم وفي آخره بحسب اجتهاده، وقالت فرقة: إنما ينفل الإمام قبل القتال، وأما إذا جمعت الغنائم فلا نفل. مالك
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا إنما يكون -على هذا القول- بأن يقول الإمام: من قتل قتيلا فله كذا وكذا، [ ص: 131 ] أو يقول لسرية: إن وصلتم إلى موضع كذا فلكم كذا، وقال الشافعي : لا نفل إلا بعد الغنيمة قبل التخميس. وقال وابن حنبل : ينفل الإمام متى شاء قبل التخميس. وقال إبراهيم النخعي ، أنس بن مالك ورجاء بن حيوة، ، ومكحول والقاسم ، وجماعة منهم ، الأوزاعي ، وأحمد وإسحاق، وعدي بن عدي : لا نفل إلا بعد إخراج الخمس، ثم ينفل الإمام من أربعة الأخماس، ثم يقسم الباقي بين الناس. وقال : إنما ينفل الإمام من خمس الخمس، وقال ابن المسيب رحمه الله: لا يجوز أن يقول الأمير: من هدم كذا من الحصن فله كذا، ومن بلغ إلى كذا فله كذا، ولا أحب لأحد أن يسفك دما على مثل هذا. قال مالك فإن نزل ذلك لزمه فإنه مبايعة. وقال سحنون: رحمه الله: لا يجوز أن يقول الإمام لسرية: ما أخذتم فلكم ثلثه، قال مالك يريد ابتداء، فإن نزل مضى ولهم أنصباؤهم في الباقي. وقال سحنون: إذا قال الإمام لسرية: ما أخذتم فلا خمس عليكم فيه، فهذا لا يجوز، فإن نزل رددته لأن هذا حكم شاذ لا يجوز ولا يمضى، ويستحب -على مذهب سحنون: - إن نفل الإمام أن ينفل ما يظهر كالعمامة والفرس والسيف، وقد منع بعض العلماء أن ينفل الإمام ذهبا أو فضة أو لؤلؤا أو نحو هذا. وقال بعضهم:النفل جائز من كل شيء. مالك
وأما السلب فقال رحمه الله: الأسلاب من المغنم تقسم على جميع الجيش إلا أن يشرط الإمام، وقاله غيره. وقال مالك ، الليث ، والأوزاعي ، والشافعي ، وأحمد ، وأبو ثور وأبو عبيد ، : السلب حق للقاتل بحكم النبي صلى الله عليه وسلم، قال وابن المنذر ، الشافعي ، وأحمد وأبو عبيد ، : قاله الإمام أو لم يقله، وقال وابن المنذر : إذا قال الإمام: "من قتل قتيلا فله سلبه" فذلك لازم، ولكنه على قدر اجتهاد الإمام وبسبب الأحوال والضيقات واستصراخ الأنجاد، وقال مالك ، الشافعي : تخرج الأسلاب من الغنيمة ثم تخمس بعد ذلك وتعطى الأسلاب للقتلة، وقال وابن حنبل : إن كان السلب يسيرا فهو للقاتل، وإن كان كثيرا خمس، وفعله إسحاق بن راهويه رضي الله عنه مع عمر بن الخطاب حين بارز البراء بن مالك المرزبان فقتله فكانت قيمة منطقته وسواريه ثلاثين [ ص: 132 ] ألفا، فخمس ذلك، وروي في ذلك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم هو حديث عوف بن مالك في مصنف وقال أبي داود، : السلب مغنم وفيه الخمس. وروي نحوه عن مكحول رضي الله عنه. عمر بن الخطاب
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
يريد: يخمس على القاتل وحده. وقال جمهور الفقهاء: قال أكثرهم: ويجزئ شاهد واحد بحكم حديث لا يعطى القاتل السلب إلا أن يقيم البينة على قتله، أبي قتادة ، وقال : يعطاه بمجرد دعواه. الأوزاعي
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا ضعيف.
وقال : لا يعطى القاتل إلا إذا كان قتيله مقبلا مبارزا مضحيا، وأما من قتل منهزما فلا، وقال الشافعي أبو ثور، صاحب "الأشراف": للقاتل السلب منهزما كان القتيل أو غير منهزم. وابن المنذر
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا أصح لحديث في اتباعه ربيئة الكفار في غزوة حنين وأخذه بخطام بعيره وقتله إياه وهو هارب، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم سلبه، وقال سلمة بن الأكوع : لا يكون السلب للقاتل إلا في المبارزة فقط. ابن حنبل
واختلفوا في السلب. فأما السلاح وكل ما يحتاج للقتال فلا أحفظ فيه خلافا أنه من [ ص: 133 ] السلب، وفرسه إن قاتل عليه وصرع عنه. وقال في الفرس: ليس من السلب ، وكذلك إن كان في هميانه أو منطقته دنانير أو جوهر أو نحو هذا مما يعده فلا أحفظ خلافا أنه ليس من السلب. واختلف فيما يتزين به للحرب ويهول فيها كالتاج والسوارين والأقراط والمناطق المثقلة بالذهب والأحجار، فقال أحمد بن حنبل : ذلك كله من السلب، وقالت فرقة: ليس من السلب، وهذا مروي عن الأوزاعي رحمه الله إلا المنطقة فإنها عنده من السلب. قال سحنون في "الواضحة": والسوارين من السلب، وتردد ابن حبيب هل هذه كلها من السلب أو لا؟ الشافعي
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وإذا قال الإمام: "من قتل قتيلا فله سلبه" فقتل ذمي قتيلا فالمشهور أن لا شيء له، وعلى قول "يرضخ أهل الذمة من الغنيمة" يلزم أن يعطى السلب. وإن قتل الإمام بيده بعد هذه المقالة قتيلا فله سلبه. أشهب:
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وأما الصفي فكان خالصا لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله عز وجل: فاتقوا الله معناها في الكلام: اجعل بينك وبين المحذور وقاية، وقوله: وأصلحوا ذات بينكم تصريح بأنه شجر بينهم اختلاف، ومالت النفوس إلى التشاح، و ( ذات ) -في هذا الموضع- يراد بها نفس الشيء وحقيقته. والذي يفهم من ( بينكم ) هو معنى يعم جميع الوصل والالتحامات والمودات، وذات ذلك هي المأمور بإصلاحها، أي: نفسه وعينه، فحض الله عز وجل على إصلاح تلك الأجزاء، فإذا صلحت تلك حصل إصلاح ما يعمها وهو البين الذي لهم، وقد تستعمل لفظة "الذات" على أنها لزيمة ما تضاف إليه وإن لم تكن عينه ونفسه، [ ص: 134 ] وذلك في قوله تعالى: ( عليم بذات الصدور ) ، و ( ذات الشوكة ) فإنها هاهنا مؤنثة قولهم: "الذئب مغبوط بذي بطنه"، وقول رضي الله عنه: "إنما هو ذو بطن بنت خارجة ". ويحتمل "ذات البين" أن تكون هذه، وقد تقال "الذات" أيضا بمعنى آخر وإن كان يقرب من هذا، وهو قولهم: "فعلت كذا ذات يوم"، ومنه قول الشاعر: أبي بكر الصديق
لا ينبح الكلب فيها غير واحدة ... ذات العشاء ولا تسري أفاعيها
وذكر عن بعضهم أنه قال: الطبري ذات بينكم الحال التي لبينكم، كما "ذات العشاء" الساعة التي فيها العشاء.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
ورجحه ، وهو قول بين الانتقاض. وقال الطبري : البين هاهنا الوصل، ومثله قوله عز وجل: الزجاج لقد تقطع بينكم .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وفي هذا كله نظر. وقوله تعالى: وأطيعوا الله ورسوله لفظ عام، وسببه الأمر بالوقوف عندما ينفذه [ ص: 135 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغنائم، وقوله: إن كنتم مؤمنين أي: كاملي الإيمان، كما تقول لرجل: "إن كنت رجلا فافعل كذا" أي: إن كنت كامل الرجولة، وجواب الشرط في قوله المتقدم ( وأطيعوا ) ، ومذهب أن الجواب محذوف متأخر يدل عليه المتقدم تقديره: إن كنتم مؤمنين أطيعوا، ومذهبه في هذا ألا يتقدم الجواب الشرط. أبي العباس