إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون
"اتقوا" هنا عامة في اتقاء الشرك واتقاء المعاصي بدليل أن اللفظة إنما جاءت في مدح لهم، فلا وجه لقصرها على اتقاء الشرك وحده، وأيضا فالمتقي العائذ قد يمسه طائف من الشيطان إذ ليست العصمة إلا للأنبياء عليهم السلام.
وقرأ ، نافع ، وعاصم ، وابن عامر : "طائف" ، وقرأ وحمزة ، ابن كثير ، وأبو عمرو : " طيف " ، وقرأ والكسائي " طيف " ، واللفظة إما من طاف [ ص: 120 ] يطوف، وإما من طاف يطيف بفتح الياء، وهي ثابتة عن سعيد بن جبير العرب، وأنشد في ذلك: أبو عبيدة
أنى ألم بك الخيال يطيف ... ومطافه لك ذكرة وشعوف
فـ "طائف" اسم فاعل كقائل من قال يقول، وكبائع من باع يبيع، و"طيف" اسم فاعل أيضا كميت من مات، أو كبيع ولين من باع يبيع ولان يلين. وطيف يكون مخففا من طيف كميت من ميت، وإذا قدرنا اللفظة من طاف يطيف فطيف مصدر، وإلى هذا مال ، وجعل الطائف كالخاطر والطيب كالخطرة، وقال أبو علي الفارسي : الطيف اللمم، والطائف ما طاف حول الإنسان. الكسائي
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وكيف هذا وقد قال الأعشى:
وتصبح عن غب السرى وكأنما ... ألم بها من طائف الجن أولق
ومعنى الآية: إذا مسهم غضب وزين الشيطان معه ما لا ينبغي. وقوله: "تذكروا" إشارة إلى الاستعاذة المأمور بها قبل، وإلى ما لله عز وجل من الأوامر والنواهي في النازلة التي يقع تعرض الشيطان فيها. وقرأ : "من الشيطان تأملوا فإذا هم" ، وفي مصحف ابن الزبير : "إذا طاف من الشيطان طائف تأملوا" ، وقال [ ص: 121 ] النبي صلى الله عليه وسلم: أبي بن كعب "إن الغضب جند من جند الجن، أما ترون حمرة العين وانتفاخ العروق؟ فإذا كان ذلك فالأرض الأرض"، وقوله: مبصرون من البصيرة، أي: فإذا هم قد تبينوا الحق ومالوا إليه.
وقوله تعالى: وإخوانهم يمدونهم في الغي الآية، في هذه الضمائر احتمالات، قال : هذه الآية متصلة في المعنى بقوله: الزجاج ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وفي هذا نظر.
وقال الجمهور: إن الآية مقررة في موضعها إلا أن الضمير في قوله: وإخوانهم عائد على الشياطين، والضمير في قوله: يمدونهم عائد على الكفار وهم المراد بالإخوان، والشيطان في الآية قبل هذه للجنس فلذلك عاد عليهم هاهنا ضمير جمع، فالتقدير على هذا التأويل: وإخوان للشياطين يمدونهم الشياطين في الغي، وقال : إن الضميرين في الهاء والميم للكفار. قتادة
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
فتجيء الآية على هذا معادلة للتي قبلها، أي: إن المتقين حالهم كذا وكذا، وهؤلاء الكفار يمدهم إخوانهم من الشياطين ثم لا يقصرون.
وقوله: في الغي يحتمل أن يتعلق بقوله: يمدونهم ، وعليه يترتب التأويل الذي ذكرنا أولا عن الجمهور، ويحتمل أن يتعلق بالإخوان، فعلى هذا يحتمل أن يعود الضميران على الكفار كما ذكرناه عن ، ويحتمل أن يعودا جميعا على الشياطين، ويكون المعنى: وإخوان الشياطين في الغي بخلاف الأخوة في الله يمدون الشياطين، أي: بطاعتهم لهم وقبولهم منهم، ولا يترتب هذا التأويل على أن يتعلق قتادة في [ ص: 122 ] الغي بالإمداد، لأن الإنس لا يغوون الشياطين، والمراد بهذه الآية وصف حالة الكفار مع الشياطين كما وصف حالة المتقين معهم قبل.
وقرأ جميع السبعة غير : "يمدونهم" من مددت، وقرأ نافع وحده: "يمدونهم" بضم الياء من أمددت، فقال نافع وغيره: مد الشيء إذا كانت الزيادة من جنسه، وأمده إذا كانت من شيء آخر. أبو عبيدة
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا غير مطرد، وقال الجمهور: هما بمعنى واحد إلا أن المستعمل في المحبوب "أمد"، فمنه قوله تعالى: أنما نمدهم به من مال وبنين ، وقوله: وأمددناهم بفاكهة وقوله: أتمدونن بمال ، والمستعمل في المكروه "مد"، فمنه قوله تعالى: ويمدهم في طغيانهم ، ومد الشيطان للكفرة في الغي هو التزيين لهم والإغواء المتتابع. فمن قرأ في هذه الآية "يمدونهم" بضم الميم فهو على المنهاج المستعمل، ومن قرأ "يمدونهم" فهو مقيد بقوله: في الغي ، كما يجوز أن تقيد البشارة فتقول: "بشرته بشر"، وقرأ الجحدري: "يمادونهم" .
وقوله تعالى: ثم لا يقصرون عائد على الجميع، أي: هؤلاء لا يقصرون في الطاعة للشياطين والكفر بالله عز وجل، وقرأ جمهور الناس: "يقصرون" من أقصر، وقرأ ، ابن أبي عبلة : "يقصرون" من قصر. وعيسى بن عمر
وقوله تعالى: وإذا لم تأتهم بآية . سببها فيما روي أن الوحي كان يتأخر على [ ص: 123 ] النبي صلى الله عليه وسلم أحيانا، فكان الكفار يقولون: "هلا اجتبيتها"، ومعنى اللفظة في كلام العرب: تخيرتها واصطفيتها، وقال ، ابن عباس ، وقتادة ، ومجاهد ، وغيرهم:المراد بهذه اللفظة: "هلا اخترتها واختلقتها من قبلك ومن عند نفسك". والمعنى: إذ كلامك كله كذلك على ما كانت وابن زيد قريش تزعمه. وقال أيضا ابن عباس : المراد: "هلا تلقيتها من الله وتخيرتها عليه، إذ تزعم أنك نبي وأن منزلتك عنده منزلة الرسالة"، فأمره الله عز وجل أن يجيب بالتسليم لله تعالى، وأن الأمر في الوحي إليه ينزله متى شاء لا معقب لحكمه في ذلك فقال: والضحاك قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي ، ثم أشار بقوله: "هذا" إلى القرآن، ثم وصفه بأنه "بصائر" أي علامات هدى وأنوار تضيء القلوب، وقالت فرقة: المعنى: هذا ذو بصائر، ويصح الكلام دون أن يقدر حذف مضاف لأن المشار إليه بـ"هذا" إنما هو سور وآيات وحكم، وجازت الإشارة إليه بـ"هذا" من حيث اسمه مذكر، وجاز وصفه بـ "بصائر" من حيث هو سور وآيات.
وهدى ورحمة لقوم يؤمنون أي لهؤلاء خاصة. قال : وأما من لا يؤمن فهو عليه عمى عقوبة من الله تعالى. الطبري