والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم
الضمير في قوله: "من دونه" عائد على اسم الله تعالى، وهذا الضمير مصرح بما ذكرناه من ضعف قراءة من قرأ: "إن ولي الله" على أنه جبريل صلى الله عليه وسلم، وهذه الآية أيضا بيان لحال تلك الأصنام وفسادها وعجزها عن نصرة أنفسها فضلا عن غيرها.
وقوله تعالى: وإن تدعوهم الآية، قالت فرقة: المخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته، [ ص: 116 ] والهاء والميم في قوله: "تدعوهم" للكفار، ووصفهم بأنهم لا يسمعون ولا يبصرون إذ لم يتحصل لهم عن النظر والاستماع فائدة ولا حصلوا منه بطائل، قاله السدي . وقال ومجاهد : المراد بالضمير المذكور الأصنام ووصفهم بالنظر كناية عن المحاذاة والمقابلة وما فيها من تخييل النظر كما تقول: دار فلان تنظر إلى دار فلان، ومعنى الآية على هذا تبيين جمودية الأصنام وصغر شأنها، وذهب بعض الطبري المعتزلة إلى الاحتجاج بهذه الآية على أن ولا حجة لهم في الآية لأن النظر في الأصنام مجاز محض. العباد ينظرون إلى ربهم ولا يرونه،
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وإنما تكرر القول في هذا وترددت الآيات فيه لأن أمر الأصنام وتعظيمها كان متمكنا في نفوس العرب في ذلك الزمن ومستوليا على عقولها فأوعب القول في ذلك لطفا من الله تعالى بهم.
وقوله تعالى: خذ العفو الآية، وصية من الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم تعم جميع أمته، وأمر بجميع مكارم الأخلاق، وقال الجمهور في قوله سبحانه: خذ العفو : إن معناه: اقبل من الناس في أخلاقهم وأقوالهم ومعاشرتهم ما أتى عفوا دون تكلف، فالعفو هنا: الفضل والصفو الذي تهيأ دون تحرج، قاله في مصنف عبد الله بن الزبير ، وقاله البخاري مجاهد ، ومنه قول وعروة حاتم الطائي:
خذي العفو مني تستديمي مودتي ... ولا تنطقي في سورتي حين أغضب
وقال رضي الله عنهما، ابن عباس ، والضحاك : هذه الآية في الأموال، [ ص: 117 ] وقيل: هي قبل فرض الزكاة، أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ ما سهل من أموال الناس، و"عفا" أي: فضل وزاد، من قولهم: "عفا النبات والشعر" أي كثر، ثم نزلت الزكاة وحدودها فنسخت هذه الآية، وذكر والسدي عن مكي أن مجاهد خذ العفو معناه: خذ الزكاة المفروضة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا شاذ.
وقوله تعالى: وأمر بالعرف معناه: بكل ما عرفته النفوس مما لا ترده الشريعة، وروي لجبريل: "ما هذا العرف الذي أمر به؟ قال: لا أدري حتى أسأل العالم، فرجع إلى ربه فسأله، ثم جاءه فقال له: يا محمد، هو أن تعطي من حرمك، وتصل من قطعك، وتعفو عمن ظلمك". أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
فهذا نصب غايات: والمراد: فما دون هذا من فعل الخير. وقرأ -فيما ذكر عيسى الثقفي - "بالعرف" بضم الراء، والعرف والعرف بمعنى: المعروف. أبو حاتم
وقوله تعالى: وأعرض عن الجاهلين حكم مترتب محكم مستمر في الناس ما بقوا، هذا قول الجمهور من العلماء، وقال في قوله تعالى: ابن زيد خذ العفو إلى الجاهلين : إنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك مداراة لكفار قريش، ثم نسخ ذلك بآية السيف.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وحديث الحر بن قيس حين أدخل عمه عيينة بن حصن على رضي الله عنه دليل على أنها محكمة مستمرة، لأن عمر الحر احتج بها على رضي الله عنه فقررها ووقف عندها. عمر
[ ص: 118 ] وقوله تعالى: وإما ينزغنك من الشيطان وصية من الله تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم تعم أمته رجلا رجلا، والنزغ: حركة فيها فساد، وقلما تستعمل إلا في فعل الشيطان لأن حركاته مسرعة مفسدة، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يشر أحدكم على أخيه بالسلاح، لا ينزغ الشيطان في يديه".
[ ص: 119 ] فالمعنى في هذه الآية: فإما تلمن بك لمة من الشيطان فاستعذ بالله. ونزع الشيطان عام في الغضب وتحسين المعاصي واكتساب الغوائل وغير ذلك، وفي مصنف عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: الترمذي "إن للملك لمة، وإن للشيطان لمة".
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهاتان اللمتان هي الخواطر من الخير والشر، و"سميع" في هذه الآية يصلح مع الاستعاذة، ويصلح أيضا مع ما يقول فيه الكفار من الأقاويل فيغضبه الشيطان لذلك، و"عليم" كذلك، وبهذه الآية تعلق ابن القاسم في قوله: إن الاستعاذة عند القراءة: "أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم".