وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون
هذه الآية خبر من الله عز وجل أنه ما بعث نبيا في مدينة -وهي القرية- إلا أخذ أهلها المكذبين له بالبأساء وهي المصائب في الأموال والهموم وعوارض الزمن، والضراء وهي المصائب في البدن كالأمراض ونحوها، هذا قول رضي الله عنه وكثير من أهل اللغة، وحكى عن ابن مسعود ما يقتضي أن اللفظتين تتداخلان فتقال كل واحدة على المعنيين، و"لعلهم" ترج بحسب اعتقاد البشر وظنونهم، و"يضرعون" أي ينقادون إلى الإيمان. وهكذا قولهم: "الحمى أضرعتني لك". السدي
ثم قال تعالى أنه بعد إنفاذ الحكم في الأولين بدل للخلق مكان السيئة -وهي البأساء والضراء- الحسنة -وهي السراء والنعمة- وهذا بحسب ما عند الناس، وإلا فقد يجيء الأمر كما قال الشاعر:
قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت ... ويبتلي الله بعض القوم بالنعم
[ ص: 6 ] قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا إنما يصح مع النظر إلى الدار الآخرة والجزاء فيها، والنعمة المطلقة هي التي لا عقوبة فيها، والبلوى المطلقة هي التي لا ثواب عليها.
و حتى عفوا معناه: حتى كثروا، يقال: عفا النبات والريش، يعفو إذا كثر نباته، ومن هذا المعنى قول الشاعر:
ولكنها نعض السيف منها ... بأسوق عافيات الشحم كوم
وعليه قوله صلى الله عليه وسلم: وعفا أيضا في اللغة بمعنى درس وبلى، فقال بعض الناس: هي من الألفاظ التي تستعمل للضدين، وأما قول "أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى"، زهير :
................................ ... على آثار من ذهب العفاء
فيحتمل ثلاثة معان; الدعاء بالدرس، والإخبار به، والدعاء بالنمو والنبات، كما يقال: جادته الديم وسقته العهاد، ولما بدل الله حالهم بالخير لطفا بهم فنموا رأى الخلق بعد ذلك -للكفر الذي هم فيه- أن إصابة الضراء والسراء إنما هي بالاتفاق، وليست بقصد كما يخبر النبي، واعتقدوا أن ما أصابهم من ذلك إنما هو كالاتفاق الذي كان لآبائهم فجعلوه مثالا، أي: قد أصاب هذا آباءنا فلا ينبغي لنا أن ننكره، فأخبر الله تعالى أنه أخذ هذه الطوائف التي هذا معتقدها.
[ ص: 7 ] وقوله: بغتة أي فجأة وأخذة أسف وبطشا للشقاء السابق لهم في قديم علمه. والسراء: السرور والحبرة، وهم لا يشعرون معناه: وهم مكذبون لا يتحسسون لشيء منه ولا يستشعرونه باستدلال وغيره.
وقوله تعالى: ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا الآية. المعنى في هذه الآية أنهم لو كانوا ممن سبق في علم الله أن يكتسبوا الإيمان والطاعات ويتصفوا بالتقى لتبع ذلك من فضل الله ورحمته وإنعامه ما ذكر من بركات المطر والنبات، ولكنهم لما كانوا ممن سبق كفرهم وتكذيبهم تبع ذلك أخذ الله لهم بسوء ما اجترموه، وكل مقدور، والثواب والعقاب متعلق بكسب البشر، وبسببه استندت الأفعال إليهم في قوله: ( آمنوا واتقوا ) وفي ( كذبوا ) . وقرأ الستة من القراء السبعة: "لفتحنا" بخفيف التاء، وهي قراءة الناس، وقرأ وحده، ابن عامر ، وعيسى الثقفي : "لفتحنا" بتشديد التاء، وفتح البركات: إنزالها على الناس، ومنه قوله تعالى: وأبو عبد الرحمن ما يفتح الله للناس من رحمة ، ومنه قالت الصوفية: الفتوح والبركات: النمو والزيادات، و"من السماء" لجهة المطر والريح والشمس، "والأرض" لجهة الإنبات والحفظ لما ينبت، هذا هو الذي يدركه نظر البشر، ولله خدام غير ذلك لا يحصى عددهم، وما في علم الله أكثر.