وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون
هذه آية اعتبار واستدلال؛ وقرأ ؛ نافع : "الرياح"؛ بالجمع؛ "نشرا"؛ بضم النون؛ والشين؛ قال وأبو عمرو : وهي قراءة أبو حاتم الحسن؛ وأبي عبد الرحمن ؛ ؛ واختلف عنهم وأبي رجاء ؛ الأعرج ؛ وأبو جعفر ؛ وعيسى بن عمر وأبو يحيى ؛ وأبو نوفل الأعرابيين؛ وقرأ : "الريح"؛ واحدة؛ "نشرا"؛ بضمها أيضا؛ وقرأ ابن كثير : "الرياح"؛ جمعا؛ "نشرا"؛ بضم النون؛ وسكون الشين؛ قال ابن عامر : ورويت عن أبو حاتم الحسن؛ وأبي عبد الرحمن ؛ ؛ وأبي رجاء ؛ وقتادة ؛ وقرأ وأبي عمرو ؛ حمزة : "الريح"؛ واحدة؛ "نشرا"؛ بفتح النون؛ وسكون الشين؛ قال والكسائي : وهي قراءة أبو حاتم ؛ ابن مسعود ؛ وابن عباس ؛ وزر بن حبيش ؛ وإبراهيم؛ وابن وثاب ؛ وطلحة ؛ والأعمش ومسروق بن الأجدع ؛ وقرأ قراءة ابن جني : "نشرا"؛ بفتح النون؛ والشين؛ وقرأ مسروق : "الرياح"؛ جماعة؛ "بشرا"؛ بالباء المضمومة؛ والشين الساكنة؛ وروي عنه: "بشرا"؛ بضم الباء؛ والشين؛ وقرأ بها عاصم ؛ ابن عباس والسلمي ؛ وابن أبي [ ص: 585 ] عبلة؛ وقرأ محمد بن السميفع؛ وأبو قطيب: "بشرى"؛ على وزن "فعلى"؛ بضم الباء؛ ورويت عن أبي يحيى؛ وأبي نوفل؛ وقرأ : "بشرا"؛ بفتح الباء؛ وسكون الشين؛ قال أبو عبد الرحمن السلمي : ورويت هذه عن الزهراوي . عاصم
ومن جمع "الريح"؛ في هذه الآية؛ فهو أسعد؛ وذلك أن "الرياح"؛ حيث وقعت في القرآن؛ فهي مقترنة بالرحمة؛ كقوله تعالى ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات ؛ وقوله تعالى وأرسلنا الرياح لواقح ؛ وقوله تعالى الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا ؛ وأكثر ذكر "الريح"؛ مفردة إنما هو بقرينة عذاب؛ كقوله - سبحانه وتعالى -: وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم ؛ وقوله: وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية ؛ وقوله - تبارك وتعالى -: بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شيء بأمر ربها ؛ نحا هذا المنحى ؛ يحيى بن يعمر ؛ وأبو عمرو بن العلاء ؛ وفي الحديث وعاصم أن رسول الله - صلى اللـه عليه وسلم - كان إذا هبت الريح يقول: "اللهم اجعلها رياحا؛ ولا تجعلها ريحا".
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: والمعنى في هذا كله بين؛ وذلك أن ريح السقيا والمطر إنما هي منتشرة؛ لينة؛ تجيء من ههنا ومن ههنا؛ وتتفرق؛ فيحسن من حيث هي منفصلة الأجزاء متغايرة المهب يسيرا أن يقال لها: "رياح"؛ وتوصف بالكثرة؛ وأما "ريح الصر والعذاب"؛ فهي عاصفة صرصر؛ جسد واحد؛ شديدة المر؛ مهلكة بقوتها؛ وبما تحمله أحيانا من الصر المحرق؛ فيحسن من حيث هي شديدة الاتصال أن تسمى "ريحا"؛ مفردة؛ وكذلك [ ص: 586 ] أفردت الريح في قوله - تبارك وتعالى -: وجرين بهم بريح طيبة ؛ من حيث جري السفن؛ إنما تجري بريح متصلة؛ كأنها شيء واحد؛ فأفردت لذلك؛ ووصفت بالطيب؛ لإزالة الاشتراك بينها وبين الريح المكروهة؛ وكذلك ريح سليمان - عليه السلام -؛ إنما كانت تجري بأمره؛ أو تعصف في حقوله؛ وهي متصلة؛ وبعد.. فمن قرأ في هذه الآية: "الريح"؛ بالإفراد؛ فإنما يريد به اسم الجنس؛ وأيضا فتقييدها بـ "بشرا"؛ يزيل الاشتراك.
والإرسال في الريح هو بمعنى الإجراء؛ والإطلاق؛ والإسالة؛ ومنه الحديث: والريح تجمع - في القليل -: "أرواح"؛ وفي الكثير: "رياح"؛ لأن العين من "الريح"؛ واو انقلبت في الواحد ياء للكسر الذي قبلها؛ وكذلك في الجمع الكثير؛ وصحت في القليل لأنه لا شيء فيه يوجب الإعلال. "فلرسول الله - صلى اللـه عليه وسلم - أجود بالخير من الريح المرسلة"؛
وأما "نشرا"؛ بضم النون؛ والشين؛ فيحتمل أن يكون جمع "ناشر"؛ على النسب؛ أي "ذات نشر"؛ من "الطي"؛ أو "نشور"؛ من "الحياة"؛ ويحتمل "نشرا"؛ أن يكون جمع "نشور"؛ بفتح النون؛ وضم الشين؛ كـ "رسول"؛ و"رسل"؛ و"صبور"؛ و"صبر"؛ و"شكور" و"شكر"؛ ويحتمل "نشرا"؛ أن يكون كالمفعول بمعنى "منشور"؛ كـ "ركوب"؛ بمعنى "مركوب"؛ ويحتمل أن يكون من أبنية اسم الفاعل؛ لأنها تنشر السحاب؛ وأما مثال الأول في قولنا: "ناشر"؛ و"نشر"؛ فـ "شاهد"؛ و"شهد"؛ و"نازل"؛ و"نزل"؛ كما قال الشاعر:
................... ... أو تنزلون فإنا معشر نزل
[ ص: 587 ] و"قاتل"؛ و"قتل"؛ ومنه قول الأعشى:
.................. ... إنا لأمثالكم يا قومنا قتل
وأما من قرأ: "نشرا"؛ بضم النون؛ وسكون الشين؛ فإنما خفف الشين من قوله: "نشرا"؛ وأما من قرأ: "نشرا"؛ بفتح النون؛ وسكون الشين؛ فهو مصدر في موضع الحال من الريح؛ ويحتمل في المعنى أن يراد به "النشر"؛ الذي هو خلاف الطي؛ وكل بقاء الريح دون هبوب طي؛ ويحتمل أن يكون من "النشر"؛ الذي هو الإحياء؛ كما قال الأعشى:
.................... ... يا عجبا للميت الناشر
وأما من قرأ: "نشرا"؛ بفتح النون؛ والشين - وهي قراءة شاذة -؛ فهو اسم؛ وهو على النسب؛ قال أبو الفتح: أي "ذوات نشر"؛ و"النشر": أن تنتشر الغنم بالليل فترعى؛ فشبه السحاب؛ في انتشاره وعمومه؛ بذلك.
وأما: "بشرا"؛ بضم الباء؛ والشين؛ فجمع "بشير"؛ كـ "نذير"؛ و"نذر"؛ و"بشرا"؛ بسكون الشين؛ مخفف منه؛ و"بشرا"؛ بفتح الباء؛ وسكون الشين؛ مصدر؛ و"بشرى"؛ مصدر أيضا؛ في موضع الحال؛ والرحمة في هذه الآية: المطر؛ و"بين يدي"؛ أي: أمام رحمته؛ وقدامها؛ وهي هنا استعارة؛ وهي حقيقة فيما بين يدي الإنسان من الأجرام.
و"أقلت"؛ معناه: رفعت من الأرض؛ واستقلت بها؛ ومنه "القلة"؛ وكأن المقل يرى ما يرفع قليلا؛ إذا قدر عليه؛ و"ثقالا"؛ معناه: من الماء؛ والعرب تصف السحاب بالثقل والدلح؛ ومنه قول قيس بن الخطيم:
بأحسن منها ولا مزنة ... دلوح تكشف أدجانها
[ ص: 588 ] والريح تسوق السحب من ورائها؛ فهو سوق حقيقة؛ والضمير في "سقناه"؛ عائد على السحاب؛ واستند الفعل إلى ضمير اسم الله تعالى ؛ من حيث هو إنعام؛ وصفة البلد بالموت استعارة بسبب شعثه؛ وجدوبته؛ وتصويح نباته؛ وقرأ ؛ أبو عمرو ؛ وعاصم : "لبلد ميت"؛ بسكون الياء؛ وشدها الباقون؛ والضمير في قوله تعالى والأعمش "فأنزلنا به"؛ يحتمل أن يعود على السحاب؛ أي: منه؛ ويحتمل أن يعود على البلد؛ ويحتمل أن يعود على الماء؛ وهو أظهرها.
وقال : في تفسير هذه الآية: إن الله تعالى يرسل الرياح فتأتي بالسحاب من بين الخافقين؛ طرف السماء والأرض؛ حيث يلتقيان؛ فتخرجه من ثم؛ ثم تنشره؛ فتبسطه في السماء؛ ثم تفتح أبواب السماء؛ فيسيل الماء على السحاب؛ ثم تمطر السحاب بعد ذلك. السدي
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وهذا التفصيل لم يثبت عن النبي - صلى اللـه عليه وسلم.
وقوله - تبارك وتعالى -: كذلك نخرج الموتى ؛ يحتمل مقصدين: أحدهما أن يراد: كهذه القدرة العظيمة في إنزال الماء؛ وإخراج الثمرات به من الأرض المجدبة؛ هي القدرة على إحياء الموتى من الأجداث؛ وهذا مثال لها؛ ويحتمل أن يراد أن هكذا يصنع بالأموات؛ من نزول المطر عليهم؛ حتى يحيوا به؛ فيكون الكلام خبرا؛ لا مثلا؛ وهذا التأويل إنما يستند إلى الحديث الذي ذكره عن الطبري - رضي الله عنه - أبي هريرة "أن الناس إذا ماتوا في النفخة الأولى مطر عليهم مطر من ماء تحت العرش؛ يقال له: "ماء الحيوان"؛ أربعين سنة؛ فينبتون كما ينبت الزرع؛ فإذا كملت أجسادهم نفخ فيهم الروح؛ ثم تلقى عليهم نومة فينامون؛ فإذا نفخ في الصور الثانية قاموا وهم يجدون طعم النوم؛ فيقولون: يا ويلنا؛ من بعثنا من مرقدنا؟ فيناديهم المنادي: هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون .
[ ص: 589 ] وقوله تعالى والبلد الطيب يخرج نباته ؛ آية متممة للمعنى الأول في الآية قبلها؛ معرفة بعادة الله - تبارك وتعالى - في إنبات الأرضين؛ فمن أراد أن يجعلها مثالا لقلب المؤمن؛ وقلب الكافر؛ فذلك كله مرتب؛ لكن ألفاظ الآية لا تقتضي أن المثال قصد به ذلك؛ والتمثيل بذلك حكاه عن الطبري ؛ ابن عباس ومجاهد وقتادة ؛ وقال والسدي النحاس : هو مثال للفهيم؛ وللبليد؛ و"الطيب"؛ هو الجيد التراب؛ الكريم الأرض؛ وخص بإذن ربه مدحا؛ وتشريفا؛ وهذا كما تقول لمن تغض عنه: "أنت كما شاء الله"؛ فهي عبارة تعطي مبالغة في مدح؛ أو ذم؛ ومن هذا قوله - تبارك وتعالى -: فله ما سلف وأمره إلى الله ؛ على بعض التأويلات؛ و"الخبيث"؛ هو السباخ؛ ونحوها من رديء الأرض؛ وقرأ ؛ ابن أبي عبلة وأبو حيوة؛ : "يخرج نباته"؛ بضم الياء؛ وكسر الراء؛ ونصب التاء؛ و"النكد": العسير القليل؛ ومنه قول الشاعر: وعيسى بن عمر
لا تنجز الوعد إن وعدت وإن ... أعطيت أعطيت تافها نكدا
و"نكد الرجل"؛ إذا سأل إلحافا وأخجل؛ ومنه قول الشاعر:
وأعط ما أعطيته طيبا ... لا خير في المنكود والناكد
وقرأ جمهور الناس؛ وجميع السبعة: "نكدا"؛ بفتح النون؛ وكسر الكاف؛ وقرأ : "نكدا"؛ بتخفيف الكاف؛ وفتح النون؛ وقرأ طلحة بن مصرف [ ص: 590 ] "نكدا"؛ بفتح النون؛ والكاف؛ وقال أبو جعفر بن القعقاع: : وهي قراءة أهل الزجاج المدينة.
كذلك نصرف الآيات ؛ أي: هكذا نبين الأمور؛ و"يشكرون"؛ معناه: يؤمنون بآلاء الله تعالى ؛ ويثنون.