قوله - عز وجل -:
وربك الغني ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون
"الغني"؛ صفة ذات لله - عز وجل - لأنه - تبارك وتعالى - لا يفتقر إلى شيء من جهة من الجهات؛ ثم تليت هذه الصفة بقوله تعالى "ذو الرحمة"؛ فأردف الاستغناء بالتفضل؛ وهذا أجمل تناسق؛ ثم عقب بهذه الألفاظ المضمنة الوعيد؛ المحذرة من بطش الله - عز وجل - في التعجيل بذلك؛ وإما مع المهلة؛ ومرور الجديدين؛ فكذلك عادة الله تعالى في الخلق؛ وأما الاستخلاف؛ فكما أوجد الله تعالى هذا العالم الآدمي بالنشأة من ذرية قوم متقدمين؛ أصلهم آدم - عليه السلام.
وقرأت الجماعة: "ذرية"؛ بضم الذال؛ وشد الراء المكسورة؛ وقرأ [ ص: 465 ] بكسر الذال؛ وكذلك في سورة "آل عمران "؛ وحكى زيد بن ثابت عن أبو حاتم أنه قرأ: "ذرية"؛ بفتح الذال؛ وتخفيف الراء المكسورة؛ وحكى عنه أبان بن عثمان أنه قرأ على المنبر: "ذرية"؛ بفتح الذال؛ وسكون الراء؛ على وزن "فعلة"؛ قال: فسألته؛ فقال: أقرأنيها أبو الزناد . زيد بن ثابت
و"من" في قوله تعالى "من ذرية"؛ للتبعيض؛ وذهب إلى أنها بمعنى قولك: "أخذت من ثوبي دينارا"؛ بمعنى: "عنه؛ وعوضه"؛ و"توعدون"؛ مأخوذ من "الوعيد"؛ بقرينة: الطبري وما أنتم بمعجزين ؛ والإشارة إلى هذا الوعيد المتقدم خصوصا؛ وأما أن يكون العموم مطلقا؛ فذلك يتضمن إنفاذ الوعيد؛ والعقائد ترد ذلك؛ و"بمعجزين"؛ معناه: "بناجين هربا"؛ أي: "يعجزون طالبهم".
ثم أمر الله - عز وجل - نبيه - صلى اللـه عليه وسلم - أن يتوعدهم بقوله: "اعملوا"؛ أي: "فسترون عاقبة عملكم الفاسد"؛ وصيغة "افعل"؛ ههنا بمعنى الوعيد والتهديد؛ و على مكانتكم ؛ معناه: على حالكم؛ وطريقتكم؛ وقرأ - رضي الله عنه - عن أبو بكر : "على مكاناتكم"؛ بجمع المكانة؛ في كل القرآن؛ وقرأ الجميع بالإفراد في كل القرآن؛ و"من" يتوجه أن يكون بمعنى "الذي"؛ فتكون في موضع نصب بـ "تعلمون"؛ ويتوجه أن يكون استفهاما في موضع رفع بالابتداء؛ والخبر في قوله تعالى "تكون له"؛ و عاصم عاقبة الدار أي: مآل الآخرة؛ ويحتمل أن يراد مآل الدنيا؛ بالنصر؛ والظهور؛ ففي الآية إعلام بغيب.
ثم جزم الحكم بأنه: لا يفلح الظالمون ؛ أي: ينجح سعيهم؛ وقرأ ؛ حمزة : "من يكون"؛ بالياء؛ ههنا؛ وفي "القصص"؛ على تذكير معنى العاقبة. والكسائي