وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين
قوله تعالى: "وإذ أوحيت"؛ هو من جملة تعديد النعمة على عيسى؛ و"أوحيت"؛ في هذا الموضع إما أن يكون وحي إلهام؛ أو وحي أمر؛ كما قال الشاعر:
.................... ... أوحى لها القرار فاستقرت
وبالجملة فهو إلقاء معنى في خفاء؛ أوصله تعالى إلى نفوسهم كيف شاء.
والرسول - في هذه الآية - عيسى - عليه السلام -؛ وقول الحواريين: "واشهد"؛ يحتمل أن يكون مخاطبة منهم لله تعالى؛ ويحتمل أن يكون لعيسى - عليه السلام -؛ وقد تقدم تفسير لفظة "الحواريين"؛ في "آل عمران ".
وقوله تعالى: إذ قال الحواريون ؛ الآية؛ اعتراض أثناء وصف حال قول الله لعيسى يوم القيامة؛ مضمن الاعتراض إخبار محمد - عليه الصلاة والسلام - وأمته؛ بنازلة الحواريين في المائدة؛ إذ هي مثال نافع لكل أمة مع نبيها؛ يقتدى بمحاسنه؛ ويزدجر عما ينقد منه؛ من طلب الآيات ونحوه.
وقرأ جمهور الناس: "هل يستطيع ربك"؛ بالياء؛ ورفع الباء من "ربك"؛ وهي قراءة السبعة؛ حاشا ؛ وهذا ليس لأنهم شكوا في قدرة الله على هذا الأمر؛ لكنه بمعنى: هل يفعل تعالى هذا؟ وهل تقع منه إجابة له؟ وهذا كما قيل الكسائي لعبد الله بن زيد: [ ص: 299 ] هل تستطيع أن تريني كيف كان رسول الله - صلى اللـه عليه وسلم - يتوضأ؟ فالمعنى: هل يخف عليك؟ وهل تفعله؟ أما إن في اللفظة بشاعة؛ بسببها قال عيسى: اتقوا الله إن كنتم مؤمنين ؛ وبسببها مال فريق من الصحابة؛ وغيرهم؛ إلى غير هذه القراءة؛ فقرأ ؛ علي بن أبي طالب ؛ ومعاذ بن جبل ؛ وابن عباس ؛ وعائشة - رضي الله عنهم أجمعين -: "هل تستطيع ربك"؛ بالتاء؛ ونصب الباء من "ربك"؛ والمعنى: "هل تستطيع أن تسأل ربك؟"؛ قالت وسعيد بن جبير - رضي الله عنها -: "كان الحواريون أعرف بالله من أن يقولوا: هل يستطيع ربك؟". عائشة
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: نزهتهم - رضي الله عنها - عن بشاعة اللفظ؛ وإلا فليس يلزمهم منه جهل بالله تعالى؛ على ما قد تبين آنفا؛ وبمثل هذه القراءة قرأ عائشة ؛ وزاد أنه أدغم اللام في التاء؛ قال الكسائي : وذلك حسن؛ و"أن"؛ في قوله: أبو علي "أن ينزل"؛ على هذه القراءة؛ متعلقة بالمصدر المحذوف؛ الذي هو: "سؤال"؛ و"أن"؛ مفعول به؛ إذ هو في حكم المذكور في اللفظ؛ وإن كان محذوفا منه؛ إذ لا يتم المعنى إلا به.
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وقد يمكن أن يستغنى عن تقدير "سؤال"؛ على أن يكون المعنى: "هل يستطيع أن ينزل ربك بدعائك أو بأثرتك عنده؛ ونحو هذا؟"؛ فيردك المعنى - ولا بد - إلى مقدر يدل عليه ما ذكر من اللفظ.
و"المائدة": "فاعلة"؛ من "ماد"؛ إذا تحرك؛ هذا قول ؛ أو من "ماد"؛ إذا مار؛ وأطعم؛ كما قال الزجاج : رؤبة
تهدى رؤوس المترفين الأنداد ... إلى أمير المؤمنين الممتاد
أي: الذي يستطعم؛ ويمتاد منه. [ ص: 300 ] وقول عيسى - عليه السلام -: اتقوا الله إن كنتم مؤمنين ؛ تقرير لهم؛ كما تقول: "افعل كذا؛ وكذا؛ إن كنت رجلا"؛ ولا خلاف أحفظه في أن الحواريين كانوا مؤمنين؛ وهذا هو ظاهر الآية.
وقال قوم: قال الحواريون هذه المقالة في صدر الأمر؛ قبل علمهم بأنه يبرئ الأكمه؛ والأبرص؛ ويحيي الموتى؛ ويظهر من قوله - عليه السلام -: "اتقوا الله"؛ إنكار لقولهم ذلك؛ وذلك - على قراءة من قرأ: "يستطيع"؛ بالياء من أسفل - متوجه على أمرين: أحدهما بشاعة اللفظ؛ والآخر إنكار طلب الآيات؛ والتعرض إلى سخط الله بها؛ والنبوات ليست مبنية على أن تتعنت؛ وأما على القراءة الأخرى فلم ينكر عليهم إلا الاقتراح وقلة طمأنينتهم إلى ما قد ظهر من آياته؛ فلما خاطبهم - عليه السلام - بهذه المقالة صرحوا بالمذاهب التي حملتهم على طلب المائدة؛ فقالوا: نريد أن نأكل منها؛ فنشرف في العالم.
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: لأن هذا الأكل ليس الغرض منه شبع البطن.
وتطمئن قلوبنا ؛ معناه: "يسكن فكرنا في أمرك بالمعاينة لأمر نازل من السماء بأعيننا؛ "ونعلم" علم الضرورة والمشاهدة أن قد صدقتنا؛ فلا تعترضنا الشبه التي تعرض في علم الاستدلال".
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وبهذا يترجح قول من قال: كان هذا قبل علمهم بآياته؛ ويدل أيضا على ذلك أن وحي الله إليهم: "أن آمنوا"؛ إنما كان في صدر الأمر؛ وعند ذلك قالوا هذه المقالة؛ ثم آمنوا؛ ورأوا الآيات؛ واستمروا؛ وصدوا؛ وهلك من كفر.
وقرأ : "ويعلم"؛ بالياء مضمومة؛ على ما لم يسم فاعله. سعيد بن جبير
وقوله: ونكون عليها من الشاهدين ؛ معناه: "من الشاهدين بهذه الآية؛ الناقلين لها إلى غيرنا؛ الداعين إلى هذا الشرع بسببها".
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وروي أن الذي نحا بهم هذا المنحى من الاقتراح هو أن عيسى - عليه السلام - قال لهم [ ص: 301 ] مرة: "هل لكم في صيام ثلاثين يوما لله؛ ثم إن سألتموه حاجة قضاها؟"؛ فلما صاموها قالوا: يا معلم الخير؛ "إن حق من عمل عملا أن يطعم؛ فهل يستطيع ربك؟"؛ فأرادوا أن تكون المائدة عند ذلك الصوم.