قوله - عز وجل -:
ما على الرسول إلا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها والله غفور حليم قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين
قوله تعالى: ما على الرسول إلا البلاغ ؛ إخبار للمؤمنين؛ فلا يتصور أن يقال: هي آية موادعة؛ منسوخة بآيات القتال؛ بل هذه حال من آمن وشهد شهادة الحق؛ فإنه إذ قد عصم من الرسول ماله ودمه؛ فليس على الرسول في جهته أكثر من التبليغ؛ والله تعالى - بعد ذلك - يعلم ما ينطوي عليه صدره؛ وهو المجازي - بحسب ذلك - ثوابا؛ أو عقابا.
والبلاغ: مصدر من: "بلغ؛ يبلغ"؛ والآية معناها الوعيد للمؤمنين إن انحرفوا؛ ولم يمتثلوا ما بلغ إليهم.
وقوله: قل لا يستوي ؛ الآية؛ لفظ عام في جميع الأمور؛ يتصور في المكاسب؛ وعدد الناس؛ والمعارف؛ من العلوم ونحوها؛ فالخبيث من هذا كله لا يفلح؛ ولا ينجب؛ ولا تحسن له عاقبة؛ والطيب - ولو قل - نافع جميل العاقبة.
وينظر إلى هذه الآية قوله تعالى: والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا ؛ والخبث هو الفساد الباطن في الأشياء؛ حتى يظن بها الصلاح؛ والطيب؛ وهو بخلاف ذلك؛ وهكذا هو الخبث في الإنسان؛ وقد يراد بلفظة "خبيث"؛ في الإنسان؛ فساد نسبه؛ فهذا لفظ يلزم قائله - على هذا القصد - الحد.
وقوله تعالى: فاتقوا الله يا أولي الألباب ؛ تنبيه على لزوم الطيب؛ في المعتقد؛ والعمل؛ وخص أولي الألباب بالذكر لأنهم المتقدمون في ميز هذه الأمور؛ والذين لا [ ص: 270 ] ينبغي لهم إهمالها مع ألبابهم؛ وإدراكهم؛ وكأن الإشارة بهذه الألباب إلى لب التجربة؛ الذي يزيد على لب التكليف؛ بالحنكة؛ والفطنة المستنبطة؛ والنظر البعيد.
وقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء ؛ الآية؛ اختلف الرواة في سببها؛ فقالت فرقة - منهم ؛ وغيره -: نزلت بسبب سؤال أنس بن مالك وذلك عبد الله بن حذافة السهمي؛ عبد الله بن حذافة السهمي؛ وكان يطعن في نسبه؛ فقال: من أبي؟ فقال: "أبوك حذافة ". أن رسول الله - صلى اللـه عليه وسلم - صعد المنبر مغضبا؛ فقال: "لا تسألوني اليوم عن شيء إلا أخبرتكم به"؛ فقام رجل فقال: أين أنا؟ فقال رسول الله - صلى اللـه عليه وسلم -: "في النار"؛ فقام
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وفي الحديث مما لم يذكر : الطبري سالم؛ مولى أبي شيبة"؛ فقام - رضي الله عنه - فجثا على ركبتيه؛ وقال: رضينا بالله ربا؛ وبالإسلام دينا؛ وبمحمد نبيا؛ نعوذ بالله من الفتن؛ وبكى الناس من غضب رسول الله - صلى اللـه عليه وسلم -؛ ونزلت هذه الآية بسبب هذه الأسئلة. عمر بن الخطاب فقام آخر؛ فقال: من أبي؟ فقال: "أبوك
[ ص: 271 ] قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وصعود رسول الله - صلى اللـه عليه وسلم - المنبر مغضبا إنما كان بسبب سؤالات الأعراب؛ والجهال؛ والمنافقين؛ فكان منهم من يقول: أين ناقتي؟ وآخر يقول: ما الذي ألقى في سفري هذا؟ ونحو هذا؛ مما هو جهالة؛ أو استخفاف؛ وتعنيت.
وقال ؛ علي بن أبي طالب ؛ وأبو هريرة الباهلي؛ وأبو أمامة - رضي الله عنهم أجمعين - في لفظهم اختلاف؛ والمعنى واحد -: وابن عباس ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ؛ قال -: فقالوا: يا رسول الله؛ أفي كل عام؟ فسكت؛ فأعادوا؛ قال: "لا؛ ولو قلت: نعم؛ لوجبت"؛ علي - رضي الله عنه وقال خطب رسول الله - صلى اللـه عليه وسلم - الناس؛ فقال: "أيها الناس؛ كتب عليكم الحج"؛ وقرأ عليهم: : فقال أبو هريرة عكاشة بن محصن ؛ وقال مرة: فقال محصن الأسدي؛ وقال غيره: فقام رجل من بني أسد؛ وقال بعضهم: بسبب ذلك. فقام أعرابي فقال: يا رسول الله؛ أفي كل عام؟ فسكت رسول الله - صلى اللـه عليه وسلم -؛ ثم قال: "من السائل؟"؛ فقيل: فلان؛ فقال رسول الله - صلى اللـه عليه وسلم -: "لو قلت: نعم؛ لوجبت؛ ولو وجبت لم تطيقوه؛ ولو تركتموه لهلكتم"؛ فنزلت هذه الآية
ويقوي هذا حديث أن النبي - عليه الصلاة والسلام - قال: سعد بن أبي وقاص "إن أعظم المسلمين على المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته".
وروي عن أنه قال: نزلت الآية بسبب قوم سألوا عن البحيرة؛ والسائبة؛ والوصيلة؛ ونحو هذا من أحكام الجاهلية؛ وقاله ابن عباس . سعيد بن جبير
[ ص: 272 ] قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وروي أنه لما بين الله تعالى في هذه الآيات أمر الكعبة؛ والهدي؛ والقلائد؛ وأعلم أن حرمتها هو الذي جعلها؛ إذ هي أمور نافعة؛ قديمة؛ من لدن عهد إبراهيم - عليه السلام -؛ ذهب ناس من العرب إلى السؤال عن سائر أحكام الجاهلية؛ ليروا هل تلحق بتلك أم لا؛ إذ كانوا قد اعتقدوا الجميع سنة؛ لا يفرقون بين ما هو من عند الله ؛ وما هو من تلقاء الشيطان؛ والمغيرين لدينإبراهيم؛ وإسماعيل - عليهما السلام - كعمرو بن لحي؛ وغيره؛ وفي عمرو بن لحي قال رسول الله - صلى اللـه عليه وسلم -: "رأيته يجر قصبه في النار؛ وكان أول من سيب السوائب".
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: والظاهر من الروايات أن رسول الله - صلى اللـه عليه وسلم - ألحت عليه الأعراب والجهال بأنواع من السؤالات؛ حسبما ذكرناه؛ فزجر الله تعالى عن ذلك بهذه الآية.
و"أشياء": اسم جمع لـ "شيء"؛ أصله عند الخليل؛ : "شيئاء"؛ مثل "فعلاء"؛ قلبت إلى "لفعاء"؛ لثقل اجتماع الهمزتين؛ وقال وسيبويه : "أشياء"؛ وزنها "أفعال"؛ وهو جمع "شيء"؛ وترك الصرف فيه سماع؛ وقال أبو حاتم : لم ينصرف "أشياء"؛ لشبه آخرها بآخر "حمراء"؛ ولكثرة استعمالها؛ والعرب تقول: "أشياوات"؛ كما تقول: "حمراوات"؛ ويلزم على هذا ألا ينصرف " أسماء "؛ لأنهم يقولون: "أسماوات"؛ وقال الكسائي : "أشياء"؛ أصلها "أشيئاء"؛ على وزن "أفعلاء"؛ استثقل اجتماع الهمزتين؛ فأبدلت الأولى ياء؛ لانكسار ما قبلها؛ ثم [ ص: 273 ] حذفت الياء استخفافا؛ ويلزم على هذا أن يكون واحد الأشياء "شيئ"؛ مثل "هين"؛ و"أهوناء". الأخفش
وقرأ جمهور الناس: "إن تبد"؛ بضم التاء؛ وفتح الدال؛ وبناء الفعل للمفعول؛ وقرأ : "إن تبد"؛ بفتح التاء؛ وضم الدال؛ على بناء الفعل للفاعل؛ وقرأ مجاهد : "إن يبد لكم"؛ بالياء من أسفل؛ مفتوحة؛ والدال مضمومة؛ "يسؤكم"؛ بالياء من أسفل؛ أي: "يبده الله لكم". الشعبي
وقوله تعالى: وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم ؛ قال - رضي الله عنهما -: معناه: "لا تسألوا عن أشياء في ضمن الإخبار عنها مساءة لكم؛ إما لتكليف شرعي يلزمكم؛ وإما لخبر يسوء؛ كما قيل للذي قال: أين أنا؟ ولكن إذا نزل القرآن بشيء وابتدأكم ربكم بأمر؛ فحينئذ إن سألتم عن تفصيله وبيانه بين لكم وأبدي". ابن عباس
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: فالضمير في قوله: "عنها"؛ عائد على نوعها؛ لا على الأولى التي نهى عن السؤال عنها.
وقال - رضي الله عنه -: إن الله فرض فرائض؛ فلا تضيعوها؛ ونهى عن أشياء؛ فلا تنتهكوها؛ وحد حدودا؛ فلا تعتدوها؛ وعفا من غير نسيان عن أشياء؛ فلا تبحثوا عنها. أبو ثعلبة الخشني
وكان يقول: "إن الله أحل؛ وحرم؛ فما أحل فاستحلوا؛ وما حرم فاجتنبوا؛ وترك بين ذلك أشياء لم يحلها ولم يحرمها؛ فذلك عفو من الله عفاه"؛ ثم يتلو هذه الآية. عبيد بن عمير
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: ويحتمل قوله تعالى: وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم ؛ أن يكون في معنى [ ص: 274 ] الوعيد؛ كأنه قال: "لا تسألوا؛ وإن سألتم لقيتم عبء ذلك؛ وصعوبته؛ لأنكم تكلفون وتستعجلون علم ما يسوؤكم؛ كالذي قيل له: إنه في النار".
وقوله تعالى: عفا الله عنها ؛ تركها؛ ولم يعرف بها؛ وهذه اللفظة التي هي "عفا"؛ تؤيد أن الأشياء: التي هي في تكليفات الشرع؛ ينظر إلى ذلك قول النبي - عليه الصلاة والسلام -: "إن الله قد عفا لكم عن صدقة الخيل".
"غفور حليم"؛ صفتان تناسبان العفو؛ وترك المباحثة؛ والسماحة في الأمور.
وقرأ عامة الناس: "قد سألها"؛ بفتح السين؛ وقرأ : "قد سالها"؛ بكسر السين؛ والمراد بهذه القراءة الإمالة؛ وذلك على لغة من قال "سلت؛ تسال"؛ وحكي عن العرب: "هما يتساولان"؛ فهذا يعطي أن هذه اللغة هي من الواو؛ لا من الهمزة؛ فالإمالة إنما أريدت؛ وساغ ذلك لانكسار ما قبل اللام في "سلت"؛ كما جاءت الإمالة في "خاف"؛ لمجيء الكسرة في خاء "خفت". إبراهيم النخعي
ومعنى الآية أن هذه السؤالات التي هي تعنيتات؛ وطلب شطط؛ واقتراحات؛ ومباحثات؛ قد سألتها قبلكم الأمم؛ ثم كفروا بها؛ قال : كقوم الطبري صالح في سؤالهم الناقة؛ وكبني إسرائيل في سؤالهم المائدة؛ قال : كسؤال السدي قريش أن يجعل الله لهم الصفا ذهبا.
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وإنما يتجه في قريش مثالا سؤالهم آية؛ فلما شق لهم القمر كفروا؛ وهذا المعنى إنما يقال لمن سأل النبي - عليه الصلاة والسلام -: أين ناقتي؟ وكما قال له الأعرابي: ما في بطن ناقتي هذه؟ فأما من سأله عن الحج: أفي كل عام هو؟ فلا يفسر قوله تعالى: قد سألها قوم ؛ الآية؛ بهذا؛ ولا مثله؛ بل بأن الأمم قديما طلبت التعمق في الدين من أنبيائها؛ ثم لم تف بما كلفت.