قوله - عز وجل -:
إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين
[ ص: 198 ] الخطاب بقوله: إنما وليكم الله ؛ الآية للقوم الذين قيل لهم: لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ؛ و"إنما"؛ في هذه الآية؛ حاصرة؛ يعطي ذلك المعنى؛ و"ولي"؛ اسم جنس؛ وقرأ : "إنما مولاكم الله"؛ وقوله: ابن مسعود والذين آمنوا ؛ أي: ومن آمن من الناس حقيقة لا نفاقا؛ وهم الذين يقيمون الصلاة ؛ المفروضة بجميع شروطها؛ ويؤتون الزكاة ؛ وهي هنا لفظ عام للزكاة المفروضة؛ وللتطوع بالصدقة؛ ولكل أفعال البر؛ إذ هي تنمية للحسنات؛ مطهرة للمرء من دنس الذنوب؛ فالمؤمنون يؤتون من ذلك؛ كل بقدر استطاعته؛ وقرأ : "آمنوا والذين يقيمون"؛ بواو. ابن مسعود
وقوله تعالى: وهم راكعون ؛ جملة معطوفة على جملة؛ ومعناها وصفهم بتكثير الصلاة؛ وخص الركوع بالذكر لكونه من أعظم أركان الصلاة؛ وهو هيئة تواضع؛ فعبر به عن جميع الصلاة؛ كما قال: والركع السجود ؛ وهي عبارة عن المصلين؛ وهذا قول جمهور المفسرين؛ ولكن اتفق أن أعطى صدقة وهو راكع؛ قال علي بن أبي طالب : هذه الآية في جميع المؤمنين؛ ولكن السدي - رضي الله عنه - مر به سائل وهو راكع في المسجد؛ فأعطاه خاتمه؛ وروي في ذلك علي بن أبي طالب أن النبي - صلى اللـه عليه وسلم - خرج من بيته وقد نزلت عليه الآية فوجد مسكينا؛ فقال له: "هل أعطاك أحد شيئا؟"؛ فقال: نعم؛ أعطاني ذلك الرجل الذي يصلي خاتما من فضة؛ وأعطانيه وهو راكع؛ فنظر النبي - صلى اللـه عليه وسلم - فإذا الرجل الذي أشار إليه - رضي الله عنه -؛ فقال النبي - صلى اللـه عليه وسلم -: "الله أكبر"؛ وتلا الآية على الناس. علي بن أبي طالب
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وقال : نزلت الآية في مجاهد ؛ تصدق وهو راكع؛ وفي هذا [ ص: 199 ] القول نظر؛ والصحيح ما قدمناه من تأويل الجمهور؛ وقد قيل علي بن أبي طالب : نزلت هذه الآية في لأبي جعفر فقال: "علي من المؤمنين"؛ والواو - على هذا القول - في قوله: "وهم"؛ واو الحال. علي؛
وقال قوم: نزلت الآية من أولها بسبب ؛ وتبرئه من عبادة بن الصامت بني قينقاع؛ وقال : نزلت بسبب قوم أسلموا من أهل الكتاب؛ فجاؤوا فقالوا: يا رسول الله؛ بيوتنا بعيدة؛ ولا متحدث لنا إلا مسجدك؛ وقد أقسم قومنا ألا يخالطونا؛ ولا يوالونا؛ فنزلت الآية مؤنسة لهم. ابن الكلبي
ثم أخبر تعالى أن وجاءت العبارة عامة؛ من يتول الله ورسوله؛ والمؤمنين؛ فإنه غالب كل من ناوأه؛ فإن حزب الله هم الغالبون ؛ اختصارا لأن المتولي هو من حزب الله ؛ وحزب الله غالب؛ فهذا الذي تولى الله ورسوله والمؤمنين غالب؛ و"ومن"؛ يراد بها الجنس؛ لا مفرد بعينه؛ والحزب: الصاغية؛ والمنتمون إلى صاحب الحزب؛ والمعاونون فيما يحزب؛ ومنه قول - رضي الله عنها - في حمنة - وكانت تحارب في أمر الإفك -: عائشة "فهلكت فيمن هلك".
ثم فوسمهم بوسم يحمل النفوس على تجنبهم؛ وذلك اتخاذهم دين المؤمنين هزوا ولعبا؛ والهزء: السخرية؛ والازدراء؛ ويقرأ: "هزؤا"؛ بضم الزاي والهمز؛ و"هزءا"؛ بسكون الزاي؛ والهمز؛ ويوقف عليه "هزا"؛ بتشديد الزاي المفتوحة؛ و"هزوا"؛ بضم الزاي؛ وتنوين الواو؛ و"هزا"؛ بزاي مفتوحة؛ منونة؛ ثم بين تعالى جنس هؤلاء أنهم من أهل الكتاب؛ اليهود والنصارى. نهى الله تعالى المؤمنين عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء؛
واختلف القراء في إعراب: "والكفار"؛ فقرأ ؛ ابن كثير ؛ ونافع ؛ وابن عامر ؛ وعاصم : "والكفار"؛ نصبا؛ وقرأ وحمزة ؛ أبو عمرو : "والكفار"؛ خفضا؛ وروى والكسائي حسين الجعفي عن النصب؛ قال أبي عمرو : [ ص: 200 ] حجة من قرأ بالخفض حمل الكلام على أقرب العاملين؛ وهي لغة التنزيل. أبو علي
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: ويدخل الكفار؛ على قراءة الخفض؛ فيمن اتخذ دين المؤمنين هزؤا؛ وقد ثبت استهزاء الكفار في قوله: إنا كفيناك المستهزئين ؛ وثبت استهزاء أهل الكتاب في لفظ هذه الآية؛ وثبت استهزاء المنافقين في قولهم لشياطينهم: إنا معكم إنما نحن مستهزئون ؛ ومن قرأ "والكفار"؛ بالنصب؛ حمل على الفعل الذي هو: "لا تتخذوا"؛ ويخرج الكفار من أن يتضمن لفظ هذه الآية استهزاءهم؛ وقرأ : "ومن الكفار"؛ بزيادة "من"؛ فهذه تؤيد قراءة الخفض؛ وكذلك في قراءة أبي بن كعب : "من قبلكم من الذين أشركوا". ابن مسعود
وفرقت الآية بين الكفار؛ وبين الذين أوتوا الكتاب؛ من حيث الغالب في اسم الكفار أن يقع على المشركين بالله إشراك عبادة أوثان؛ لأنهم أبعد شأوا في الكفر؛ وقد قال تعالى: جاهد الكفار والمنافقين ؛ ففرق بينهم؛ إرادة البيان؛ والجميع كفار؛ وكان هذا لأن عباد الأوثان هم كفار من كل جهة؛ وهذه الفرق تلحق بهم في حكم الكفر؛ وتخالفهم في رتب؛ فأهل الكتاب يؤمنون بالله ؛ وببعض الأنبياء؛ والمنافقون يؤمنون بألسنتهم.
ثم أمر تعالى بتقواه؛ ونبه النفوس بقوله: إن كنتم مؤمنين ؛ أي حق مؤمنين.