قوله تعالى :
لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا
المحبة في الشاهد إرادة يقترن بها استحسان وميل اعتقاد؛ فتكون الأفعال الظاهرة من المحب بحسب ذلك؛ والجهر بالسوء من القول لا يكون من الله تعالى فيه شيء من ذلك؛ أما إنه يريد وقوع الواقع منه؛ ولا يحبه هو في نفسه.
والجهر: كشف الشيء؛ ومنه الجهرة في قول الله تعالى : أرنا الله جهرة ؛ ومنه قولهم: "جهرت البئر"؛ إذا حفرت حتى أخرجت ماءها.
واختلف القراء في قوله تعالى : إلا من ظلم ؛ وقراءة جمهور الناس بضم الظاء؛ وكسر اللام؛ وقرأ ابن أبي إسحاق ؛ ؛ وزيد بن أسلم ؛ والضحاك بن مزاحم ؛ وابن عباس ؛ وابن جبير وعطاء بن السائب؛ وعبد الأعلى بن عبد الله بن مسلم بن يسار ؛ ومسلم بن يسار؛ وغيرهم: "إلا من ظلم"؛ بفتح الظاء؛ واللام؛ واختلف المتأولون على القراءة بضم الظاء؛ فقالت فرقة: المعنى: لا يحب الله أن يجهر أحد بالسوء من القول؛ إلا من ظلم؛ فلا يكره له الجهر به؛ ثم اختلفت هذه الفرقة في كيفية الجهر بالسوء؛ وما هو المباح من ذلك؛ فقال هو الرجل يظلم الرجل؛ فلا يدع عليه؛ ولكن ليقل: "اللهم أعني عليه؛ اللهم استخرج لي حقي؛ اللهم حل بيني وبين ما يريد من ظلمي"؛ وقال الحسن: ؛ وغيره: المباح لمن ظلم أن يدعو على من ظلمه؛ وإن صبر فهو أحسن له؛ [ ص: 55 ] وقال ابن عباس ؛ وغيره: هو في الضيف المحول رحله؛ فإنه يجهر للذي لم يكرمه بالسوء من القول؛ فقد رخص له أن يقول فيه؛ وفي هذا نزلت الآية؛ ومقتضاها ذكر الظلم؛ وتبيين الظلامة في ضيافة وغيرها؛ وقال مجاهد ؛ ابن عباس : لا بأس والسدي ويجهر له بالسوء من القول. لمن ظلم أن ينتصر ممن ظلمه بمثل ظلمه؛
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -:
فهذه الأقوال على أربع مراتب: قول دعاء في المدافعة؛ وتلك أقل منازل السوء من القول؛ وقول الحسن؛ ؛ ابن عباس بإطلاق في نوع الدعاء؛ وقول الدعاء على الظالم ؛ ذكر الظلامة والظلم؛ وقول مجاهد ؛ الانتصار بما يوازي الظلامة. السدي
وقال ابن المستنير: "إلا من ظلم"؛ معناه: إلا من أكره على أن يجهر بسوء من القول؛ كفرا أو نحوه؛ فذلك مباح؛ والآية في الإكراه.
واختلف المتأولون على القراءة بفتح الظاء واللام؛ فقال : المعنى: إلا من ظلم في قول؛ أو في فعل؛ فاجهروا له بالسوء من القول؛ في معنى النهي عن فعله؛ والتوبيخ؛ والرد عليه؛ قال: وذلك أنه لما أخبر الله تعالى عن المنافقين أنهم في الدرك الأسفل من النار؛ كان ذلك جهرا بالسوء من القول؛ ثم قال لهم بعد ذلك: ابن زيد ما يفعل الله بعذابكم ؛ الآية؛ على معنى التأنيس؛ والاستدعاء إلى الشكر؛ والإيمان؛ ثم قال للمؤمنين: ولا يحب الله أن يجهر بالسوء من القول إلا لمن ظلم في إقامته على النفاق؛ فإنه يقال له: ألست المنافق الكافر الذي لك في الآخرة الدرك الأسفل؟ ونحو هذا من الأقوال؛ وقال قوم: معنى الكلام: ولا يحب الله أن يجهر أحد بالسوء من القول؛ ثم استثنى استثناء منقطعا؛ تقديره: لكن من ظلم فهو يجهر بالسوء؛ وهو ظالم في ذلك. وإعراب "من" يحتمل في بعض هذه التأويلات النصب؛ ويحتمل الرفع؛ على البدل من "أحد" المقدر؛ و"سميع"؛ "عليم": صفتان لائقتان بالجهر بالسوء؛ وبالظلم أيضا؛ فإنه يعلمه ويجازي عليه.
[ ص: 56 ] ولما ذكر تعالى عذر المظلوم في أن يجهر بالسوء لظالمه؛ أتبع ذلك عرض إبداء الخير وإخفائه؛ والعفو عن السوء وعد عليه بقوله: فإن الله كان عفوا قديرا ؛ وعد إخفاء؛ تقتضيه البلاغة؛ ورغب في العفو؛ إذ ذكر أنها صفته؛ مع القدرة على الانتقام؛ ففي هذه الألفاظ اليسيرة معان كثيرة لمن تأملها.
وقوله تعالى : إن الذين يكفرون بالله ورسله ؛ إلى آخر الآية؛ نزل في اليهود؛ والنصارى؛ لأنهم في كفرهم بمحمد - عليه الصلاة والسلام - كأنهم قد كفروا بجميع الرسل؛ وكفرهم بالرسل كفر بالله؛ وفرقوا بين الله ورسله؛ في أنهم قالوا: نحن نؤمن بالله؛ ولا نؤمن بفلان؛ وفلان؛ من الأنبياء.
وقولهم: نؤمن ببعض ونكفر ببعض ؛ قيل: معناه: من الأنبياء؛ وقيل: هو تصديق بعضهم لمحمد في أنه نبي؛ لكن ليس إلى بني إسرائيل؛ ونحو هذا من تفريقاتهم التي كانت تعنتا وروغانا.
وقوله: بين ذلك ؛ أي: بين الإيمان؛ والإسلام؛ والكفر الصريح المجلح؛ ثم أخبر تعالى عنهم أنهم الكافرون حقا؛ لئلا يظن أحد أن ذلك القدر الذي عندهم من الإيمان ينفعهم؛ وباقي الآية وعيد.