يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا
اختلف المتأولون في معنى قوله تعالى: لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها فقال كانوا في الجاهلية إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته من أهلها، إن شاؤوا تزوجها أحدهم، وإن شاؤوا زوجوها من غيرهم، وإن شاؤوا منعوها الزواج، فنزلت الآية في ذلك، قال ابن عباس: لما توفي أبو أمامة بن سهل بن حنيف: أبو قيس بن الأسلت، أراد ابنه أن يتزوج امرأته، وكان لهم ذلك في الجاهلية، فنزلت الآية في ذلك. ذكر أن اسم ولد النقاش أبي قيس محصن.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
كانت هذه السيرة في الأنصار لازمة، وكانت في قريش مباحة مع التراضي، ألا ترى أن أبا عمرو بن أمية، خلف على امرأة أبيه بعد موته، فولدت من أبي عمرو مسافرا وأبا معيط وكان لها من أمية أبو العيص وغيره، فكان بنو أمية إخوة مسافر وأبي معيط وأعمامهما. وقال بمثل هذا القول الذي حكيت عن ابن عباس: عكرمة والحسن البصري وأبو مجلز، قال نزلت في عكرمة: كبيشة بنت معن الأنصارية، توفي عنها أبو قيس بن الأسلت، وقال كان الابن الأكبر أحق بامرأة أبيه إذا لم يكن ولدها، وقال مجاهد: كان ولي الميت إذا سبق فألقى على امرأة الميت ثوبه، فهو أحق بها، وإن سبقته فذهبت إلى أهلها كانت أحق بنفسها. السدي:
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
والروايات في هذا كثيرة بحسب السير الجاهلية، ولا منفعة في ذكر جميع ذلك، إذ قد أذهبه الله بقوله: لا يحل لكم ، ومعنى الآية على هذا القول: لا يحل لكم أن [ ص: 499 ] تجعلوا النساء كالمال، يورثن عن الرجال الموتى كما يورث المال، والمتلبس بالخطاب أولياء الموتى، وقال بعض المتأولين: معنى الآية: لا يحل لكم عضل النساء اللواتي أنتم أولياء لهن وإمساكهن دون تزويج حتى يمتن فتورث أموالهن.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
فعلى هذا القول فالموروث مالها لا هي، وروي نحو هذا عن وغيره. والمتلبس بالخطاب أولياء النساء وأزواجهن إذا حبسوهن مع سوء العشرة طماعية أن يرثوهن. ابن عباس
وقرأ نافع وأبو عمرو "كرها" بفتح الكاف حيث وقع في النساء وسورة التوبة وفي الأحقاف، وقرأ وابن كثير: حمزة جميع ذلك بضم الكاف، وقرأ والكسائي عاصم في النساء والتوبة بفتح الكاف، وفي الأحقاف في الموضعين بضمها، والكره والكره لغتان كالضعف والضعف، والفقر والفقر، قاله وابن عامر وقال أبو علي. هو بضم الكاف: المشقة وبفتحها: إكراه غير، وقاله الفراء: ابن قتيبة.
واختلف المفسرون في معنى قوله تعالى: ولا تعضلوهن .... الآية; فقال وغيره: هي أيضا في أولئك الأولياء الذين كانوا يرثون المرأة لأنهم كانوا يتزوجونها إذا كانت جميلة، ويمسكونها حتى تموت إذا كانت دميمة، وقال نحوه ابن عباس الحسن وعكرمة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
ويجيء في قوله "آتيتموهن" خلط أي: ما آتاها الرجال قبل، فهي كقوله: فاقتلوا أنفسكم وغير ذلك، وقال أيضا: هي في الأزواج: في ابن عباس وقال مثله الرجل يمسك المرأة ويسيء عشرتها حتى تفتدي منه، فذلك لا يحل له، وقال قتادة، ابن البيلماني: الفصل الأول من الآية هو في أمر الجاهلية، والثاني في العضل هو في أهل الإسلام في حبس الزوجة ضرارا للفدية. وقال معنى الآية: لا ترثوا النساء كفعل الجاهلية، ولا تعضلوهن في الإسلام، وقال نحو هذا القول ابن مسعود: السدي وقال والضحاك، هذه الآية خطاب للأولياء، كالعضل المنهي عنه في سورة البقرة. السدي:
[ ص: 500 ] قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا قلق، إلا أن يكون العضل من ولي وارث، فهو يؤمل موتها، وإن كان غير وارث فبأي شيء يذهب؟ وقال هذا العضل المنهي عنه في هذه الآية هو من سير الجاهلية في ابن زيد: قريش بمكة، إذا لم يتوافق الزوجان طلقها على ألا تتزوج إلا بإذنه، ويشهد عليها بذلك، فإذا خطبت فإن أعطته ورشته وإلا عضل، ففي هذا نزلت الآية.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
والذي أقول: إن العضل في اللغة: الحبس في شدة ومضرة، والمنع من الفرج في ذلك، فمن ذلك قولهم: أعضلت الدجاجة وعضلت إذا صعب عليها وضع البيضة، ومنه أعضل الداء إذا لحج ولم يبرأ، ومنه داء عضال،.ومشى عرف الفقهاء على أن العضل من الأولياء في حبس النساء عن التزويج، وهو في اللغة أعم من هذا حسبما ذكرت، يقع من ولي ومن زوج، وأقوى ما في هذه الأقوال المتقدمة أن المراد الأزواج، ودليل ذلك قوله: إلا أن يأتين بفاحشة ، وإذا أتت بفاحشة فليس للولي حبسها حتى يذهب بمالها إجماعا من الأمة، وإنما ذلك للزوج على ما سنبين بعد إن شاء الله.
وكذلك قوله: وعاشروهن بالمعروف إلى آخر الآية يظهر منه تقوية ما ذكرته، وإن حان ذلك يحتمل أن يكون أمرا منقطعا من الأول يخص به الأزواج. وأما العضل فمنهي عنه كل من يتصور في نازلة عاضلا، ومتى صح في ولي أنه عاضل نظر القاضي في أمر المرأة وزوجها ولم يلتفت، إلا الأب في بناته، فإنه إن كان في أمره إشكال فلا يعترض قولا واحدا، وإن صح عضله ففيه قولان في مذهب أحدهما أنه كسائر الأولياء، يزوج القاضي من شاء التزويج من بناته وطلبه، والقول الآخر إنه لا يعرض له. مالك:
ويحتمل قوله: "ولا تعضلوهن" أن يكون جزما، فتكون الواو عاطفة جملة كلام مقطوعة من الأولى، ويحتمل أن يكون "تعضلوهن" نصبا عطفا على "ترثوا" فتكون الواو مشركة عاطفة فعل على فعل.
[ ص: 501 ] وقرأ "ولا أن تعضلوهن" . فهذه القراءة تقوي احتمال النصب، وأن العضل مما لا يحل بالنص وعلى تأويل الجزم هو نهي معرض لطلب القرائن في التحريم أو الكراهية، واحتمال النصب أقوى. ابن مسعود:
واختلف الناس في معنى الفاحشة هنا فقال هو الزنى، وإذا زنت البكر فإنها تجلد مائة وتنفى سنة، وترد إلى زوجها ما أخذت منه، وقال الحسن بن أبي الحسن: إذا زنت امرأة الرجل فلا بأس أن يضارها ويشق عليها حتى تفتدي منه، وقال أبو قلابة: إذا فعلن ذلك فخذوا مهورهن، وقال السدي: كان هذا الحكم ثم نسخ بالحدود، وهذا قول ضعيف، وقال عطاء الخراساني: رحمه الله: الفاحشة في هذه الآية: البغض والنشوز، وقاله ابن عباس وغيره، قالوا: فإذا نشزت حل له أن يأخذ مالها. الضحاك
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا هو مذهب إلا أني لا أحفظ له نصا في معنى الفاحشة في هذه الآية. وقال قوم: الفاحشة: البذاء باللسان وسوء العشرة قولا وفعلا، وهذا في معنى النشوز. ومن أهل العلم من يجيز أخذ المال من الناشز على جهة الخلع، إلا أنه يرى ألا يتجاوز ما أعطاها، ركونا إلى قوله تعالى: مالك، لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن . وقال وأصحابه وجماعة من أهل العلم: للزوج أن يأخذ من الناشز جميع ما تملك. مالك
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
والزنا أصعب على الزوج من النشوز والأذى، وكل ذلك فاحشة تحل أخذ المال، وقرأ "إلا أن يفحشن، وعاشروهن" . ابن مسعود:
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا خلاف مفرط لمصحف الإمام. وكذلك ذكر عن أبو عمرو ابن عباس وعكرمة وفي هذا نظر. وقرأ وأبي بن كعب، ابن كثير في رواية وعاصم "مبينة" و "آيات مبينات" بفتح الياء فيهما، وقرأ أبي بكر: ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص عن والمفضل "مبينة"، و"مبينات" بكسر الياء فيهما، وقرأ عاصم: نافع "مبينة" بالكسر، و "مبينات" بالفتح، وقرأ وأبو عمرو: "بفاحشة مبينة" بكسر الباء وسكون الياء، من أبان الشيء. وهذه القراءات كلها لغات فصيحة، يقال: بين الشيء وأبان: إذا ظهر، وبان الشيء وبينته. ابن عباس:
[ ص: 502 ] وقوله تعالى: وعاشروهن بالمعروف أمر للجميع، إذ لكل أحد عشرة، زوجا كان أو وليا، ولكن المتلبس في الأغلب بهذا الأمر الأزواج، والعشرة المخالطة والممازجة، ومنه قول طرفة:
فلئن شطت نواها مرة لعلى عهد حبيب معتشر
جعل "الحبيب" جمعا كالخليط والفريق. يقال: عاشره معاشرة، وتعاشر القوم واعتشروا، وأرى اللفظة من أعشار الجزور، لأنها مقاسمة ومخالطة ومخالقة جميلة، وإلى هذا ينظر قول النبي صلى الله عليه وسلم: فأمر الله تعالى الرجال بحسن صحبة النساء، ثم أدب تعالى عباده بقوله: "فإن كرهتموهن" إلى آخر الآية. قال "فاستمتع بها وفيها عوج". الخير الكثير في المرأة الولد، وقال نحوه السدي: ابن عباس.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
ومن فصاحة القرآن العموم الذي في لفظة "شيء" لأنه يطرد هذا النظر في كل ما يكرهه المرء مما يجمل الصبر عليه، فيحسن الصبر، إذ عاقبته إلى خير، إذا أريد به وجه الله.