الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

دعوة الجماهير (مكونات الخطاب ووسائل التسديد)

الدكتور / عبد الله الزبير عبد الرحمن

الفصل الثاني

وسائل تسديد الدعوة الجماهيرية

المبحث الأول: تعددية الوسائل

إن التبلد على وسيلة واحدة أو وسائل محددة مدى زمان الدعوة، والاقتناع بكفايتـها دون سواها، والتمسك بها اعتقـادا في كونها أصلح الوسائل على الدوام لا سبيل إلى اتخاذ غيرها، ولا يجوز عنها حول، مهما طال الأمد، أو تغير الحال، أو صارت في نفسها رتيبة لا تنتج حركة تغيير ولا إصلاح، ولا توصل إلى مقصد أو غاية اتخذت لأجلها; لأمر غاية في الخطورة على مسار الدعوة الناجحة، لما يولد من نتائج ويوصل من حال، ومن ذلك:

1- أنه يربي في الدعاة الرضا بالنفس والعمل، وعدم الشعور بالتقصير الذي يستلزم الإسراع إلى تغيير الحال، والبحث عن وسائل أخرى تقلل من تقصيرهم وتنفي عنهم خبث الشعور بالرضا بالنفس والعمل.

2- أنه يوقف الاجتهاد للابتكار في أساليب العمل، ويفشي الجمود والتقليد للغير بلا داع يتطلبه ولا ضـرورة تقتـضيه، مما يستل روح التجديد والتجدد من جسد الحركة التغييرية. [ ص: 113 ]

3- أنه يجمد المد الدعوي على فئة معينة لا تستوعب غيرها تلك الوسيلة الفذة، فلا يقدر الدعاة استيعاب مجموعات أخرى، ولا يستطيعون الانتشار في أوساط متنوعة، إذ الأبواب الموصلة إليهم موصدة مغلقة، سوى ذاك الباب الواحد الفرد الذي ضاق إلا عن تلك الفئة الأولى.

4- أنه يؤثر في تصور الأمور والأشياء وبالتالي في الحكم عليها; إذ الحكم على الشيء دائما فرع عن تصوره، والجمود على الوسيلة الواحدة أو الوسائل المعينة يوصل بالإصرار على التبلد عليها وعدم التحول عنها أو تطويرها وتكييفها بالحال والبيئة والواقع، يوصل بعد حين إلى قلب وضعها من كونها وسيلة إلى جعلها غاية في ذاتها ومقصدا يتمسك بها لنفسها.

وهذا الذي يقتل العمل ويميته، إذ اختلاط التصورات، وانقلاب الأحكام، يورث تلاشي التمييز بين ماهو وسيلة وبين ماهو غاية، وبين ماهو ثابت وبين ما هو متغير، فيعمل من أجل الوسيلة لإبقائها والمحافظة عليها، ويضيع المقصد من الدعوة في سبيل الوسيلة، ويقضى على الغايات لإبقاء الوسائل، وهكذا تصبح الحركة جمودا تسكن لوسيلة أو وسائل تعيش لها وتجاهد [ ص: 114 ] من أجلها، وتوالي بها وتخاصم عليها، ومن ثم تصبح حركة الدعوة لافتة معروفة بماضيها، لا تأثير لها على الحاضر، ولا أمل لعطاء منها ذا قيمة فيما ينتظر من مستقبل قادم.

لهذا كله، يجب على العاملين للإسلام أن يتواصل اجتهادهم في رفقة جهادهم الدعوي، يصوب الوسائل ويقومها، يستشرف بها مستقبل الدعوة، ويستجلب بها أسباب التمكين، ويستفتح بها مغاليق القلوب والعقول لدى الجماهير من أمتنا وجماهير الأمم، ولا يتحقق ذلك إلا بتعددية الوسائل المتخذة.

ذو القرنين وتعددية الوسائل

لا يشك متدبر أن قصص القرآن للاعتبار، للتخلي أو للتأسي، إذ القرآن يهدي للتي هي أقوم، وما استتباع القصص القرآني لأحوال الأمم ومـواقف الدعـاة من الأنبيـاء والصالحين إلا هـدايـة لـما هي أقوم.

ولقد حكى لنا القرآن الكريم رحلة ذي القرنين في سورة الكهف، ينبه إلى تعددية وسائله بما يتناسب مع كل فئة من الأقوام المذكورة.. في كل مرة، إما لعهد جديد، أو قوم آخرين، أو [ ص: 115 ] بيئة مغايرة، أو حال مختلف، يتخذ وسيلة جديدة، ويتبع سببا آخر لمواجهة الحال أو البيئة أو القوم أو العهد الطارئ، كل ذلك في حكايات إقرار لا إنكار، دعوة لأولي الأبصار للاعتبار والاسترشاد والانتباه، ولا بد من تلاوة هذه الآيات في قراءة اعتبار وتدبر،

حيث يقـول الله تعـالى: ( ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا فأتبع سببا حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة ووجد عندها قوما قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا ثم أتبع سببا حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا كذلك وقد أحطنا بما لديه خبرا ثم أتبع سببا حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا ) (الكهف:83-93) .

وها هو عز وجل يتبعه سببا تلو سبب.. ويجب أن يلاحظ ورود لفظة السبب، فإنها جاءت نكرة للدلالة على التعدد، فالنكرة تتعدد والمعرفة تتحدد، وجاء عاملها بلفظ (أتبع) وفيه [ ص: 116 ] معنى الإتباع بالسبب الثاني وبالسبب الثالث وهكذا -على قراءة الجمهور: عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي - وحتى قراءة أهل المدينة وأبي عمرو (اتبع) [1] لا تنفي تعدد الأسباب التى اتبعها ذو القرنين، ولا يدل على أن المكرر من اتباع السبب هو ذات السبب الأول، بل كلا القراءتين تدلان على تعدد تلك الأسباب التي اتخذها وواجه بها قضايا الدعوة والإصلاح، بل لقد أكد رب العزة في بداية القصة أنه أوتي من كل شيء سببا

حين قال: ( وآتيناه من كل شيء سببا فأتبع سببا ) . فتنويع الوسائل وتعديدها، من فقه الدعوة وسنن المصلحين.

الوسائل.. الأصل فيها الإباحة

ولعل كثيـرا من الدعاة يظنون أنه لا يجوز اتخـاذ أيـة وسيلة ما لم ينص عليها الشرع بالجواز والاعتبار، مهما وجدت وسائل تبلغ المراد وتوصل إلى المطلوب على سداد ورشاد. هذا ظن لم يصادف الصواب، فالأصل في الوسائل أنها على الإباحة، بمعنى: [ ص: 117 ] أنه عند غلبة الظن بأن هذه الوسيلة أو تلك صالحة نافعة، فلا يتردد المتوسل بها حتى يجد من الشرع ما يمنعه من اتخاذها واعتبارها، لأن حكمها في الأصل الإباحة، ولا يحرمها إلا ثلاثة أمور:

الأمر الأول: نص شرعي أو دليل معتبر من الشرع يجزم بتحريمها، وهو في نفسه لا معارض له.

الأمر الثاني: ثبوت فسادها وإفسادها، إما بالقرائن والشواهد وغلبة الظن قبل التوسل بها، أو حين استعملت وتوسل بها أورثت فسادا وضررا.

الأمر الثالث: كونها وسيلة إلى الحرام، فما أدى إلى الحرام فهو حرام، وإن كانت في الأصل مباحة. ومن هذا الأمر كان اعتبار سد الذرائع من أدلة الشرع وقواعده.

لأحد هذه الأمور الثلاثة يمتنع اتخاذ الوسيلة.

والدليل على أن الوسـائـل على الإباحة في الأصل ما لم يـرد ما يمنع منها أمور، أهمها ما يلي:

1- أن الوسائل ليست من قبيل العبادات، إذ العبـادات الأصل فيها التوقيـف حتى يرد الشرع بالإذن، فلم يبـق إلا أن تكـون [ ص: 118 ] مـن العادات أو الأشياء، والأشياء الأصل فيها الإباحة على التحقيق والترجيح [2]

2- أن اللـه تـعـالـى قـال عـن محرمـاتـه: ( وقد فصل لكم ما حرم عليكم ) (الأنعام:119) ،

ولم تكن الوسائل مما فصل الله بالتحريم، فخرجت عما يلحقه التحريم، فثبت كونها مباحا في الأصل.

3- أنه عز وجل نادى في العالمين يتلو عليهم ما حرمه عليهم، تنبيها إلى أن ما لم يتله عليهم فليس من المحرمات، بل من المباحات، ولم نجد فيما تلاه الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتلو عليهم ما حـرم ربـه عليهـم، لـم نجـد ضـمن ما تلي الوسائل، مما يـدل أنها ليست من المحـرمات،

قـال تعالى: ( قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم [ ص: 119 ] وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ) (الأنعام:151) .

4- والله تعالى رغب في اتخاذ كل وسيلة وسبب يقذف الغيظ في نفـوس الـكافـرين ويتـوسـل به إلـى النيل منهم، ولا يمكن أن يرغب رب العـزة ما هو محـرم في الأصـل، مـع التنـبه إلى أنه سبـحـانه لم يحـدد الوسيـلـة، فـدل أن الوسـائـل الأصـل فـيـها الإباحة والإذن،

قال تعـالى: ( ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح ) (التوبة:120) ،

فكل وسيلة تدخل الغيظ في قلوب الكافرين، وكل سبب ينال به من عدو الله، كل ذلك عمل صالح.

5- أن النبي صلى الله عليه وسلم أثبت أنه قد يحق الله الحق وينصره بوسيلة ليست من جنس الحق ولا من ناصريه، كما في حديث البخاري ومسلم الذي أخرجاه في صحيحيهما

( عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: شهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لرجل [ ص: 120 ] ممن يدعي الإسلام: هذا من أهل النار. فلما حضر القتال قاتل الرجل قتالا شديدا فأصابته جراحة، فقيل: يا رسول الله! الذي قلت له إنه من أهل النار; فإنه قد قاتل اليوم قتالا شديدا وقد مات. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إلى النار. قال فكاد بعض الناس أن يرتاب، فبينما هم على ذلك إذ قيل إنه لم يمت ولكن به جراحا شديدا، فلما كان من الليل لم يصبر على الجراح فقتل نفسه، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: الله أكبر أشهد أني عبد الله ورسوله، ثم أمر بلالا فنادى بالناس: إنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، وإن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر ) [3]

فالله تعالى يؤيد الدين وينصره ويحـق الحـق برجـل فاجر، وهو ليس من جنس الحق ولا من أهله، وليس من أهل الدين ولا من ناصريه.

6- والسلف الصالح ما كانوا يبحثون عن حكم الوسائل الموصلة إلى [ ص: 121 ] المقاصد المعتبرة، وما توقفوا فيها، وإنما بادروا إليها، واستعملوها، وأخذوا بها، وهذا مما يؤكد أنهم كانوا يعتبرونها على الإباحة، وإلا فأنى لهم أن يقتحموا باب الوسائل، ويبادروا إليها ويستعملوها، وهي حكمها التحريم؟؟

من ذلك:

أ- جمع القرآن في عهد أبي بكر وفي عهد عثمان رضي الله عنه . وهو وسيلة لحفظ القرآن الكريم على عهد أبي بكر الصديق، لأن سبعين من القراء استشهدوا يوم اليمامة .

ولأنه وسيلة للمحافظة على وحدة الصف المسلم ولنفي الفرقة والاختلاف في القرآن على عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه م أجمعين.

ب- جعل أذانين في عهد عثمان رضي الله عنه ، وكان ذلكم وسيلة لتنبيه المنشغلين بالتجارات عن السعي إلى صلاة الجمعة، ولم يفعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر رضي الله عنه ما.

جـ- توسيع مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وأخذ الأوقاف المجاورة له وضمها [ ص: 122 ] إليه وإبطال الوقـفية فيـها، في عهد عثمان رضي الله عنه ، وفي ذلك توسل إلى جعل المسجد النبوي يسع المصلين حين كثروا واحتاجوا لتوسعته.

د- جمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه الناس على أبي بن كعب رضي الله عنه في صلاة التراويح، وذلك وسيلة.

ولهذا قام نظر الفقهاء في الوسائل بتسامح واسع وتغافر كبير، حتى خرجوا على أساس أصلها المباح جملة قواعد منها مثلا:

- قولهم: يغتفر في الوسائل مالا يغتفر في المقاصد [4]

وذلك أن المقاصد لأنها المقصودة لذاتها، فلا يعرف اعتبارها إلا من طريق الشرع، ولذلك لا يغتفر فيها، أما الوسائل فلأنها على الإباحة جاز فيها المبادرة، ولا يشترط التأكد من جواز كل وسيلة ولا من شرعيتها على خصوصها بالبحث عن دليـلها وسندها، كما لا يشترط انتظار الإذن من الشارع إذ هي من المأذون به شرعا لأن الأصل فيها الإباحة، لذلك يغتفر في الوسائل في حكمها وفي اتخاذها وركوبها. [ ص: 123 ]

- ومن قواعد الفقهاء: الوسائل لها حكم المقاصد ، لأن الوسائل هي الطرق المفضية إلى المقاصد والغايات، فحكمها حكم ما أفضت إليه من تحريم وتحليل، فوسيلة الواجب واجبة، ووسيلة المندوب مستحبة، ووسيلة المكروه مكروهة، ووسيلة المحرم محرمة [5]

ولكن! قد يكون وسيلة المحرم غير محرمة -جائـزة أو مستحبة- إذا أفضت إلى مصلحة راجحة، كالنظر إلى الأجنبية، فإنه محرم لقوله سبحانه وتعالى الآمر:

( قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ) (النور:30) ..

ولكنه ينقلب من التحريم إلى الاستحباب في حق المخطوبة لمصلحة رجاء أن يؤوم ذلك بينهما فيسرعان بالزواج والارتباط الشرعي الصالح المحبوب لدى الشارع.

وهذا ينطبق في كل ما حرم سدا للذريعة، فإنه يباح للمصلحة الراجحة [6] مما يجعل اعتبار الوسائل واسعا ميسورا طالما كانت مفضية وموصلة للمقصد المطلوب والغاية المرادة، ويجعل [ ص: 124 ] الاستفادة منـها أوسع وأقـدر، ويجعل التـوسع فيها غير منـكور ولا محظور، والمبادرة إلى كل وسيلة يقدر فيها تحقيق المصلحة الشرعية بها أمرا أقرب إلى الاستحباب إن لم يكن بحق مستحبا.

التالي السابق


الخدمات العلمية