المبحث الرابع: مقصدية الخطاب
مهما كان الخطاب مسبوكا متقنا -صياغة وسياقا وأسلوبا وعرضا- ثم خلا عن الغاية والمقصد; إلا بشر بسوء العاقبة، واستشرف الفشل، وأوصل إلى السخرية والهزو، وأثمر هباء منبثا كرهج الغبار يسطع ثم يذهب فلا يبقى منه شيء، إذ لا يحمل في نفسه معنى يتطلبه، ولا هدفا يطلقه، ولا غاية يستصدر لها، ولا مقصدا يتوسل به إليه.
لهذا، واجب الدعوة الجماهيرية -وكل دعوة- أن يتقصد الدعاة بخطابهم أهدافا وغايات ومقاصد يعملون لأجلها، ويصيغون خطابهم وخطبهم لبلوغها، ويخططون لتحصيلها.
فإن الله تعالى، لم يكن خلقه، ولا إنزاله الشرائع، ولا تشريعه الفرائض والأحكام، ولا إرساله الرسل عبثا، وإنما كان ذلك كله لحكم ومقاصد وغايات وأهداف. قال سبحانه وتعالى عن خلقه الخلق: ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) (الذاريات:56) .
وقال سبحانه في إرسال الرسل: ( رسلا مبشرين ومنذرين لئلا [ ص: 94 ] يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما ) (النساء:165) .
وقال سبحانه وتعالى في تشريع الأحكام وفرض الفرائض: ( وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ) (العنكبوت:45) ، عن مقصد الصلاة..
وقال الله سبحانه وتعالى في مـقصد الزكاة: ( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم ) (التوبة:103) ..
وقال عـن مقصد فـرض الحـج: ( الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى ) (البقرة:197) .
وعن مقصد الصيام قال عز وجل : ( كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ) (البقرة:183) .
وهكذا إذا استقرأنا القرآن والسنة نجد الشارع الحكيم يعلل كل حكم، وينبه إلى مقاصد الأحكام والشرائع. [ ص: 95 ]
والقرآن يهدي للتي هي أقوم، فدل أن أقوم خطاب وتصرف وعمل هو أن يقوم على أهداف منصوصة، ومقاصد معلومة، وغايات مدروسة.
تحديد الأهداف العامة والمرحلية
فلا بد من تحديد أهداف الدعوة العامة والأساسية، وأهدافها الاستراتيجية، وأهدافها المرحلية، وكذلك أهدافها الخاصة بالفئة أو البلدة والمكان.
وفي ضوء الأهداف الدعوية المحددة يصاغ الخطاب الدعوي، وينطلق على أساس تحقيقها، ويراعى في تحصيلها ترتيب الأولى، وتقدير الأصلح، واعتبار الأمكن والأقدر والأقرب للتحقق والتحصيل في ذلك، مع اتخاذ وسائط التغيير الاجتماعي، والإصرار على الثبات في القيم والمبادئ التي تثبت صالحة نافعة وتبقى هي القيم والمبادئ في كل حال وزمان ومكان وبيئة ووضع.
وعليه، فإن مقصدية الخطاب الدعوي تتطلب ترتيب الأولويات، كلما قطع الناس خطوة، تراشدوا في ترتيب الأولويات للخطوة القادمة، فلا يقطعون واديا ولا يطأون موطئا ولا يدخلون بابا إلا بعد ترتيب ما هو أولى وما هو أولي. [ ص: 96 ]
ترتيب الأولويات
فالداعيـة الفقيه هـو الـذي يرتـب الأولـويـات في دعـوتـه، ولا ينطلق جزافا أو يلقي دعوته بلا مراعاة للأولى ولا تقديم للأهم ولا اعتبار للأصلح.
فترتيب الأولويات حسب الأهمية أصل أصيل في فقه الدعوة إلى الله، ينبغي أن ينطلق منه الخطاب الدعوي لكل داع إلى الله مبشر بالحق; يرتب أمور التبليغ على أولويات يأتي بالأهم ثم المهم، وبالأصلح ثم الصالح، وبالأنفع والأجدى ثم النافع،
وبذلك جاء التنبيه في القرآن العظيم: ( أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى ) (القيامة:34-35)
[1]
والشريعة الإسلامية راعت الأولويات في تشريعها الأحكام، والحكم على الأشياء واستيعاب الأمور والقضايا، والفقهاء باستقرائهم لطريقة الشارع في التشريع عرفوا أن ترتيب الأولويات سنة تشريعية، فبنوا عليها قواعدهم الفقهية، واحتكموا إليها، [ ص: 97 ]
فكان الأحرى بأهل الدعوة اعتباره.
فالشريعة تقدم الفرض على النافلة..
والنص على الاجتهاد..
ودرء المفاسد أولى من جلب المصالح..
والمصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة..
ويدرأ الضرر العام قبل الضرر الخاص..
ويرتكب أخف الضررين وأهون الشرين مخافة ضرر أكبر
وشر أخطر.
وطلب العلم أولى من التنفل عند التعارض..
ومحاربة الشرك الجماعي مقدمة على محاربة الشرك الفردي..
ومعالجة أمر الطواغيت الأحياء مقدمة على أمر الطواغيت
الأموات.. وهكذا...
فمن المشين على أهل الدعوة أن يقيموا الدنيا ولا يقعدوها من أجل مسألة خلافية فرعية قليلة الخطر على الأمة وعلى الإسلام، فيتنازعون لأجلها ويتخاصمون بسببها ويتقاتلون; بينما الأمر كله متعطل، والواجب المقطوع به مهمل، وأهم أبواب الشريعة موصدة، والقطعيات منبوذة، والبينات مجهولة!!! [ ص: 98 ]
وقد يكون من المشين أن تجد خطيب الجمعة ناقدا شاتما منابذا مؤاخذا، يستمرئ الشتم والقذف والتفسيق والتضليل بل والتكفير في مسألة خلافية فرعية، يكيل الشتائم لرموز الدعوة وطوائفها المخالفة له في الرأي والفكر والتقدير; بينما الحاكم الطاغية مقدم الوضيعة على الشريعة يفوز بدعائه، وعدو العقيدة داعي الإلحاد ناصر الكفر معاقر الفجور يتمتع بحبه وصلاته ووده وحسن المعشر!!!
هذا كله خلل في ترتيب الأولويات، والقاعدة الفقهية تقول: لا ينكر المختلف فيه وإنما ينكر المتفق عليه ) .
والقرآن ينبه إلى هذا الخلل في الأولى -فيما مثلنا- حتى لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال جل وعلا: ( عبس وتولى أن جاءه الأعمى وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى أما من استغنى فأنت له تصدى وما عليك ألا يزكى وأما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهى كلا إنها تذكرة ) (عبس:1-11) ..
وما يجمع الأمة خير مما يفرقها، حتى لو لجأ الداعية إلى ترك مستحبات شرعية، بل ينقلب ترك المستحب إلى مستحب لو كان [ ص: 99 ] بغرض تأليف القلوب، وقد نص ابن تيمية رحمه الله القاعدة الفقهية الناطقة بذلك: يستحب ترك المستحب تأليفا للقلوب [2]
وقد يلجأ الداعية لإبقاء الصف وجمع الكلمة وللمحافظة على وحدة الأمة، قد يلجأ لأجل ذلك إلى السكوت فيما يكون الأصل فيه عدم السكوت، يقول الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى في الموافقات في هذا المعنى: إنك تعرض مسألتك على الشريعة، فإن صحت في ميزانها، فانظر إلى مآلها بالنسبة إلى حال الزمان وأهله، فإن لم يؤد ذكرها إلى مفسدة، فاعرضها في ذهنك على العقول، فإن قبلتها فلك أن تتكلم فيها، إما على العموم إن كانت مما تقبلها العقول على العموم، وإما على الخصوص إن كانت غير لائقة بالعموم. وإن لم يكن لمسألتك هذا المساغ، فالسكوت عنها هو الجاري على وفق المصلحة الشرعية والعقلية [3]
والقرآن يحكي موقفا في السكوت عما لا يجوز السكوت [ ص: 100 ] فيـه، وعـما يجب الإنكـار، بـغـرض جـمـع الكلـمة وإبقـاء الصـف وتوحيـد الأمـة من نـبي كريم، يحكي موقفه حكاية إقـرار لا إنكار. فإن هارون عليه السلام لما أخلفه موسى عليه السلام في قومه، ووصاه أن يصلح ولا يتبع سبيل المفسدين، فاتخذ قومه عجلا جسدا لـه خـوار وصـاروا يعبـدونه من دون اللـه، فلما تكـلم كـاد بنـو إسرائـيل أن يتقـاتلوا وتتفرق كلمتهم، عنـدئـذ آثر هـارون السكـوت عن الإنكـار، فلما رجـع مـوسـى وعـلم بفتـنـة القـوم غضـب مـن أخيه النـبي، فأخذ يجـر لحيته ويلـومه ويعـاتـبه ويؤاخذه، فنـرى هـارون يبـرر موقفه الدعوي، يقول كما في القرآن: ( يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي ) (طه:94) .
وهذا هو الحق الذي يجب أن يتبع، وهكذا ترتب الأولويات ويراعى الأصلح للأمة والدين.. [ ص: 101 ]