[ ص: 5 ] فصل
في هديه صلى الله عليه وسلم في الجهاد والمغازي والسرايا والبعوث
لما كان
nindex.php?page=treesubj&link=7862الجهاد ذروة سنام الإسلام وقبته ، ومنازل أهله أعلى المنازل في الجنة ، كما لهم الرفعة في الدنيا ، فهم الأعلون في الدنيا والآخرة ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذروة العليا منه ، واستولى على أنواعه كلها فجاهد في الله حق جهاده بالقلب والجنان والدعوة والبيان والسيف والسنان ، وكانت ساعاته موقوفة على الجهاد بقلبه ولسانه ويده . ولهذا كان أرفع العالمين ذكرا ، وأعظمهم عند الله قدرا .
وأمره الله تعالى بالجهاد من حين بعثه ، وقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=51ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا ) [ الفرقان : 52 ] ، فهذه سورة مكية أمر فيها
nindex.php?page=treesubj&link=27390_7970بجهاد الكفار بالحجة والبيان وتبليغ القرآن ، وكذلك
nindex.php?page=treesubj&link=27390_30569جهاد المنافقين إنما هو بتبليغ الحجة ، وإلا فهم تحت قهر أهل الإسلام ، قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=73ياأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير ) [ التوبة : 73 ] فجهاد المنافقين أصعب من جهاد الكفار ، وهو جهاد خواص الأمة وورثة الرسل ، والقائمون به أفراد في العالم ، والمشاركون فيه والمعاونون عليه وإن كانوا هم الأقلين عددا فهم الأعظمون عند الله قدرا .
ولما كان من
nindex.php?page=treesubj&link=33385أفضل الجهاد قول الحق مع شدة المعارض ، مثل أن تتكلم به عند من تخاف سطوته وأذاه ، كان للرسل - صلوات الله عليهم وسلامه - من ذلك الحظ الأوفر ، وكان لنبينا - صلوات الله وسلامه عليه - من ذلك أكمل الجهاد وأتمه .
ولما كان جهاد أعداء الله في الخارج فرعا على جهاد العبد نفسه في ذات
[ ص: 6 ] الله ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=16001721المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله ، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه ) كان
nindex.php?page=treesubj&link=19688_19691_27390جهاد النفس مقدما على جهاد العدو في الخارج ، وأصلا له ، فإنه ما لم يجاهد نفسه أولا لتفعل ما أمرت به وتترك ما نهيت عنه ويحاربها في الله لم يمكنه جهاد عدوه في الخارج ، فكيف يمكنه جهاد عدوه والانتصاف منه وعدوه الذي بين جنبيه قاهر له متسلط عليه لم يجاهده ولم يحاربه في الله ، بل لا يمكنه الخروج إلى عدوه حتى يجاهد نفسه على الخروج .
فهذان عدوان قد امتحن العبد بجهادهما ، وبينهما عدو ثالث لا يمكنه جهادهما إلا بجهاده ، وهو واقف بينهما يثبط العبد عن جهادهما ، ويخذله ويرجف به ، ولا يزال يخيل له ما في جهادهما من المشاق وترك الحظوظ وفوت اللذات والمشتهيات ، ولا يمكنه أن يجاهد ذينك العدوين إلا بجهاده ، فكان جهاده هو الأصل لجهادهما ، وهو الشيطان ، قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=6nindex.php?page=treesubj&link=28798_28799إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا ) [ فاطر : 6 ] ، والأمر باتخاذه عدوا تنبيه على استفراغ الوسع في محاربته ، ومجاهدته ، كأنه عدو لا يفتر ولا يقصر عن محاربة العبد على عدد الأنفاس .
فهذه ثلاثة أعداء ، أمر العبد بمحاربتها وجهادها ، وقد بلي بمحاربتها في هذه الدار ، وسلطت عليه امتحانا من الله له وابتلاء ، فأعطى الله العبد مددا وعدة وأعوانا وسلاحا لهذا الجهاد ، وأعطى أعداءه مددا وعدة وأعوانا وسلاحا ، وبلا أحد الفريقين بالآخر ، وجعل بعضهم لبعض فتنة ليبلو أخبارهم ، ويمتحن من يتولاه ويتولى رسله ممن يتولى الشيطان وحزبه ، كما قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=20وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا ) [ الفرقان : 20 ] .
[ ص: 7 ] وقال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=47&ayano=4ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض ) [ محمد : 4 ] وقال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=47&ayano=31ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم ) [ محمد : 31 ] فأعطى عباده الأسماع والأبصار والعقول والقوى ، وأنزل عليهم كتبه ، وأرسل إليهم رسله ، وأمدهم بملائكته وقال لهم : (
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=12أني معكم فثبتوا الذين آمنوا ) [ الأنفال : 12 ] ، وأمرهم من أمره بما هو من أعظم العون لهم على حرب عدوهم ، وأخبرهم أنهم إن امتثلوا ما أمرهم به لم يزالوا منصورين على عدوه وعدوهم ، وأنه إن سلطه عليهم فلتركهم بعض ما أمروا به ولمعصيتهم له ، ثم لم يؤيسهم ولم يقنطهم ، بل أمرهم أن يستقبلوا أمرهم ، ويداووا جراحهم ، ويعودوا إلى مناهضة عدوهم ، فينصرهم عليه ، ويظفرهم بهم ، فأخبرهم أنه مع المتقين منهم ، ومع المحسنين ومع الصابرين ومع المؤمنين ، وأنه يدافع عن عباده المؤمنين ما لا يدافعون عن أنفسهم ، بل بدفاعه عنهم انتصروا على عدوهم ، ولولا دفاعه عنهم لتخطفهم عدوهم واجتاحهم .
وهذه المدافعة عنهم بحسب إيمانهم وعلى قدره ، فإن قوي الإيمان قويت المدافعة ، فمن وجد خيرا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه .
وأمرهم أن يجاهدوا فيه حق جهاده ، كما أمرهم أن يتقوه حق تقاته ، وكما أن حق تقاته أن يطاع فلا يعصى ، ويذكر فلا ينسى ، ويشكر فلا يكفر ، فحق جهاده أن يجاهد العبد نفسه ليسلم قلبه ولسانه وجوارحه لله ، فيكون كله لله وبالله لا لنفسه ولا بنفسه ، ويجاهد شيطانه بتكذيب وعده ، ومعصية أمره ، وارتكاب نهيه ، فإنه يعد الأماني ويمني الغرور ، ويعد الفقر ويأمر بالفحشاء ،
[ ص: 8 ] وينهى عن التقى والهدى والعفة والصبر ، وأخلاق الإيمان كلها ، فجاهده بتكذيب وعده ، ومعصية أمره ، فينشأ له من هذين الجهادين قوة وسلطان ، وعدة يجاهد بها أعداء الله في الخارج بقلبه ولسانه ويده وماله ؛ لتكون كلمة الله هي العليا .
واختلفت
nindex.php?page=treesubj&link=7857عبارات السلف في حق الجهاد :
فقال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : هو استفراغ الطاقة فيه ، وألا يخاف في الله لومة لائم . وقال
مقاتل : اعملوا لله حق عمله ، واعبدوه حق عبادته . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16418عبد الله بن المبارك : هو مجاهدة النفس والهوى . ولم يصب من قال : إن الآيتين منسوختان ، لظنه أنهما تضمنتا الأمر بما لا يطاق ، وحق تقاته وحق جهاده : هو ما يطيقه كل عبد في نفسه ، وذلك يختلف باختلاف أحوال المكلفين في القدرة والعجز والعلم والجهل . فحق التقوى وحق الجهاد بالنسبة إلى القادر المتمكن العالم شيء ، وبالنسبة إلى العاجز الجاهل الضعيف شيء ، وتأمل كيف عقب الأمر بذلك بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=78هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ) [ الحج : 78 ] والحرج : الضيق ، بل جعله واسعا يسع كل أحد ، كما جعل رزقه يسع كل حي ، وكلف العبد بما يسعه العبد ، ورزق العبد ما يسع العبد ، فهو يسع تكليفه ويسعه رزقه ، وما جعل على عبده في الدين من حرج بوجه ما ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=16001722بعثت بالحنيفية السمحة ) أي : بالملة ، فهي حنيفية في التوحيد ، سمحة في العمل .
وقد وسع الله سبحانه وتعالى على عباده غاية التوسعة في دينه ورزقه وعفوه ومغفرته ، وبسط عليهم التوبة ما دامت الروح في الجسد ، وفتح لهم بابا لها لا يغلقه عنهم إلى أن تطلع الشمس من مغربها ، وجعل لكل سيئة كفارة تكفرها من توبة أو صدقة أو حسنة ماحية أو مصيبة مكفرة ، وجعل بكل ما حرم عليهم عوضا من الحلال أنفع لهم منه وأطيب وألذ ، فيقوم مقامه ليستغني العبد
[ ص: 9 ] عن الحرام ، ويسعه الحلال فلا يضيق عنه ، وجعل لكل عسر يمتحنهم به يسرا قبله ويسرا بعده ، " فلن يغلب عسر يسرين " ، فإذا كان هذا شأنه سبحانه مع عباده فكيف يكلفهم ما لا يسعهم ، فضلا عما لا يطيقونه ولا يقدرون عليه .
[ ص: 5 ] فَصْلٌ
فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجِهَادِ وَالْمَغَازِي وَالسَّرَايَا وَالْبُعُوثِ
لَمَّا كَانَ
nindex.php?page=treesubj&link=7862الْجِهَادُ ذِرْوَةَ سَنَامِ الْإِسْلَامِ وَقُبَّتَهُ ، وَمَنَازِلُ أَهْلِهِ أَعْلَى الْمَنَازِلِ فِي الْجَنَّةِ ، كَمَا لَهُمُ الرِّفْعَةُ فِي الدُّنْيَا ، فَهُمُ الْأَعْلَوْنَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الذِّرْوَةِ الْعُلْيَا مِنْهُ ، وَاسْتَوْلَى عَلَى أَنْوَاعِهِ كُلِّهَا فَجَاهَدَ فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ بِالْقَلْبِ وَالْجِنَانِ وَالدَّعْوَةِ وَالْبَيَانِ وَالسَّيْفِ وَالسِّنَانِ ، وَكَانَتْ سَاعَاتُهُ مَوْقُوفَةً عَلَى الْجِهَادِ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ وَيَدِهِ . وَلِهَذَا كَانَ أَرْفَعَ الْعَالَمِينَ ذِكْرًا ، وَأَعْظَمَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ قَدْرًا .
وَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْجِهَادِ مِنْ حِينِ بَعْثِهِ ، وَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=51وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا ) [ الْفُرْقَانِ : 52 ] ، فَهَذِهِ سُورَةٌ مَكِّيَّةٌ أَمَرَ فِيهَا
nindex.php?page=treesubj&link=27390_7970بِجِهَادِ الْكُفَّارِ بِالْحُجَّةِ وَالْبَيَانِ وَتَبْلِيغِ الْقُرْآنِ ، وَكَذَلِكَ
nindex.php?page=treesubj&link=27390_30569جِهَادُ الْمُنَافِقِينَ إِنَّمَا هُوَ بِتَبْلِيغِ الْحُجَّةِ ، وَإِلَّا فَهُمْ تَحْتَ قَهْرِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ ، قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=73يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) [ التَّوْبَةِ : 73 ] فَجِهَادُ الْمُنَافِقِينَ أَصْعَبُ مِنْ جِهَادِ الْكُفَّارِ ، وَهُوَ جِهَادُ خَوَاصِّ الْأُمَّةِ وَوَرَثَةِ الرُّسُلِ ، وَالْقَائِمُونَ بِهِ أَفْرَادٌ فِي الْعَالَمِ ، وَالْمُشَارِكُونَ فِيهِ وَالْمُعَاوِنُونَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانُوا هُمُ الْأَقَلِّينَ عَدَدًا فَهُمُ الْأَعْظَمُونَ عِنْدَ اللَّهِ قَدْرًا .
وَلَمَّا كَانَ مِنْ
nindex.php?page=treesubj&link=33385أَفْضَلِ الْجِهَادِ قَوْلُ الْحَقِّ مَعَ شِدِّةِ الْمُعَارِضِ ، مِثْلَ أَنْ تَتَكَلَّمَ بِهِ عِنْدَ مَنْ تَخَافُ سَطْوَتَهُ وَأَذَاهُ ، كَانَ لِلرُّسُلِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ - مِنْ ذَلِكَ الْحَظُّ الْأَوْفَرُ ، وَكَانَ لِنَبِيِّنَا - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - مِنْ ذَلِكَ أَكْمَلُ الْجِهَادِ وَأَتَمُّهُ .
وَلَمَّا كَانَ جِهَادُ أَعْدَاءِ اللَّهِ فِي الْخَارِجِ فَرْعًا عَلَى جِهَادِ الْعَبْدِ نَفْسَهُ فِي ذَاتِ
[ ص: 6 ] اللَّهِ ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=16001721الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ ) كَانَ
nindex.php?page=treesubj&link=19688_19691_27390جِهَادُ النَّفْسِ مُقَدَّمًا عَلَى جِهَادِ الْعَدُوِّ فِي الْخَارِجِ ، وَأَصْلًا لَهُ ، فَإِنَّهُ مَا لَمْ يُجَاهِدْ نَفْسَهُ أَوَّلًا لِتَفْعَلَ مَا أُمِرَتْ بِهِ وَتَتْرُكَ مَا نُهِيَتْ عَنْهُ وَيُحَارِبُهَا فِي اللَّهِ لَمْ يُمْكِنْهُ جِهَادُ عَدُوِّهِ فِي الْخَارِجِ ، فَكَيْفَ يُمْكِنُهُ جِهَادُ عَدُوِّهِ وَالِانْتِصَافُ مِنْهُ وَعَدُوُّهُ الَّذِي بَيْنَ جَنْبَيْهِ قَاهِرٌ لَهُ مُتَسَلِّطٌ عَلَيْهِ لَمْ يُجَاهِدْهُ وَلَمْ يُحَارِبْهُ فِي اللَّهِ ، بَلْ لَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ إِلَى عَدُوِّهِ حَتّى يُجَاهِدَ نَفْسَهُ عَلَى الْخُرُوجِ .
فَهَذَانِ عَدُوَّانِ قَدِ امْتُحِنَ الْعَبْدُ بِجِهَادِهِمَا ، وَبَيْنَهُمَا عَدُوٌّ ثَالِثٌ لَا يُمْكِنُهُ جِهَادُهُمَا إِلَّا بِجِهَادِهِ ، وَهُوَ وَاقِفٌ بَيْنَهُمَا يُثَبِّطُ الْعَبْدَ عَنْ جِهَادِهِمَا ، وَيُخَذِّلُهُ وَيُرْجِفُ بِهِ ، وَلَا يَزَالُ يُخَيِّلُ لَهُ مَا فِي جِهَادِهِمَا مِنَ الْمَشَاقِّ وَتَرْكِ الْحُظُوظِ وَفَوْتِ اللَّذَّاتِ وَالْمُشْتَهَيَاتِ ، وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُجَاهِدَ ذَيْنِكَ الْعَدُوَّيْنِ إِلَّا بِجِهَادِهِ ، فَكَانَ جِهَادُهُ هُوَ الْأَصْلَ لِجِهَادِهِمَا ، وَهُوَ الشَّيْطَانُ ، قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=6nindex.php?page=treesubj&link=28798_28799إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ) [ فَاطِرٍ : 6 ] ، وَالْأَمْرُ بِاِتِّخَاذِهِ عَدُوًّا تَنْبِيهٌ عَلَى اسْتِفْرَاغِ الْوُسْعِ فِي مُحَارَبَتِهِ ، وَمُجَاهَدَتِهِ ، كَأَنَّهُ عَدُوٌّ لَا يَفْتُرُ وَلَا يُقَصِّرُ عَنْ مُحَارَبَةِ الْعَبْدِ عَلَى عَدَدِ الْأَنْفَاسِ .
فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَعْدَاءٍ ، أُمِرَ الْعَبْدُ بِمُحَارَبَتِهَا وَجِهَادِهَا ، وَقَدْ بُلِيَ بِمُحَارَبَتِهَا فِي هَذِهِ الدَّارِ ، وَسُلِّطَتْ عَلَيْهِ امْتِحَانًا مِنَ اللَّهِ لَهُ وَابْتِلَاءً ، فَأَعْطَى اللَّهُ الْعَبْدَ مَدَدًا وَعُدَّةً وَأَعْوَانًا وَسِلَاحًا لِهَذَا الْجِهَادِ ، وَأَعْطَى أَعْدَاءَهُ مَدَدًا وَعُدَّةً وَأَعْوَانًا وَسِلَاحًا ، وَبَلَا أَحَدَ الْفَرِيقَيْنِ بِالْآخَرِ ، وَجَعَلَ بَعْضَهُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً لِيَبْلُوَ أَخْبَارَهُمْ ، وَيَمْتَحِنَ مَنْ يَتَوَلَّاهُ وَيَتَوَلَّى رُسُلَهُ مِمَّنْ يَتَوَلَّى الشَّيْطَانَ وَحِزْبَهُ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=20وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا ) [ الْفُرْقَانِ : 20 ] .
[ ص: 7 ] وَقَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=47&ayano=4ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ ) [ مُحَمَّدٍ : 4 ] وَقَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=47&ayano=31وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ) [ مُحَمَّدٍ : 31 ] فَأَعْطَى عِبَادَهُ الْأَسْمَاعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْعُقُولَ وَالْقُوَى ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمْ كُتُبَهُ ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رُسُلَهُ ، وَأَمَدَّهُمْ بِمَلَائِكَتِهِ وَقَالَ لَهُمْ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=12أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا ) [ الْأَنْفَالِ : 12 ] ، وَأَمَرَهُمْ مِنْ أَمْرِهِ بِمَا هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْعَوْنِ لَهُمْ عَلَى حَرْبِ عَدُوِّهِمْ ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُمْ إِنِ امْتَثَلُوا مَا أَمَرَهُمْ بِهِ لَمْ يَزَالُوا مَنْصُورِينَ عَلَى عَدُوِّهِ وَعَدُوِّهِمْ ، وَأَنَّهُ إِنْ سَلَّطَهُ عَلَيْهِمْ فَلِتَرْكِهِمْ بَعْضَ مَا أُمِرُوا بِهِ وَلِمَعْصِيَتِهِمْ لَهُ ، ثُمَّ لَمْ يُؤَيِّسْهُمْ وَلَمْ يُقَنِّطْهُمْ ، بَلْ أَمَرَهُمْ أَنْ يَسْتَقْبِلُوا أَمْرَهُمْ ، وَيُدَاوُوا جِرَاحَهُمْ ، وَيَعُودُوا إِلَى مُنَاهَضَةِ عَدُوِّهِمْ ، فَيَنْصُرَهُمْ عَلَيْهِ ، وَيُظَفِّرَهُمْ بِهِمْ ، فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ مَعَ الْمُتَّقِينَ مِنْهُمْ ، وَمَعَ الْمُحْسِنِينَ وَمَعَ الصَّابِرِينَ وَمَعَ الْمُؤْمِنِينَ ، وَأَنَّهُ يُدَافِعُ عَنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ مَا لَا يُدَافِعُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ ، بَلْ بِدِفَاعِهِ عَنْهُمُ انْتَصَرُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ ، وَلَوْلَا دِفَاعُهُ عَنْهُمْ لَتَخَطَّفَهُمْ عَدُوُّهُمْ وَاجْتَاحَهُمْ .
وَهَذِهِ الْمُدَافَعَةُ عَنْهُمْ بِحَسْبِ إِيمَانِهِمْ وَعَلَى قَدْرِهِ ، فَإِنْ قَوِيَ الْإِيمَانُ قَوِيَتِ الْمُدَافَعَةُ ، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ .
وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُجَاهِدُوا فِيهِ حَقَّ جِهَادِهِ ، كَمَا أَمَرَهُمْ أَنْ يَتَّقُوهُ حَقَّ تُقَاتِهِ ، وَكَمَا أَنَّ حَقَّ تُقَاتِهِ أَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى ، وَيُذْكَرَ فَلَا يُنْسَى ، وَيُشْكَرَ فَلَا يُكْفَرُ ، فَحَقُّ جِهَادِهِ أَنْ يُجَاهِدَ الْعَبْدُ نَفْسَهُ لِيُسْلِمَ قَلْبَهُ وَلِسَانَهُ وَجَوَارِحَهُ لِلَّهِ ، فَيَكُونُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَبِاللَّهِ لَا لِنَفْسِهِ وَلَا بِنَفْسِهِ ، وَيُجَاهِدُ شَيْطَانَهُ بِتَكْذِيبِ وَعْدِهِ ، وَمَعْصِيَةِ أَمْرِهِ ، وَارْتِكَابِ نَهْيِهِ ، فَإِنَّهُ يَعِدُ الْأَمَانِيَّ وَيُمَنِّي الْغُرُورَ ، وَيَعِدُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ ،
[ ص: 8 ] وَيَنْهَى عَنِ التُّقَى وَالْهُدَى وَالْعِفَّةِ وَالصَّبْرِ ، وَأَخْلَاقِ الْإِيمَانِ كُلِّهَا ، فَجَاهِدْهُ بِتَكْذِيبِ وَعْدِهِ ، وَمَعْصِيَةِ أَمْرِهِ ، فَيَنْشَأُ لَهُ مِنْ هَذَيْنِ الْجِهَادَيْنِ قُوَّةٌ وَسُلْطَانٌ ، وَعُدَّةٌ يُجَاهِدُ بِهَا أَعْدَاءَ اللَّهِ فِي الْخَارِجِ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ وَيَدِهِ وَمَالِهِ ؛ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا .
وَاخْتَلَفَتْ
nindex.php?page=treesubj&link=7857عِبَارَاتُ السَّلَفِ فِي حَقِّ الْجِهَادِ :
فَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنُ عَبَّاسٍ : هُوَ اسْتِفْرَاغُ الطَّاقَةِ فِيهِ ، وَأَلَّا يَخَافَ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ . وَقَالَ
مقاتل : اعْمَلُوا لِلَّهِ حَقَّ عَمَلِهِ ، وَاعْبُدُوهُ حَقَّ عِبَادَتِهِ . وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=16418عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ : هُوَ مُجَاهَدَةُ النَّفْسِ وَالْهَوَى . وَلَمْ يُصِبْ مَنْ قَالَ : إِنَّ الْآيَتَيْنِ مَنْسُوخَتَانِ ، لِظَنِّهِ أَنَّهُمَا تَضَمَّنَتَا الْأَمْرَ بِمَا لَا يُطَاقُ ، وَحَقُّ تُقَاتِهِ وَحَقُّ جِهَادِهِ : هُوَ مَا يُطِيقُهُ كُلُّ عَبْدٍ فِي نَفْسِهِ ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْمُكَلَّفِينَ فِي الْقُدْرَةِ وَالْعَجْزِ وَالْعِلْمِ وَالْجَهْلِ . فَحَقُّ التَّقْوَى وَحَقُّ الْجِهَادِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقَادِرِ الْمُتَمَكِّنِ الْعَالِمِ شَيْءٌ ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَاجِزِ الْجَاهِلِ الضَّعِيفِ شَيْءٌ ، وَتَأَمَّلْ كَيْفَ عَقَّبَ الْأَمْرَ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=78هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) [ الْحَجِّ : 78 ] وَالْحَرَجُ : الضِّيقُ ، بَلْ جَعَلَهُ وَاسِعًا يَسَعُ كُلَّ أَحَدٍ ، كَمَا جَعَلَ رِزْقَهُ يَسَعُ كُلَّ حَيٍّ ، وَكَلَّفَ الْعَبْدَ بِمَا يَسَعُهُ الْعَبْدُ ، وَرَزَقَ الْعَبْدَ مَا يَسَعُ الْعَبْدَ ، فَهُوَ يَسَعُ تَكْلِيفَهُ وَيَسَعُهُ رِزْقُهُ ، وَمَا جَعَلَ عَلَى عَبْدِهِ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ بِوَجْهٍ مَا ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=16001722بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ ) أَيْ : بِالْمِلَّةِ ، فَهِيَ حَنِيفِيَّةٌ فِي التَّوْحِيدِ ، سَمْحَةٌ فِي الْعَمَلِ .
وَقَدْ وَسَّعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ غَايَةَ التَّوْسِعَةِ فِي دِينِهِ وَرِزْقِهِ وَعَفْوِهِ وَمَغْفِرَتِهِ ، وَبَسَطَ عَلَيْهِمُ التَّوْبَةَ مَا دَامَتِ الرُّوحُ فِي الْجَسَدِ ، وَفَتَحَ لَهُمْ بَابًا لَهَا لَا يُغْلِقُهُ عَنْهُمْ إِلَى أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا ، وَجَعَلَ لِكُلِّ سَيِّئَةٍ كَفَّارَةً تُكَفِّرُهَا مِنْ تَوْبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ حَسَنَةٍ مَاحِيَةٍ أَوْ مُصِيبَةٍ مُكَفِّرَةٍ ، وَجَعَلَ بِكُلِّ مَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ عِوَضًا مِنَ الْحَلَالِ أَنْفَعَ لَهُمْ مِنْهُ وَأَطْيَبَ وَأَلَذَّ ، فَيَقُومُ مَقَامَهُ لِيَسْتَغْنِيَ الْعَبْدُ
[ ص: 9 ] عَنِ الْحَرَامِ ، وَيَسَعُهُ الْحَلَالُ فَلَا يَضِيقُ عَنْهُ ، وَجَعَلَ لِكُلِّ عُسْرٍ يَمْتَحِنُهُمْ بِهِ يُسْرًا قَبْلَهُ وَيُسْرًا بَعْدَهُ ، " فَلَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ " ، فَإِذَا كَانَ هَذَا شَأْنُهُ سُبْحَانَهُ مَعَ عِبَادِهِ فَكَيْفَ يُكَلِّفُهُمْ مَا لَا يَسَعُهُمْ ، فَضْلًا عَمَّا لَا يُطِيقُونَهُ وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ .