401 1 [ ص: 95 ] فصل
في ذكرى الهجرتين الأولى والثانية
لما كثر المسلمون وخاف منهم الكفار اشتد أذاهم له صلى الله عليه وسلم وفتنتهم إياهم فأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة إلى الحبشة وقال : ( ) فهاجر من المسلمين اثنا عشر رجلا وأربع نسوة ، منهم إن بها ملكا لا يظلم الناس عنده ، وهو أول من خرج ومعه زوجته عثمان بن عفان رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأقاموا في الحبشة في أحسن جوار ، فبلغهم أن قريشا أسلمت ، وكان هذا الخبر كذبا فرجعوا إلى مكة ، فلما بلغهم أن الأمر أشد مما كان رجع منهم من رجع ودخل جماعة ، فلقوا من قريش أذى شديدا ، وكان ممن دخل عبد الله بن مسعود .
ثم أذن لهم في ، فهاجر من الرجال ثلاثة وثمانون رجلا ، إن كان فيهم الهجرة ثانيا إلى الحبشة عمار ، فإنه يشك فيه ، ومن النساء ثمان عشرة امرأة ، فأقاموا عند على أحسن حال ، فبلغ ذلك النجاشي قريشا ، فأرسلوا ، عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة في جماعة ، ليكيدوهم عند ، فرد الله كيدهم في نحورهم ، فاشتد أذاهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم فحصروه وأهل بيته في النجاشي الشعب شعب أبي طالب ثلاث سنين ، وقيل سنتين ، وخرج من الحصر وله تسع وأربعون سنة ، وقيل ثمان وأربعون سنة ، وبعد ذلك بأشهر مات عمه أبو طالب وله سبع وثمانون سنة ، وفي الشعب ولد ، فنال الكفار منه أذى شديدا ، ثم ماتت عبد الله بن عباس بعد ذلك بيسير ، فاشتد أذى الكفار له ، فخرج إلى خديجة الطائف هو يدعو إلى الله تعالى ، وأقام به أياما فلم يجيبوه ، وآذوه وأخرجوه ، وقاموا له سماطين ، فرجموه بالحجارة حتى أدموا كعبيه ، فانصرف عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعا إلى وزيد بن حارثة مكة ، وفي طريقه لقي عداسا النصراني ، فآمن به وصدقه ، وفي طريقه أيضا بنخلة أهل نصيبين ، فاستمعوا القرآن وأسلموا ، وفي طريقه تلك أرسل الله إليه ملك الجبال يأمره [ ص: 96 ] بطاعته وأن يطبق على قومه صرف إليه نفر من الجن سبعة من أخشبي مكة ، وهما جبلاها إن أراد ، فقال : ( ) . لا ، بل أستأني بهم ، لعل الله يخرج من أصلابهم من يعبده لا يشرك به شيئا
وفي طريقه دعا بذلك الدعاء المشهور ( ) الحديث ، ثم دخل اللهم إليك أشكو ضعف قوتي ، وقلة حيلتي . . . مكة في جوار المطعم بن عدي ، ثم المسجد الأقصى ، ثم عرج به إلى فوق السماوات بجسده وروحه إلى الله عز وجل ، فخاطبه وفرض عليه الصلوات ، وكان ذلك مرة واحدة ، هذا أصح الأقوال . أسري [ ص: 97 ] بروحه وجسده إلى
وقيل : كان ذلك مناما ، وقيل : بل يقال : أسري به ، ولا يقال : يقظة ولا مناما .
وقيل : بيت المقدس يقظة ، وإلى السماء مناما . وقيل : كان الإسراء مرتين مرة يقظة ومرة مناما . كان الإسراء إلى
وقيل : بل أسري به ثلاث مرات ، وكان ذلك بعد المبعث بالاتفاق .
وأما ما وقع في حديث شريك ، أن ذلك كان قبل أن يوحى إليه فهذا مما عد من أغلاط شريك الثمانية وسوء حفظه ، لحديث الإسراء . وقيل : إن هذا كان إسراء المنام قبل الوحي . وأما إسراء اليقظة فبعد النبوة ، وقيل : بل الوحي هاهنا مقيد وليس بالوحي المطلق الذي هو مبدأ النبوة ، والمراد : قبل أن يوحى إليه في شأن الإسرار ، فأسري به فجأة من غير تقدم إعلام ، والله أعلم .
بمكة ما أقام يدعو القبائل إلى الله تعالى ويعرض نفسه عليهم في كل موسم أن يؤووه حتى يبلغ رسالة ربه ولهم الجنة ، فلم تستجب له قبيلة ، وادخر الله ذلك كرامة فأقام صلى الله عليه وسلم للأنصار ، فلما أراد الله تعالى إظهار دينه وإنجاز وعده ونصر نبيه وإعلاء كلمته والانتقام من أعدائه ، ساقه إلى الأنصار لما أراد بهم من الكرامة ، فانتهى إلى نفر منهم ستة ، وقيل : ثمانية وهم يحلقون رءوسهم عند عقبة منى في الموسم فجلس إليهم ودعاهم إلى الله ، وقرأ عليهم القرآن [ ص: 98 ] فاستجابوا لله ورسوله ، ورجعوا إلى المدينة ، فدعوا قومهم إلى الإسلام حتى فشا فيهم ولم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فأول مسجد قرئ فيه القرآن بالمدينة مسجد بني زريق ، ثم قدم مكة في العام القابل اثنا عشر رجلا من الأنصار ، منهم خمسة من الستة الأولين ، فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على العقبة ، ثم انصرفوا إلى بيعة النساء عند المدينة ، فقدم عليه في العام القابل منهم ثلاثة وسبعون رجلا وامرأتان ، وهم أهل العقبة الأخيرة فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم وأنفسهم ، فترحل هو وأصحابه إليهم ، واختار رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم اثني عشر نقيبا ، وأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه في المدينة فخرجوا أرسالا متسللين ، أولهم فيما قيل : الهجرة إلى ، وقيل أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي ، فقدموا على مصعب بن عمير الأنصار في دورهم ، فآووهم ، ونصروهم ، وفشا الإسلام بالمدينة ، ثم ، فخرج من أذن الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة مكة يوم الاثنين في شهر ربيع الأول ، وقيل في صفر ، وله إذ ذاك ثلاث وخمسون سنة ، ومعه ، أبو بكر الصديق وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر ، ودليلهم عبد الله بن الأريقط الليثي ، فدخل غار ثور هو وأبو بكر ، فأقاما فيه ثلاثا ، ثم أخذا على طريق الساحل ، فلما انتهوا إلى المدينة وذلك يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول ، وقيل غير ذلك ، نزل بقباء في أعلى المدينة على بني عمرو بن عوف ، وقيل : نزل على . وقيل : على كلثوم بن الهدم ، والأول أشهر ، فأقام عندهم أربعة عشر يوما وأسس سعد بن خيثمة مسجد قباء ، ثم خرج يوم الجمعة فأدركته الجمعة في بني [ ص: 99 ] سالم ، فجمع بهم بمن كان معه من المسلمين وهم مائة ، ثم ركب ناقته وسار ، وجعل الناس يكلمونه في النزول عليهم ويأخذون بخطام الناقة ، فيقول : ( ) فبركت عند مسجده اليوم ، وكان مربدا خلوا سبيلها فإنها مأمورة لسهل وسهيل غلامين من بني النجار ، فنزل عنها على ، ثم بنى مسجده موضع المربد بيده هو وأصحابه بالجريد واللبن ، ثم بنى مسكنه ومساكن أزواجه إلى جنبه وأقربها إليه مسكن أبي أيوب الأنصاري ، ثم تحول بعد سبعة أشهر من دار عائشة أبي أيوب إليها ، وبلغ أصحابه بالحبشة هجرته إلى المدينة فرجع منهم ثلاثة [ ص: 100 ] وثلاثون رجلا فحبس منهم بمكة سبعة ، وانتهى بقيتهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، ثم هاجر بقيتهم في السفينة عام خيبر سنة سبع .