الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
[ ص: 392 ] فصل

قال : الدرجة الثانية : الأنس بنور الكشف . وهو أنس شاخص عن الأنس الأول . تشوبه صولة الهيمان . ويضربه موج الفناء . وهو الذي غلب قوما على عقولهم وسلب قوما طاقة الاصطبار . وحل عنهم قيود العلم . وفي هذا ورد الخبر بهذا الدعاء : أسألك شوقا إلى لقائك ، من غير ضراء مضرة . ولا فتنة مضلة .

يجوز أن تكون الباء في قوله : بنور الكشف . باء السببية ، أو باء الإلصاق .

فإن كانت باء السببية : كان المعنى : الأنس الحاصل بسبب نور الكشف .

وإن كانت باء الإلصاق ، كان المعنى : الأنس المتلبس بنور الكشف .

فإن قلت : ما الفرق بين الأنس ، ونور الكشف ، حتى يكون أحدهما سببا للآخر ، أو متلبسا به ؟ .

قلت : الفرق بينهما : أن نور الكشف من باب المعارف وانكشاف الحقيقة للقلب . وأما الأنس : فمن باب القرب والدنو ، والسكون إلى من يأنس به ، والطمأنينة إليه . فضده : الوحشة . وضد نور الكشف : ظلمة الحجاب .

وقوله : شاخص عن الأنس الأول .

أي مرتفع عنه وأعلى منه .

قوله : تشوبه صولة الهيمان .

وذلك : لأن هذا الأنس المذكور يكون مبدؤه الكشف عن أسماء الصفات التي يحصل عنها الأنس . ويتعلق بها . كاسم الجميل ، والبر ، واللطيف ، والودود ، والحليم ، والرحيم ونحوها . ثم يقوى التعلق بها إلى أن يستغرق العقل ، فيمازجه نوع من الأسماء . فيقهر العقل بصولته .

والهيمان هو الحركة إلى كل جهة بسبب الحيرة والدهشة . وذلك إنما يكون مع نوع عدم تمييز . وقوة إرادة قاهرة ، لا يملك صاحبها ضبطها .

وقوله : ويضربه موج الفناء .

أي إن صاحب هذا الأنس : يطالع مبادئ الفناء محيطة به . فهي تقلبه كما يقلب [ ص: 393 ] الموج الغريق . وهذا قبل استيلاء سلطان الفناء على وجوده .

وقوله : وهو الذي غلب قوما على عقولهم

أي سلبهم إياها . لأنهم شاهدوا شيئا فوق مدارك العقول . وفوق كل مدرك بالحواس الظاهرة والباطنة ، ولا إلف لهم به . فأوجبت قوة المشاهدة والوارد ، وضعف المحل والحامل : غلبته على العقل . والكامل من القوم يثبت لذلك ولا يتحرك . بل يبقى كأنه جبل .

وتلا الجنيد في مثل هذه الحال - وقد قيل له : أما يغيرك ما تسمع ؟ فتلا : وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب .

وبعضهم تلا في مثل ذلك : وتحسبهم أيقاظا وهم رقود ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال .

وقوم أقوى تمكينا من هؤلاء : لم يغلبهم على عقولهم بل سلبهم طاقة صبرهم . فبدا منهم ما ينافي الصبر .

وأما قوله : وحل عنهم قيود العلم .

فكلام لا بد من تأويله . وتكلف وجه يصححه .

وأحسن ما يحمل عليه : أن العلم يقيد صاحبه . والمعرفة تطلقه . وتوسع بطانه وتريه حقائق الأشياء . فتزول عنه التقيدات التي كانت حاصلة بسبب خفاء نور المعرفة وكشفها عليه .

فإن العارف صاحب ضياء الكشف أوسع بطانا وقلبا . وأعظم إطلاقا بلا شك من صاحب العلم . ونسبته إليه كنسبة صاحب العلم إلى الجاهل . فكما أن العالم أوسع بطانا من الجاهل . وله إطلاق بحسب علمه فالعارف - بما معه من روح العلم . وضياء الكشف ونوره - هو أكثر إطلاقا . وأوسع بطانا من صاحب العلم . فيتقيد العالم بظواهر العلم وأحكامه . والعارف لا يراها قيودا .

ومن هاهنا تزندق من تزندق . وظن أنه إذا لاحت له حقائقها ، وبواطنها : خلع قيود ظواهرها ورسومها ، اشتغالا بالمقصود عن الوسيلة . وبالحقيقة عن الرسم . فهؤلاء هم المقطوعون عن الله ، القطاع لطريق الله . وهم معاطب الطريق وآفاتها .

[ ص: 394 ] واتفق أن العارفين تكلموا في الحقائق . وأمروا بالانتقال من الرسوم والظواهر إليها ، وأن لا يقف عندها . فظن هؤلاء الزنادقة : أنهم جوزوا خلعها ، والانحلال منها .

ولا ريب أن من جوز ذلك : فهو مثل هؤلاء . والله يركم الخبيث بعضه على بعض . فيجعله في جهنم . أولئك هم الخاسرون .

فصاحب " المنازل " : أشار إلى المعنى الحق الصحيح . كما أشار إليه شيوخ القوم .

وأما استدلاله بقول النبي صلى الله عليه وسلم أسألك الشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة . ولا فتنة مضلة فليس مطابقا لما ذكره في هذه الدرجة .

فأين طلب الشوق إلى لقائه ، الباعث على كمال الاستعداد ، وعلى خفة أعباء السير ، والمزيل لكل فتور ، والحامل على كل صدق ، وإخلاص وإنابة . وصحة معاملة - إلى أمر مشوب بصولة الهيمان . تضربه أمواج الفناء ، بحيث غلب قوما على عقولهم ، وسلب قوما صبرهم بحيث صيرهم في عالم الفناء ؟ .

ورسول الله صلى الله عليه وسلم : لم يكن ليسأل حالة الفناء قط . وإنما سأل شوقا موجبا للبقاء ، مصاحبا له . موجبا له طيب الحياة ، وقرة العين ، ولذة القلب ، وبهجة الروح .

وصاحب " المنازل " : كأنه فهم منه اشتياقه إلى المشاهدة من غير غلبة على عقل ، ولا فقد لاصطبار . ولهذا قال : من غير ضراء مضرة ، وهي الغلبة على العقل . ولا فتنة مضلة ، وهي مفارقة أحكام العلم .

وهذا غايته : أن يؤخذ من إشارة الحديث على عادة القوم . وأما أن يكون هو نفس المراد : فلا .

وإنما المسئول : أن يهب له شوقا إلى لقائه . مصاحبا للعافية ، والهداية . فلا تصحبه فتنة ولا محنة . وهذا من أجل العطايا والمواهب . فإن كثيرا ممن يحصل له هذا لا يناله إلا بعد امتحان واختبار : هل يصلح أم لا ؟ ومن لم يمتحن ولم يختبر فأكثرهم لم يؤهل لهذا .

فتضمن هذا الدعاء : حصول ذلك . والتأهيل له ، مع كمال العافية بلا محنة ، والهداية بلا فتنة . وبالله التوفيق . والله أعلم .

[ ص: 395 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية