الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل

قال : وهو على ثلاث درجات . الدرجة الأولى : أن تؤثر الخلق على نفسك فيما لا يخرم عليك دينا . ولا يقطع عليك طريقا ، ولا يفسد عليك وقتا .

يعني : أن تقدمهم على نفسك في مصالحهم . مثل أن تطعمهم وتجوع . وتكسوهم وتعرى ، وتسقيهم وتظمأ ، بحيث لا يؤدي ذلك إلى ارتكاب إتلاف لا يجوز في الدين . ومثل أن تؤثرهم بمالك وتقعد كلا مضطرا ، مستشرفا للناس أو سائلا . وكذلك إيثارهم بكل ما يحرمه على المؤثر دينه . فإنه سفه وعجز . يذم المؤثر به عند الله وعند الناس .

وأما قوله : ولا يقطع عليك طريقا أي لا يقطع عليك طريق الطلب والمسير إلى الله تعالى ، مثل أن تؤثر جليسك على ذكرك ، وتوجهك وجمعيتك على الله . فتكون قد آثرته على الله . وآثرت بنصيبك من الله ما لا يستحق الإيثار . فيكون مثلك كمثل مسافر [ ص: 284 ] سائر على الطريق لقيه رجل فاستوقفه ، وأخذ يحدثه ويلهيه حتى فاته الرفاق . وهذا حال أكثر الخلق مع الصادق السائر إلى الله تعالى . فإيثارهم عليه عين الغبن . وما أكثر المؤثرين على الله تعالى غيره . وما أقل المؤثرين الله على غيره .

وكذلك الإيثار بما يفسد على المؤثر وقته قبيح أيضا . مثل أن يؤثر بوقته ويفرق قلبه في طلب خلفه ، أو يؤثر بأمر قد جمع قلبه وهمه على الله . فيفرق قلبه عليه بعد جمعيته . ويشتت خاطره . فهذا أيضا إيثار غير محمود .

وكذلك الإيثار باشتغال القلب والفكر في مهماتهم ومصالحهم التي لا تتعين عليك . على الفكر النافع ، واشتغال القلب بالله ، ونظائر ذلك لا تخفى . بل ذلك حال الخلق ، والغالب عليهم .

وكل سبب يعود عليك بصلاح قلبك ووقتك وحالك مع الله : فلا تؤثر به أحدا . فإن آثرت به فإنما تؤثر الشيطان على الله ، وأنت لا تعلم .

وتأمل أحوال أكثر الخلق في إيثارهم على الله من يضرهم إيثارهم له ولا ينفعهم . وأي جهالة وسفه فوق هذا ؟

ومن هذا تكلم الفقهاء في الإيثار بالقرب . وقالوا : إنه مكروه أو حرام . كمن يؤثر بالصف الأول غيره ويتأخر هو ، أو يؤثره بقربه من الإمام يوم الجمعة ، أو يؤثر غيره بالأذان والإقامة ، أو يؤثره بعلم يحرمه نفسه ، ويرفعه عليه ، فيفوز به دونه .

وتكلموا في إيثار عائشة رضي الله عنها لعمر بن الخطاب رضي الله عنه بدفنه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجرتها .

وأجابوا عنه بأن الميت ينقطع عمله بموته وبقربه . فلا يتصور في حقه الإيثار بالقرب بعد الموت . إذ لا تقرب في حق الميت . وإنما هذا إيثار بمسكن شريف فاضل لمن هو أولى به منها . فالإيثار به قربة إلى الله عز وجل للمؤثر . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية