الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل [ ص: 304 ] ويتبين هذا بمسألة شريفة ، وهي أنه هل المطيع الذي لم يعص خير من العاصي الذي تاب إلى الله توبة نصوحا ، أو هذا التائب أفضل منه ؟

اختلف في ذلك .

فطائفة رجحت من لم يعص على من عصى وتاب توبة نصوحا ، واحتجوا بوجوه :

أحدها : أن أكمل الخلق وأفضلهم أطوعهم لله ، وهذا الذي لم يعص أطوع ، فيكون أفضل .

الثاني : أن في زمن اشتغال العاصي بمعصيته يسبقه المطيع عدة مراحل إلى فوق ، فتكون درجته أعلى من درجته ، وغايته أنه إذا تاب استقبل سيره ليلحقه ، وذاك في سير آخر ، فأنى له بلحاقه ؟ فهما بمنزلة رجلين مشتركين في الكسب ، كلما كسب أحدهما شيئا كسب الآخر مثله ، فعمد أحدهما إلى كسبه فأضاعه ، وأمسك عن الكسب المستأنف ، والآخر مجد في الكسب ، فإذا أدركته حمية المنافسة ، وعاد إلى الكسب وجد صاحبه قد كسب في تلك المدة شيئا كثيرا ، فلا يكسب شيئا إلا كسب صاحبه نظيره ، فأنى له بمساواته ؟ .

الثالث : أن غاية التوبة أن تمحو عن هذا سيئاته ، ويصير بمنزلة من لم يعملها ، فيكون سعيه في مدة المعصية لا له ولا عليه ، فأين هذا السعي من سعي من هو كاسب رابح ؟ .

الرابع : أن الله يمقت على معاصيه ومخالفة أوامره ، ففي مدة اشتغال هذا بالذنوب كان حظه المقت ، وحظ المطيع الرضا ، فالله لم يزل عنه راضيا ، ولا ريب أن هذا خير ممن كان الله راضيا عنه ثم مقته ، ثم رضي عنه ، فإن الرضا المستمر خير من الذي تخلله المقت .

الخامس : أن الذنب بمنزلة شرب السم ، والتوبة ترياقه ودواؤه ، والطاعة هي الصحة والعافية ، وصحة وعافية مستمرة خير من صحة تخللها مرض وشرب سم أفاق منه ، وربما أديا به إلى التلف أو المرض أبدا .

السادس : أن العاصي على خطر شديد ، فإنه دائر بين ثلاثة أشياء ، أحدها : العطب والهلاك بشرب السم .

الثاني : النقصان من القوة وضعفها إن سلم من الهلاك .

والثالث : عود قوته إليه كما كانت أو خيرا منها بعيد .

[ ص: 305 ] والأكثر إنما هو القسمان الأولان ، ولعل الثالث نادر جدا ، فهو على يقين من ضرر السم ، وعلى رجاء من حصول العافية ، بخلاف من لم يتناول ذلك .

السابع : أن المطيع قد أحاط على بستان طاعته حائطا حصينا لا يجد الأعداء إليه سبيلا ، فثمرته وزهرته وخضرته وبهجته في زيادة ونمو أبدا ، والعاصي قد فتح فيه ثغرا ، وثلم فيه ثلمة ، ومكن منه السراق والأعداء ، فدخلوا فعاثوا فيه يمينا وشمالا ، أفسدوا أغصانه ، وخربوا حيطانه ، وقطعوا ثمراته ، وأحرقوا في نواحيه ، وقطعوا ماءه ، ونقصوا سقيه ، فمتى يرجع هذا إلى حاله الأول ؟ فإذا تداركه قيمه ولم شعثه ، وأصلح ما فسد منه ، وفتح طرق مائه ، وعمر ما خرب منه ، فإنه إما أن يعود كما كان ، أو أنقص ، أو خيرا ، ولكن لا يلحق بستان صاحبه الذي لم يزل على نضارته وحسنه ، بل في زيادة ونمو ، وتضاعف ثمرة ، وكثرة غرس .

والثامن : أن طمع العدو في هذا العاصي إنما كان لضعف علمه وضعف عزيمته ، ولذلك يسمى جاهلا ، قال قتادة : أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن كل ما عصي الله به فهو جهالة ، وكذلك قال الله تعالى في حق آدم ولم نجد له عزما وقال في حق غيره فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل وأما من قويت عزيمته ، وكمل علمه ، وقوي إيمانه لم يطمع فيه عدوه ، وكان أفضل .

التاسع : أن المعصية لا بد أن تؤثر أثرا سيئا ولا بد إما هلاكا كليا ، وإما خسرانا وعقابا يعقبه إما عفو ودخول الجنة ، وإما نقص درجة ، وإما خمود مصباح الإيمان ، وعمل التائب في رفع هذه الآثار والتكفير ، وعمل المطيع في الزيادة ، ورفع الدرجات .

ولهذا كان قيام الليل نافلة للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة ، فإنه يعمل في زيادة الدرجات ، وغيره يعمل في تكفير السيئات ، وأين هذا من هذا ؟ .

العاشر : أن المقبل على الله المطيع له يسير بجملة أعماله ، وكلما زادت طاعاته وأعماله ازداد كسبه بها وعظم ، وهو بمنزلة من سافر فكسب عشرة أضعاف رأس ماله ، فسافر ثانيا برأس ماله الأول وكسبه ، فكسب عشرة أضعافه أيضا ، فسافر ثالثا أيضا بهذا المال كله ، وكان ربحه كذلك ، وهلم جرا ، فإذا فتر عن السفر في آخر أمره ، مرة واحدة ، فاته من الربح بقدر جميع ما ربح أو أكثر منه ، وهذا معنى قول الجنيد رحمه الله : لو أقبل [ ص: 306 ] صادق على الله ألف عام ثم أعرض عنه لحظة واحدة كان ما فاته أكثر مما ناله ، وهو صحيح بهذا المعنى ، فإنه قد فاته في مدة الإعراض ربح تلك الأعمال كلها ، وهو أزيد من الربح المتقدم ، فإذا كان هذا حال من أعرض ، فكيف من عصى وأذنب ؟ وفي هذا الوجه كفاية .

التالي السابق


الخدمات العلمية