الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال : وهو على ثلاث درجات . الدرجة الأولى الزهد في الشبهة . بعد ترك الحرام بالحذر من المعتبة ، والأنفة من المنقصة ، وكراهة مشاركة الفساق .

أما الزهد في الشبهة فهو ترك ما يشتبه على العبد هل هو حلال ، أو حرام ؟ كما في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم : الحلال بين . والحرام بين . وبين ذلك أمور مشتبهات . لا يعلمهن كثير من الناس . فمن اتقى الشبهات اتقى الحرام . ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام ، كالراعي يرعى حول الحمى . يوشك أن يرتع فيه . ألا وإن لكل ملك حمى . ألا وإن حمى الله محارمه . ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد . وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد . ألا وهي القلب .

فالشبهات برزخ بين الحلال والحرام . وقد جعل الله عز وجل بين كل متباينين برزخا ، كما جعل الموت وما بعده برزخا بين الدنيا والآخرة . وجعل المعاصي برزخا بين الإيمان والكفر . وجعل الأعراف برزخا بين الجنة والنار .

وكذلك جعل بين كل مشعرين من مشاعر المناسك برزخا حاجزا بينهما ليس من هذا ولا من هذا . فمحسر برزخ بين منى ومزدلفة ، ليس من واحد منهما ، فلا يبيت به [ ص: 19 ] الحاج ليلة جمع ، ولا ليالي منى . وبطن عرنة برزخ بين عرفة وبين الحرم . فليس من الحرم ولا من عرفة . وكذلك ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس برزخ بين الليل والنهار . ليس من الليل ، لتصرمه بطلوع الفجر . ولا من النهار لأنه من طلوع الشمس . وإن دخل في اسم اليوم شرعا .

وكذلك منازل السير بين كل منزلتين برزخ يعرفه السائر في تلك المنازل . وكثير من الأحوال والواردات تكون برازخ ، فيظنها صاحبها غاية . وهذا لم يتخلص منه إلا فقهاء الطريق ، والعلماء هم الأدلة فيها .

وقوله : بعد ترك الحرام ؛ أي ترك الشبهة لا يكون إلا بعد ترك الحرام .

وقوله : بالحذر من المعتبة ، يعني أن يكون سبب تركه للشبهة الحذر من توجه عتب الله عليه .

وقوله : والأنفة من المنقصة ؛ أي يأنف لنفسه من نقصه عند ربه ، وسقوطه من عينيه . لا أنفته من نقصه عند الناس ، وسقوطه من أعينهم . وإن كان ذلك ليس مذموما ، بل هو محمود أيضا . ولكن المذموم أن تكون أنفته كلها من الناس ، ولا يأنف من الله .

وقوله : وكراهة مشاركة الفساق ؛ يعني أن الفساق يزدحمون على مواضع الرغبة في الدنيا . ولتلك المواقف بهم كظيظ من الزحام . فالزاهد يأنف من مشاركتهم في تلك المواقف . ويرفع نفسه عنها ، لخسة شركائه فيها ، كما قيل لبعضهم : ما الذي زهدك في الدنيا ؟ قال : قلة وفائها ، وكثرة جفائها ، وخسة شركائها .


إذا لم أترك الماء اتقاء تركت لكثرة الشركاء فيه     إذا وقع الذباب على طعام
رفعت يدي ونفسي تشتهيه     وتجتنب الأسود ورود ماء
إذا كان الكلاب يلغن فيه

التالي السابق


الخدمات العلمية