الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل ومن أحكامها : أن العبد إذا تاب من الذنب فهل يرجع إلى ما كان عليه قبل الذنب من الدرجة التي حطه عنها الذنب ، أو لا يرجع إليها ؟ اختلف في ذلك .

فقالت طائفة : يرجع إلى درجته ، لأن التوبة تجب الذنب بالكلية ، وتصيره كأن لم يكن ، والمقتضي لدرجته ما معه من الإيمان والعمل الصالح ، فعاد إليها بالتوبة .

قالوا : لأن التوبة حسنة عظيمة وعمل صالح ، فإذا كان ذنبه قد حطه عن درجته ، فحسنته بالتوبة رقته إليها ، وهذا كمن سقط في بئر ، وله صاحب شفيق ، أدلى إليه حبلا [ ص: 302 ] تمسك به حتى رقي منه إلى موضعه ، فهكذا التوبة والعمل الصالح مثل هذا القرين الصالح ، والأخ الشفيق .

وقالت طائفة : لا يعود إلى درجته وحاله ، لأنه لم يكن في وقوف ، وإنما كان في صعود ، فبالذنب صار في نزول وهبوط ، فإذا تاب نقص عليه ذلك القدر الذي كان مستعدا به للترقي .

قالوا : ومثل هذا مثل رجلين سائرين على طريق سيرا واحدا ، ثم عرض لأحدهما ما رده على عقبه أو أوقفه ، وصاحبه سائر ، فإذا استقال هذا رجوعه ووقفته ، وسار بإثر صاحبه لم يلحقه أبدا ، لأنه كلما سار مرحلة تقدم ذاك أخرى .

قالوا : والأول يسير بقوة أعماله وإيمانه ، وكلما ازداد سيرا ازدادت قوته ، وذلك الواقف الذي رجع قد ضعفت قوة سيره وإيمانه بالوقوف والرجوع .

وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - يحكي هذا الخلاف ، ثم قال : والصحيح أن من التائبين من لا يعود إلى درجته ، ومنهم من يعود إليها ، ومنهم من يعود إلى أعلى منها ، فيصير خيرا مما كان قبل الذنب ، وكان داود بعد التوبة خيرا منه قبل الخطيئة .

قال : وهذا بحسب حال التائب بعد توبته ، وجده وعزمه ، وحذره وتشميره فإن كان ذلك أعظم مما كان له قبل الذنب عاد خيرا مما كان وأعلى درجة ، وإن كان مثله عاد إلى مثل حاله ، وإن كان دونه لم يعد إلى درجته ، وكان منحطا عنها ، وهذا الذي ذكره هو فصل النزاع في هذه المسألة .

ويتبين هذا بمثلين مضروبين :

أحدهما : رجل مسافر سائر على الطريق بطمأنينة وأمن ، فهو يعدو مرة ويمشي أخرى ، ويستريح تارة وينام أخرى ، فبينا هو كذلك إذ عرض له في سيره ظل ظليل ، وماء بارد ومقيل ، وروضة مزهرة ، فدعته نفسه إلى النزول على تلك الأماكن ، فنزل عليها ، فوثب عليه منها عدو ، فأخذه وقيده وكتفه ومنعه عن السير ، فعاين الهلاك ، وظن أنه منقطع به ، وأنه رزق الوحوش والسباع ، وأنه قد حيل بينه وبين مقصده الذي يؤمه ، فبينا هو على ذلك تتقاذفه الظنون ، إذ وقف على رأسه والده الشفيق القادر ، فحل كتافه وقيوده ، وقال له : اركب الطريق واحذر هذا العدو ، فإنه على منازل الطريق لك بالمرصاد ، واعلم أنك ما دمت حاذرا منه ، متيقظا له لا يقدر عليك ، فإذا غفلت وثب عليك ، وأنا متقدمك إلى المنزل ، وفرط لك فاتبعني على الأثر .

[ ص: 303 ] فإن كان هذا السائر كيسا فطنا لبيبا ، حاضر الذهن والعقل ، استقبل سيره استقبالا آخر ، أقوى من الأول وأتم ، واشتد حذره ، وتأهب لهذا العدو ، وأعد له عدته ، فكان سيره الثاني أقوى من الأول ، وخيرا منه ، ووصوله إلى المنزل أسرع ، وإن غفل عن عدوه وعاد إلى مثل حاله الأول ، من غير زيادة ولا نقصان ولا قوة حذر ولا استعداد ، عاد كما كان ، وهو معرض لما عرض له أولا .

وإن أورثه ذلك توانيا في سيره وفتورا ، وتذكرا لطيب مقيله ، وحسن ذلك الروض وعذوبة مائه ، وتفيؤ ظلاله ، وسكونا بقلبه إليه لم يعد إلى مثل سيره ونقص عما كان .

المثل الثاني : عبد في صحة وعافية جسم ، عرض له مرض أوجب له حمية وشرب دواء وتحفظا من التخليط ، ونقص بذلك مادة ردية كانت منقصة لكمال قوته وصحته ، فعاد بعد المرض أقوى مما كان قبله ، كما قيل :


لعل عتبك محمود عواقبه وربما صحت الأجسام بالعلل

وإن أوجب له ذلك المرض ضعفا في القوة ، وتداركه بمثل ما نقص من قوته ، عاد إلى مثل ما كان .

وإن تداركه بدون ما نقص من قوته ، عاد إلى دون ما كان عليه من القوة .

وفي هذين المثلين كفاية لمن تدبرهما .

وقد ضرب لذلك مثل آخر برجل خرج من بيته يريد الصلاة في الصف الأول ، لا يلوي على شيء في طريقه ، فعرض له رجل من خلفه جبذ ثوبه وأوقفه قليلا ، يريد تعويقه عن الصلاة ، فله معه حالان :

أحدهما : أن يشتغل به حتى تفوته الصلاة ، فهذه حال غير التائب .

الثاني : أن يجاذبه على نفسه ، ويتفلت منه ، لئلا تفوته الصلاة .

ثم له بعد هذا التفلت ثلاثة أحوال :

أحدها : أن يكون سيره جمزا ووثبا ، ليستدرك ما فاته بتلك الوقفة ، فربما استدركه وزاد عليه .

الثاني : أن يعود إلى مثل سيره .

الثالث : أن تورثه تلك الوقفة فتورا وتهاونا ، فيفوته فضيلة الصف الأول ، أو فضيلة الجماعة وأول الوقت ، فهكذا حال التائبين السائرين سواء .

التالي السابق


الخدمات العلمية