الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          معلومات الكتاب

          الإحكام في أصول الأحكام

          الآمدي - علي بن محمد الآمدي

          فإن قيل : أما الحروف المعجمة التي في أوائل السور فهي أسماؤها .

          وأما العبادات الحادثة فمن حيث إنها أفعال محسوسة معلومة للعرب ومسماة بأسماء خاصة لها لغة ، غير أن الشرع اعتبرها في الثواب والعقاب عليها بتقدير الفعل أو الترك ، وليس في ذلك ما يدل على اشتمال القرآن على ما ليس بعربي .

          وأما الآيات المذكورة فهي محمولة على مدلولاتها لغة .

          أما قوله تعالى : ( وما كان الله ليضيع إيمانكم ) فالمراد به تصديقكم بالصلاة ، وقوله تعالى : ( أقيموا الصلاة ) فالمراد به الدعاء .

          وكذلك قوله : ( وآتوا الزكاة ) فالمراد به النمو .

          والمراد من الصوم الإمساك ، ومن الحج القصد ، غير أن الشارع شرط في إجزائها وصحتها شرعا ضم غيرها إليها . وليس في ذلك ما يدل على تغيير الوضع اللغوي ، وإن سلمنا دخول هذه الشروط في مسمى هذه الأسماء لكن بطريق المجاز ، أما في الصلاة فمن جهة أن الدعاء جزؤها ، والشيء قد يسمى باسم جزئه ، ومنه قول الشاعر :


          يناشدني حاميم والرمح شاجر فهلا تلا حاميم قبل التقدم

          .

          وأراد به القرآن ، فسماه باسم جزئه ، وكذلك الكلام في الصوم والزكاة والحج .

          ويمكن أن يقال بأن تسمية الصوم الخاص وكذلك الزكاة والحج والإيمان ، من باب التصرف بتخصيص الاسم ببعض مسمياته لغة كما في لفظ [ ص: 40 ] الدابة ، والشارع له ولاية هذا التصرف كما لأهل اللغة ، ويخص الصلاة أن أفعالها إنما سميت صلاة لكونها مما يتبع بها فعل الإمام . فإن التالي للسابق من الخيل يسمى مصليا لكونه تابعا ، ويخص الزكاة أن تسمية الواجب زكاة باسم سببه ، والتجوز باسم السبب عن المسبب جائز لغة ، والمجاز من اللغة لا من غيرها .

          قلنا : أما الحروف فإنها إذا كانت أسماء لآحاد السور فهي أعلام لها وليست لغوية ، فقد اشتمل القرآن على ما ليس من لغة العرب ، وما ذكروه في العبادات الحادثة في الشرع ، فإنما يصح ، أن لو لم تكن قد أطلق عليها أسماء لم تكن العرب قد أطلقتها عليها ، ويدل على هذا الإطلاق ما ذكر من الآيات .

          قولهم : إن هذه الأسماء محمولة على موضوعاتها لغة غير أن الشارع شرط في إجزائها شروطا لا تصح بدونها ، فإن [1] مسمى الصلاة في اللغة هو الدعاء .

          وقد يطلق اسم الصلاة على الأفعال التي لا دعاء فيها ، كصلاة الأخرس الذي لا يفهم الدعاء في الصلاة حتى يأتي به ، وبتقدير أن يكون الدعاء متحققا فليس هو المسمى بالصلاة وحده ، ودليله أنه يصح أن يقال : إنه في الصلاة حالة كونه غير داع ، ولو كان هو المسمى بالصلاة لا غير لصح عند فراغه من الدعاء أن يقال : خرج من الصلاة ، وإذا عاد إليه يقال : عاد إلى الصلاة ، وأن لا يسمى الشخص مصليا حالة عدم الدعاء مع تلبسه بباقي الأفعال ، وكل ذلك خلاف الإجماع .

          قولهم : تسمية هذه الأفعال بهذه الأسماء إنما هو بطريق المجاز .

          قلنا : الأصل في الإطلاق الحقيقة .

          قولهم : إن الدعاء جزء من هذه الأفعال ، والشيء قد يسمى باسم جزئه .

          قلنا : كل جزء أو بعض الأجزاء ، الأول ممنوع ، والثاني مسلم .

          ولهذا فإن العشرة لا تسمى خمسة ، ولا الكل جزءا وإن كان بعضه يسمى جزءا ، إلى أمثلة كثيرة لا تحصى .

          [ ص: 41 ] وليس القول بأن ما نحن فيه من القبيل الجائز أولى من غيره ، وإن سلمنا صحة ذلك تجوزا ، ولكن ليس القول بالتجوز في هذه الأسماء ، وإجراء لفظ القرآن على حقيقته أولى من العكس .

          فإن قيل : بل ما ذكرناه أولى ، فإن ما ذكرتموه يلزم منه النقل وتغيير اللغة ، فيستدعي ثبوت أصل الوضع وإثبات وضع آخر . والوضع اللغوي لا يفتقر إلى شيء آخر ، ولا يلزم منه تغيير فكان أولى . وأيضا فإن الغالب من الأوضاع البقاء لا التغيير ، وإدراج ما نحن فيه تحت الأغلب أغلب .

          قلنا : بل جانب الخصم أولى ; لما فيه من ارتكاب مجاز واحد ، وما ذكرتموه ففيه ارتكاب مجازات كثيرة فكان أولى . وعلى هذا فقد اندفع قولهم بالتجوز بجهة التخصيص أيضا ، وما ذكروه من تسمية أفعال الصلاة لما فيها من المتابعة للإمام ، فيلزم منه أن لا تسمى صلاة الإمام والمنفرد صلاة لعدم هذا المعنى فيها .

          وقولهم في الزكاة : أن الواجب سمي زكاة باسم سببه تجوزا فيلزم عليه أن لا تصح تسميته زكاة ، عند عدم النماء في المال ، وإن كان النماء حاصلا فالتجوز باسم السبب عن المسبب جائز مطلقا أو في بعض الأسباب ، الأول ممنوع والثاني مسلم . ولهذا فإنه لا يصح تسمية الصيد شبكة ، وإن كان نصبها سببا له ، ولا يسمى الابن أبا وإن كان الأب سببا له ، وكذلك لا يسمى العالم إلها وإن كان الإله تعالى سببا له [2] ، إلى غير ذلك من النظائر .

          وعند ذلك فليس القول بأن ما نحن فيه من قبيل التجوز به أولى من غيره .

          وأما المعتزلة فقد احتجوا بما سبق من الآيات وبقولهم : إن الإيمان في اللغة هو التصديق ، وفي الشرع يطلق على غير التصديق . ويدل عليه قوله عليه السلام [ ص: 42 ] : ( الإيمان بضع وسبعون بابا أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ) . سمى إماطة الأذى إيمانا وليس بتصديق .

          وأيضا فإن الدين في الشرع عبارة عن فعل العبادات وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة بدليل قوله تعالى : ( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ) إلى آخر الآية ، ثم قال : ( وذلك دين القيمة ) فكان راجعا إلى كل المذكور .

          والدين هو الإسلام لقوله تعالى : ( إن الدين عند الله الإسلام ) والإسلام هو الإيمان ، فيكون الإيمان في الشرع هو فعل العبادات .

          ودليل كون الإيمان هو الإسلام أنه لو كان غير الإسلام لما كان مقبولا من صاحبه لقوله تعالى : ( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه ) .

          وأيضا فإنه استثنى المسلمين من المؤمنين في قوله تعالى : ( فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين ) والأصل أن يكون المستثنى من جنس المستثنى منه .

          [3] وأيضا قوله تعالى : ( وما كان الله ليضيع إيمانكم ) وأراد به الصلاة إلى بيت المقدس .

          وأيضا فإن قاطع الطريق وإن كان مصدقا فليس بمؤمن لأنه يدخل النار بقوله تعالى : ( ولهم في الآخرة عذاب عظيم ) والداخل في النار مخزي لقوله تعالى حكاية عن أهل النار [4] ( ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته ) مع التقرير لهم على ذلك ، والمؤمن غير مخزي ؛ لقوله تعالى : ( يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه ) .

          [5] [ ص: 43 ] وأيضا فإن المكلف يوصف بكونه مؤمنا حالة كونه غافلا عن التصديق بالنوم وغيره .

          وأيضا فإنه لو كان الإيمان في الشرع هو الإيمان اللغوي أي التصديق لسمي في الشرع المصدق بشريك الإله تعالى مؤمنا ، والمصدق بالله مع إنكار الرسالة مؤمنا . . . إلى نظائره .

          ولقائل أن يقول : أما الآيات السابق ذكرها فيمكن أن يقال في جوابها : إن إطلاق اسم الصلاة والزكاة والصوم والحج إنما كان بطريق المجاز على ما سبق ، والمجاز غير خارج عن اللغة ، وتسمية إماطة الأذى عن الطريق إيمانا أمكن أن يكون لكونه دليلا على الإيمان ، فعبر باسم المدلول عن الدال وهو أيضا جهة من جهات التجوز .

          [6] فإن قيل : الأصل إنما هو الحقيقة .

          قلنا : إلا أنه يلزم منه التغيير ومخالفة الوضع اللغوي ، فيتقابلان وليس أحدهما أولى من الآخر لما سبق .

          وقولهم : إن الإيمان هو الإسلام بما ذكروه فهو معارض بقوله تعالى : ( قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ) ولو اتحدا لما صح هذا القول [7] ، وليس أحدهما أولى من الآخر بل الترجيح للتغاير نظرا إلى أن الأصل عند تعدد الأسماء تعدد المسميات ؛ ولئلا يلزم منه التغيير في الوضع ، وبهذا يندفع ما ذكروه من الاستثناء .

          وقوله تعالى : ( وما كان الله ليضيع إيمانكم ) فالمراد به التصديق بالصلاة [ ص: 44 ] لا نفس الصلاة ، فلا تغيير وإن كان المراد به أن الصلاة لما كانت تدل على التصديق سميت باسم مدلولها ، وذلك مجاز من وضع اللغة .

          وقوله تعالى : ( يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه ) لا يتناول كل مؤمن بل من آمن مع النبي عليه السلام [8] وهو صريح في ذلك ، وأولئك لم يصدر منهم ما دل صدر الآية عليه ، من الحراب لله ورسوله ، والسعي في الأرض بالفساد الذي أوجب دخول النار في الآية ، ولا يلزم من نفي الخزي عمن آمن مع النبي نفيه عن غيره .

          وقولهم : إن المكلف يوصف بالإيمان حالة كونه غافلا عن التصديق بالله تعالى ، إنما كان ذلك بطريق المجاز لكونه كان مصدقا وأنه يؤول إلى التصديق ، وهو جهة من جهات التجوز .

          وما يقال من أن الأصل الحقيقة ، فقد سبق جوابه ، كيف وإن ذلك لازم لهم في كل ما يفسرون الإيمان به ، ومع اتحاد المحذور فتقرير الوضع أولى .

          والمصدق بشريك الإله تعالى ليس مؤمنا شرعا ; لأن الإيمان في الشرع مطلق ليس تصديق بل تصديق خاص ، وهو التصديق بالله وبما جاءت به رسله ، هو من باب تخصيص الاسم ببعض مسمياته في اللغة ، فكان مجازا لغويا ، وبه يندفع ما قيل من التصديق بالله والكفر برسوله ، حيث إن مسمى الإيمان الشرعي لم يوجد .

          وإذا عرف ضعف المأخذ من الجانبين فالحق عندي في ذلك إنما هو إمكان كل واحد من المذهبين .

          وأما ترجيح الواقع منهما فعسى أن يكون عند غيري تحقيقه .

          [9]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية