الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          المسألة الثانية

          اختلف القائلون بالعموم وتخصيصه في الغاية التي يقع انتهاء التخصيص إليها ، فمنهم من قال بجواز انتهاء التخصيص في جميع ألفاظ العموم إلى الواحد .

          ومنهم من أجاز ذلك في ( من ) خاصة دون ما عداها من أسماء الجموع كالرجال والمسلمين ، وجعل نهاية التخصيص فيها أن يبقى تحتها ثلاثة ، وهذا هو مذهب القفال من أصحاب الشافعي .

          ومنهم من جعل نهاية التخصيص في جميع الألفاظ العامة جمعا كثيرا يعرف [ ص: 284 ] من مدلول اللفظ ، وإن لم يكن محددا ، وهو مذهب أبي الحسين البصري ، وإليه ميل إمام الحرمين وأكثر أصحابنا [1] .

          احتج من جوز الانتهاء في التخصيص إلى الواحد بالنص ، والإطلاق والمعنى .

          أما النص فقوله - تعالى - : ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) وأراد به نفسه وحده .

          وأما الإطلاق فقول عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) لسعد بن أبي وقاص ، وقد أنفذ إليه القعقاع مع ألف فارس : " قد أنفذت إليك ألفي رجل " ، أطلق اسم الألف الأخرى وأراد بها القعقاع [2] .

          وأما المعنى فمن وجهين : الأول : أنه لو امتنع الانتهاء في التخصيص إلى الواحد فإما أن يكون ؛ لأن الخطاب صار مجازا ، أو لأنه إذا استعمل اللفظ فيه لم يكن مستعملا فيما هو حقيقة فيه من الاستغراق ، وكل واحد من الأمرين لو قيل بكونه مانعا لزم امتناع تخصيص العام مطلقا ولا بعدد ما ؛ لأنه يكون مجازا في ذلك العدد ، وغير مستعمل فيما هو حقيقة فيه .

          وذلك خلاف الإجماع .

          الثاني : أن استعمال اللفظ في الواحد من حيث إنه بعض من الكل يكون مجازا كما في استعماله في الكثرة ، فإذا جاز التجوز باللفظ العام عن الكثرة فكذا في الواحد .

          ولقائل أن يقول : أما الآية فهي محمولة على تعظيم المتكلم ، وهو بمعزل عن التخصيص بالواحد .

          وأما الإطلاق العمري فمحمول على قصد بيان أن ذلك الواحد قائم مقام الألف ، وهو غير معنى التخصيص .

          [ ص: 285 ] وأما المعنى الأول فلا نسلم الحصر فيما قيل من القسمين ، بل المنع من ذلك إنما كان لعدم استعماله لغة .

          وأما المعنى الثاني : فمبني على جواز إطلاق اللفظ العام وإرادة الواحد مجازا ، وهو محل النزاع .

          وأما حجة أبي الحسين البصري ، فإنه قال لو قال القائل : قتلت كل من في البلد ، وأكلت كل رمانة في الدار ، وكان فيها تقديرا ألف رمانة ، وكان قد قتل شخصا واحدا أو ثلاثة ، وأكل رمانة واحدة أو ثلاث رمانات ، فإن كلامه يعد مستقبحا مستهجنا عند أهل اللغة .

          وكذلك إذا قال لعبده : من دخل داري فأكرمه ، أو قال لغيره : من عندك ؟ وقال : أردت به زيدا وحده أو ثلاثة أشخاص معينة أو غير معينة كان قبيحا مستهجنا ، ولا كذلك فيما إذا حمل على الكثرة القريبة من مدلول اللفظ ، فإنه يعد موافقا مطابقا لوضع أهل اللغة .

          وهذه الحجة ، وإن كانت قريبة من السداد ، وقد قلده فيها جماعة كثيرة إلا أن لقائل أن يقول : متى يكون ذلك مستهجنا منه ، إذا كان مريدا للواحد من جنس ذلك العدد الذي هو مدلول اللفظ ، وقد اقترن به قرينة ، أو إذا لم يكن ؟ الأول ممنوع ، والثاني مسلم .

          وبيان ذلك ، النص وصحة الإطلاق .

          أما النص فقوله - تعالى - : ( الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم ) ، وأراد بالناس القائلين ، نعيم بن مسعود الأشجعي [3] بعينه من جملة الناس ، ولم يعد ذلك مستهجنا لاقترانه بالدليل .

          وأما الإطلاق فصحة قول القائل : أكلت الخبز واللحم وشربت الماء ، والمراد به واحد من جنس مدلولات اللفظ العام ، ولم يكن ذلك مستقبحا لاقترانه بالدليل .

          نعم إذا أطلق اللفظ العام وكان الظاهر منه إرادة الكل أو ما يقاربه في الكثرة ، وهو مريد للواحد البعيد من ظاهر اللفظ من غير اقتران دليل به يدل عليه ، فإنه يكون مستهجنا .

          وإذا عرف ضعف المأخذ من الجانبين فعليك بالاجتهاد في الترجيح [4] .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية