الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          معلومات الكتاب

          الإحكام في أصول الأحكام

          الآمدي - علي بن محمد الآمدي

          [ ص: 35 ] المسألة الأولى

          في الأسماء الشرعية

          [1] ولا شك في إمكانها ; إذ لا إحالة في وضع الشارع اسما من أسماء أهل اللغة ، أو من غير أسمائهم على معنى يعرفونه أو لا يعرفونه ، لم يكن موضوعا لأسمائهم . فإن دلالات الأسماء على المعاني ليست لذواتها ولا الاسم واجب للمعنى ، بدليل انتفاء الاسم قبل التسمية وجواز إبدال البياض بالسواد في ابتداء الوضع ، وكما في أسماء الأعلام والأسماء الموضوعة لأرباب الحرف والصناعات لأدواتهم وآلاتهم .

          وإنما الخلاف نفيا وإثباتا في الوقوع ، والحجاج هاهنا مفروض فيما استعمله الشارع من أسماء أهل اللغة كلفظ الصوم والصلاة ، هل خرج به عن وضعهم أم لا ؟

          فمنع القاضي أبو بكر من ذلك ، وأثبته المعتزلة والخوارج والفقهاء .

          احتج القاضي بمسلكين :

          الأول : أن الشارع لو فعل ذلك لزمه تعريف الأمة بالتوقيف نقل [2] تلك الأسامي وإلا كان مكلفا لهم بفهم مراده من تلك الأسماء وهم لا يفهمونه ، وهو تكليف بما لا يطاق ، والتوقيف الوارد في مثل هذه الأمور لا بد وأن يكون متواترا لعدم قيام الحجة بالآحاد فيها ولا تواتر .

          وهذه الحجة غير مرضية ، أما أولا فلأنها مبنية على امتناع التكليف بما لا يطاق وهو فاسد [3] على ما عرف من أصول أصحابنا القائلين بخلافه في هذه [ ص: 36 ] المسألة ، وإن كان ذلك ممتنعا عند المعتزلة ، وبتقدير امتناع التكليف بما لا يطاق إنما يكون هذا تكليفا بما لا يطاق ; إذ [4] لو كلفهم بفهمها قبل تفهيمهم ، وليس كذلك .

          قوله : التفهيم ، إنما يكون بالنقل ، لا نسلم ، وما المانع أن يكون تفهيمهم بالتكرير والقرائن المتضافرة مرة بعد مرة ، كما يفعل الوالدان بالولد الصغير والأخرس في تعريفه لما في ضميره لغيره بالإشارة .

          المسلك الثاني : أن هذه الألفاظ قد اشتمل عليها القرآن ، فلو كانت مفيدة لغير مدلولاتها في اللغة لما كانت من لسان أهل اللغة كما لو قال : " أكرم العلماء " وأراد به الجهال أو الفقراء ، وذلك لأن كون اللفظ عربيا ليس لذاته وصورته ، بل لدلالته على ما وضعه أهل اللغة بإزائه ، وإلا كانت جميع ألفاظهم قبل التواضع عليها عربية ، وهو ممتنع ويلزم من ذلك أن لا يكون القرآن عربيا ، وهو على خلاف قوله تعالى : ( إنا جعلناه قرآنا عربيا ) ، وقوله تعالى : ( بلسان عربي مبين ) ، وقوله تعالى : ( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ) وذلك ممتنع وهذا المسلك ضعيف أيضا .

          إذ لقائل أن يقول : لا أسلم أنه يلزم من ذلك خروج القرآن عن كونه عربيا ، فإن قيل : لأنه إذا كان مشتملا على ما ليس بعربي فما بعضه عربي وبعضه غير عربي ، لا يكون كله عربيا ، وفي ذلك مخالفة ظواهر النصوص المذكورة .

          فيمكن أن يقال : لا نسلم دلالة النصوص على كون القرآن بكليته عربيا ; لأن القرآن قد يطلق على السورة الواحدة منه ، بل على الآية الواحدة كما يطلق على الكل ، ولهذا يصح أن يقال للسورة الواحدة : هذا قرآن ، والأصل في الإطلاق الحقيقة ، ولأن القرآن مأخوذ من الجمع ومنه يقال : قرأت الناقة لبنها في ضرعها إذا جمعته ، وقرأت الماء في الحوض أي جمعته ، والسورة الواحدة فيها معنى الجمع [ ص: 37 ] لتألفها من حروف وكلمات وآيات فصح إطلاق القرآن عليها ، غايته أنا خالفنا هذا في غير الكتاب العزيز ، فوجب العمل بمقتضى هذا الأصل في الكتاب وبعضه ، ولأنه لو حلف أنه لا يقرأ القرآن فقرأ سورة منه حنث ، ولو لم يكن قرآنا لما حنث ، وإذا كان كذلك فليس الحمل على الكل أولى من البعض ، وعند ذلك أمكن حمله على البعض الذي ليس فيه غير العربية .

          [5] فإن قيل : أجمعت الأمة على أن الله تعالى لم ينزل إلا قرآنا واحدا ، فلو كان البعض قرآنا والكل قرآنا لزمت التثنية في القرآن ، وهو خلاف الإجماع ، وإذا لم يكن القرآن إلا واحدا تعين أن يكون هو الكل ضرورة الإجماع على تسميته قرآنا .

          قلنا : أجمعت الأمة على أن الله تعالى لم ينزل إلا قرآنا واحدا ، بمعنى أنه لم ينزل غير هذا القرآن ، أو بمعنى أن المجموع قرآن وبعضه ليس بقرآن .

          الأول مسلم ، والثاني ممنوع .

          فإن قيل : ما ذكرتموه من الدليل على كون بعض القرآن قرآنا معارض بما يدل على أنه ليس بقرآن ، وهو صحة قول القائل عن السورة والآية هذا بعض القرآن .

          قلنا : المراد به إنما هو بعض الجملة المسماة بالقرآن ، وليس في ذلك ما يدل على أن البعض ليس بقرآن حقيقة ، فإن جزء الشيء إذا شارك كله في معناه كان مشاركا له في اسمه ، ولهذا يقال : إن بعض اللحم لحم ، وبعض العظم عظم ، وبعض الماء ماء ; لاشتراك الكل والبعض في المعنى المسمى بذلك الاسم ، وإنما يمتنع ذلك فيما كان البعض فيه غير مشارك للكل في المعنى المسمى بذلك الاسم ، ولهذا لا يقال : بعض العشرة عشرة ، وبعض المائة مائة ، وبعض الرغيف رغيف ، وبعض الدار دار ، إلى غير ذلك . وعند ذلك فما لم يبينوا كون ما نحن فيه من القسم الثاني دون الأول ، فهو غير لازم ، وإن سلمنا التعارض من كل وجه [ ص: 38 ] فليس القول بالنفي أولى من القول بالإثبات ، وعلى المستدل الترجيح . وإن سلمنا دلالة النصوص على كون القرآن بجملته عربيا ، لكن بجهة الحقيقة أو المجاز ، الأول ممنوع ، والثاني مسلم ; وذلك لأن ما الغالب منه العربية يسمى عربيا ، وإن كان فيه ما ليس بعربي كما يسمى الزنجي أسود ، وإن كان بعضه اليسير مبيضا كأسنانه وشحمة عينيه ، والرومي أبيض ، وإن كان البعض اليسير منه أسود كالناظر من عينيه . وكذلك البيت من الشعر بالفارسية يسمى فارسيا وإن كان مشتملا على كلمات يسيرة من العربية .

          ويدل على هذا التجوز ما اشتمل عليه القرآن من الحروف المعجمة في أوائل السور ، فإنها ليست من لغة العرب في شيء .

          وأيضا فإن القرآن قد اشتمل على عبادات غير معلومة للعرب ، فلا يتصور التعبير عنها في لغتهم ، فلا بد لها من أسماء تدل عليها غير عربية .

          وأيضا فإن القرآن مشتمل على قوله تعالى : ( وما كان الله ليضيع إيمانكم ) وأراد به صلاتكم ، وليس الإيمان في اللغة بمعنى الصلاة بل بمعنى التصديق .

          وعلى قوله : ( أقيموا الصلاة ) والصلاة في اللغة بمعنى الدعاء وفي الشرع عبارة عن الأفعال المخصوصة .

          وعلى قوله تعالى : ( وآتوا الزكاة ) والزكاة في اللغة عبارة عن النماء والزيادة ، وفي الشرع عبارة عن وجوب أداء مال مخصوص .

          وعلى قوله تعالى : " كتب عليكم الصيام " والصوم في اللغة عبارة عن مطلق إمساك ، وفي الشرع عبارة عن إمساك مخصوص بل وقد يطلق الصوم في الشرع في حالة لا إمساك فيها كحالة الآكل ناسيا .

          وعلى قوله تعالى : ( ولله على الناس حج البيت ) .

          [ ص: 39 ] والحج في اللغة عبارة عن مطلق قصد ، وفي الشرع عبارة عن القصد إلى مكان مخصوص .

          وهذا كله يدل على اشتمال القرآن على ما ليس بعربي ، فكان إطلاق اسم العربي عليه مجازا .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية