الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( وضرب آخر من السحر ) وهو الاحتيال في إطعامه بعض الأدوية المبلدة المؤثرة في العقل والدخن المسدرة السكرة ، نحو دماغ الحمار إذا طعمه إنسان تبلد عقله ، وقلت فطنته مع أدوية كثيرة هي مذكورة في كتب الطب ، ويتوصلون إلى أن يجعلوه في طعام حتى يأكله فتذهب فطنته ، ويجوز عليه أشياء مما لو كان تام الفطنة لأنكرها ، فيقول الناس : إنه مسحور .

                          " وحكمة كافية تبين لك أن هذا كله " مخاريق وحيل لما يدعون لها أن الساحر والمعزم لو قدرا على ما يدعيانه من النفع والضر من الوجوه التي يدعون ، وأمكنهما الطيران والعلم بالغيوب وأخبار البلدان النائية والخبيئات والسرق ، والإضرار بالناس من غير الوجوه التي ذكرنا لقدروا على إزالة الممالك ، واستخراج الكنوز ، والغلبة على البلدان بقتل الملوك بحيث لا يبدؤهم مكروه ، ولما مسهم السوء ، ولامتنعوا ممن قصدهم بمكروه ، ولاستغنوا عن الطلب لما في أيدي الناس . فإذا لم يكن كذلك ، وكان المدعون لذلك أسوأ الناس حالا ، وأكثرهم طمعا واختيالا وتواصلا لأخذ دراهم الناس ، وأظهرهم فقرا وإملاقا . علمت أنهم لا يقدرون على شيء من ذلك .

                          " ورؤساء الحشو والجهال من العامة من أسرع الناس إلى التصديق لدعوة السحرة والمعزمين ، وأشدهم نكيرا على من جحدها ، ويرون في ذلك أخبارا مفتعلة متخرصة يعتقدون صحتها ، كالحديث الذي يرون أن امرأة أتت عائشة قالت : إني ساحرة فهل لي توبة ؟ فقالت : وما سحرك ؟ قالت : سرت إلى الموضع الذي فيه هاروت وماروت ببابل لطلب السحر ، فقالا لي : يا أمة الله لا تختاري عذاب الآخرة بأمر الدنيا ، فأبيت ، فقالا لي : اذهبي فبولي على ذلك الرماد ، فذهبت لأبول عليه ففكرت في نفسي فقلت : لا فعلت ، وجئت إليهما فقلت : قد فعلت ، فقالا : ما رأيت ؟ فقلت : ما رأيت شيئا ، فقالا : ما فعلت ، اذهبي فبولي عليه ، فذهبت وفعلت ، فرأيت كأن فارسا قد خرج من فرجي مقنعا بالحديد حتى صعد إلى السماء ، فأخبرتهما فقالا : ذلك إيمانك خرج عنك [ ص: 51 ] وقد أحسنت السحر ، فقلت : وما هو ؟ فقالا : لا تريدين شيئا فتصورينه في وهمك إلا كان ، فصورت في نفسي حبا من حنطة فإذا أنا بالحب ، فقلت له : انزرع ، فانزرع وخرج من ساعته سنبلا ، فقلت له : انطحن وانخبز إلى آخر الأمر حتى صار خبزا ، وإلى كنت لا أصور في نفسي شيئا إلا كان ، فقالت لها عائشة : ليست لك توبة .

                          " فيروي القصاص والمحدثون الجهال مثل هذا للعامة فتصدقه وتستعيده وتسأل بعضهم أن يحدثها بحديث ساحرة ابن هبيرة فيقول لها : إن ابن هبيرة أخذ ساحرة فأقرت له بالسحر فدعا الفقهاء فسألهم عن حكمها فقالوا : القتل ، فقال ابن هبيرة : لست أقتلها إلا تغريقا ، قال : فأخذ رحى البزر فشدها في رجلها ، وقذفها في الفرات فقامت فوق الماء مع الحجر تنحدر مع الماء فخافا أن تفوتهم ، فقال ابن هبيرة : من يمسكها وله كذا وكذا ؟ فرغب رجل من السحرة كان حاضرا فيما بذله ، فقال : أعطوني قدح زجاج فيه ماء ، فجاءوه به فقعد على القدح ، ومضى إلى الحجر فشق الحجر بالقدح فتقطع الحجر قطعة قطعة فغرقت الساحرة - فيصدقونه ، ومن صدق هذا فليس يعرف النبوة ولا يأمن أن تكون معجزات الأنبياء عليهم السلام من هذا النوع ، وأنهم كانوا سحرة ، وقال الله تعالى : ولا يفلح الساحر حيث أتى ( 20 : 69 ) .

                          وقد أجازوا من فعل الساحر ما هو أطم من هذا وأفظع ، وذلك أنهم زعموا أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سحر ، وأن السحر عمل فيه حتى قال فيه : " إنه يخيل إلي أني أقول الشيء وأفعله ، ولم أقله ولم أفعله " وأن امرأة يهودية سحرته في جف طلعة ومشط ومشاقة حتى أتاه جبريل عليه السلام فأخبره أنها سحرته في جف طلعة ، وهو تحت راعوفة البئر فاستخرج ، وزال عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك العارض . وقد قال الله تعالى مكذبا للكفار فيما ادعوه من ذلك للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال جل من قائل : وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا ( 25 : 8 ) ومثل هذه الأخبار من وضع الملحدين تلعبا بالحشو والطغام ، واستجرارا لهم إلى القول بإبطال معجزات الأنبياء عليهم السلام والقدح فيها ، وأنه لا فرق بين معجزات الأنبياء وفعل السحرة ، وأن جميعه من نوع واحد . والعجب ممن يجمع بين تصديق الأنبياء عليهم السلام وإثبات معجزاتهم ، وبين التصديق بمثل هذا من فعل السحرة مع قوله تعالى : ولا يفلح الساحر حيث أتى ( 20 : 69 ) فصدق هؤلاء من كذبه الله وأخبر [ ص: 52 ] ببطلان دعواه وانتحاله . وجائز أن تكون المرأة اليهودية بجهلها فعلت ذلك ظنا منها بأن ذلك يعمل في الأجساد ، وقصدت به النبي عليه السلام فأطلع الله نبيه على موضع سرها ، وأظهر جهلها فيما ارتكبت وظنت ؛ ليكون ذلك من دلائل نبوته ، لا أن ذلك ضره ، وخلط عليه أمره ، ولم يقل كل الرواة : إنه اختلط عليه أمره ، وإنما هذا اللفظ زيد في الحديث ، ولا أصل له .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية