الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ثم ذكر أن الله تعالى أيده ببينة تدل على صدقه في دعواه وتبليغه عنه ، ورتب عليه ما هو مقصود له بالذات أو بالقصد الأول فقال حكاية عنه : قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل أي : قد جئتكم ببينة عظيمة الشأن ، ظاهرة الحجة في بيان الحق ، فتنكير البينة للتفخيم ، والتصريح بكون هذه البينة المعجزة من عند ربهم نص على أنهم مربوبون ، وأن فرعون ليس ربا ولا إلها ، وعلى أنها - أي : البينة - ليست من كسب موسى ، ولا مما يستقل به عليه السلام ، وبنى على هذا قوله : فأرسل معي بني إسرائيل أي : بأن تطلقهم من أسرك ، وتعتقهم من رق قهرك ، ليذهبوا معي إلى دار غير ديارك ، ويعبدوا فيها ربهم وربك ، وبم أجاب فرعون ؟ [ ص: 40 ] قال إن كنت جئت بآية أي : قال فرعون لموسى عليه السلام : إن كنت جئت مصحوبا ومؤيدا بآية من عند من أرسلك كما تدعي - الشرط بـ " إن " يدل على الشك في مضمون الجملة الشرطية أو الجزم بنفيها - فأت بها إن كنت من الصادقين فأتني بها بأن تظهرها لدي إن كنت من أهل الصدق الملتزمين لقول الحق ، وهذا شك آخر في صدقه ، بعد الشك في مجيئه بالآية .

                          فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين أي : فلم يلبث موسى أن ألقى عصاه التي كانت بيمينه أمام فرعون فإذا هي ثعبان - وهو الذكر العظيم من الحيات - مبين ؛ أي : ظاهر بين لا خفاء في كونه ثعبانا حقيقيا يسعى وينتقل من مكان إلى آخر ، تراه الأعين من غير أن يسحرها ساحر فيخيل إليها أنها تسعى - كما سيأتي من أعمال سحرة فرعون - ونزع يده ؛ أي : أخرجها من جيب قميصه بعد أن وضعها فيه بعد إلقاء العصا فإذا هي بيضاء ناصعة البياض تتلألأ للناظرين إليه ، وهم فرعون وملؤه أو لكل من ينظره ، والنظارة هم الذين يجتمعون عادة لرؤية الأمور الغريبة ، وقد وصف الله تعالى بيضها في طه والنمل والقصص بأنه : من غير سوء أي : من غير علة كالبرص .

                          وفي التفسير المأثور روايات في صفة الثعبان الذين تحولت إليه عصا موسى عليه الصلاة والسلام ، وفي تأثيره لدى فرعون ما هي إلا من الإسرائيليات التي لا يصح لها سند ، ولا يوثق منها بشيء ، ومنها قول وهب بن منبه : إن العصا لما صارت ثعبانا حملت على الناس فانهزموا منها فمات منها خمسة وعشرون ألفا قتل بعضهم بعضا ، وقام فرعون منهزما قال ابن كثير : رواه ابن جرير والإمام أحمد وابن أبي حاتم فيه غرابة في سياقه ، والله أعلم ا هـ .

                          وقد اقتصرت على هذه الرواية لأقول : إنني أرجح تضعيف عمرو بن علي الفلاس لوهب على توثيق الجمهور له ، بل أنا أسوأ فيه ظنا على ما روي من كثرة عبادته ، ويغلب على ظني أنه كان له ضلع مع قومه الفرس الذين كانوا يكيدون للإسلام وللعرب ، ويدسون لهم من باب الرواية ، ومن طريق التشيع ، فقد ذكر الإمام أحمد أن والده منبها فارسي أخرجه كسرى إلى اليمن فأسلم في زمن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وأن ابنه وهبا كان يختلف من بعده إلى بلاده بعد فتحها ، وهنا موضع لشبهة في الغرائب المروية عنه ، وهي كثيرة - ومثله عندي ( كعب الأحبار ) الإسرائيلي - كلاهما كان تابعيا كثير الرواية للغرائب التي لا يعرف لها أصل منقول ولا معقول ، وقومهما كانا يكيدون للأمة الإسلامية العربية التي فتحت بلاده الفرس ، وأجلت اليهود من الحجاز ، فقاتل الخليفة الثاني فارسي مرسل من جمعية سرية لقومه ، وقتلة الخليفة الثالث كانوا مفتونين بدسائس عبد الله بن سبأ اليهودي ، وإلى جمعية [ ص: 41 ] السبئيين وجمعيات الفرس ترجع جميع الفتن السياسية ، وأكاذيب الرواية في الصدر الأول .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية