الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون أي : ساء مثل أولئك القوم الذين كذبوا بآياتنا في الأمثال ، وقبحت صفتهم في الصفات ، وما كانوا بما اختاروه لأنفسهم من الإعراض عن التفكر في الآيات ، ومن النظر إليها نظر العدو الشانئ يظلمون أحدا ، وإنما يظلمون أنفسهم وحدها بحرمانها من الاهتداء بها ، وبما يعقب ذلك من حرمان سعادة الدنيا والآخرة . هذا ما فهمته من معنى الآيات كتبته ( بمكة المكرمة ) وليس عندي شيء من كتب التفسير أستعين به على الفهم ، وكنت قرأت تفسيرها في بعض الكتب ، ولكن لم يبق منه في ذهني إلا تنازع الأشعرية والمعتزلة في تفسير : ولو شئنا لرفعناه بها هل يدل على مشيئة الله تعالى لضلال الرجل أم لا ؟ ، ولا شك في أن الله يفعل ما يشاء ، وأن كل شيء يقع بمشيئته ، ولكن مشيئته تجري في العالم بمقتضى سننه وتقديره - وإلا ما ورد في الرويات المأثورة من قصة الرجل الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها ، وأن أكثرها على أنه من بني إسرائيل وأن اسمه ( بلعام ) واسم أبيه ( باعورا ) وهذا مما تلقاه أولئك المفسرون من الإسرائيليات ، وصار ينقله بعضهم لثقتهم بالراوي ، لكونه ممن اغتروا بصلاحهم ككعب الأحبار ووهب بن منبه ، وهاك خلاصة تلك الروايات ، منقولة عن الدر المنثور للحافظ السيوطي .

                          قال رحمه الله :

                          قوله تعالى : واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها الآية أخرج الفريابي [ ص: 344 ] وعبد الرزاق وعبد بن حميد والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والطبراني وابن مردويه عن عبد الله بن مسعود : واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها قال : هو رجل من بني إسرائيل يقال له بلعم بن أبر ، وأخرج عبد بن حميد وابن جرير ، وأبو الشيخ وابن مردويه من طرق عن ابن عباس قال : هو بلعم بن باعوراء وفي لفظ بلعام بن عامر : الذي أوتي الاسم كان في بني إسرائيل .

                          وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا الآية . قال : رجل من مدينة الجبارين يقال له بلعم تعلم اسم الله الأكبر ، فلما نزل بهم موسى أتاه بنو عمه وقومه فقالوا : إن موسى رجل حديد ومعه جنود كثيرة ، وإنه إن يظهر علينا يهلكنا فادع الله أن يرد عنا موسى ومن معه ، قال : إني إن دعوت الله أن يرد موسى ومن معه مضت دنياي وآخرتي . فلم يزالوا به حتى دعا عليهم فانسلخ مما كان فيه . وفي قوله : إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث قال : إن حمل الحكمة لم يحملها ، وإن ترك لم يهتد لخير ، كالكلب إن كان رابضا لهث وإن طرد لهث .

                          وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : واتل عليهم نبأ الذي آتيناه الآية . قال : هو رجل أعطي ثلاث دعوات يستجاب له فيهن ، وكانت له امرأة له منها ولد ، فقالت : اجعل لي منها واحدة ، قال : فلك واحدة ، فما الذي تريدين ؟ قالت : ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل ، فدعا الله فجعلها أجمل امرأة في بني إسرائيل ، فلما علمت أن ليس فيهم مثلها رغبت عنه ، وأرادت شيئا آخر ، فدعا الله أن يجعلها كلبة فصارت كلبة ، فذهبت دعوتان فجاء بنوها فقالوا : ليس بنا على هذا قرار ، قد صارت أمنا كلبة يعيرنا الناس بها ، فادع الله أن يردها إلى الحال التي كانت عليه ، فدعا الله فعادت كما كانت ، فذهبت الدعوات الثلاث وسميت البسوس .

                          وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال ، هو رجل يدعى بلعم من أهل اليمن آتاه الله آياته فتركها . وأخرج عبد بن حميد والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والطبراني وابن مردويه عن عبد الله بن عمرو واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها قال : هو أمية بن أبي الصلت الثقفي ، وفي لفظ نزلت في صاحبكم أمية بن أبي الصلت ، وأخرج ابن عساكر عن سعيد بن المسيب قال : قدمت الفارعة أخت أمية بن أبي الصلت على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد فتح مكة فقال لها : " هل تحفظين من شعر أخيك شيئا ؟ " قالت : نعم ، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ " يا فارعة إن مثل أخيك كمثل الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها " .

                          [ ص: 345 ] وأخرج ابن عساكر عن ابن شهاب قال : قال أمية بن أبي الصلت :


                          ألا رسول لنا منا يخبرنا ما بعد غايتنا من رأس نجرانا

                          قال : ثم خرج أمية إلى البحرين وتنبأ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأقام أمية بالبحرين ثماني سنين ، ثم قدم فلقي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في جماعة من أصحابه ، فدعاه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقرأ عليه : بسم الله الرحمن الرحيم يس والقرآن الحكيم ( 36 : 1 ، 2 ) حتى فرغ منها ، وثب أمية يجر رجليه فتبعته قريش تقول : ما تقول يا أمية ؟ قال : أشهد أنه على الحق ، قالوا : فهل تتبعه ؟ قال : حتى أنظر في أمره ، ثم خرج أمية إلى الشام وقدم بعد وقعة بدر يريد أن يسلم ، فلما أخبر بقتلى بدر ترك الإسلام ، ورجع إلى الطائف فمات بها ، قال : ففيه أنزل الله واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها
                          . وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن نافع بن عاصم بن عروة بن مسعود قال : إني لفي حلقة فيها عبد الله بن عمرو فقرأ رجل من القوم الآية التي في الأعراف واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فقال : أتدرون من هو ؟ فقال بعضهم : هو صيفي بن الراهب ، وقال بعضهم : هو بلعم رجل من بني إسرائيل ، فقال : لا . فقالوا : من هو ؟ قال : أمية بن أبي الصلت .

                          وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن الشعبي في هذه الآية واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها قال : قال ابن عباس : هو رجل من بني إسرائيل يقال له بلعم بن باعورا ، وكانت الأنصار تقول : هو ابن الراهب الذي بني له مسجد الشقاق ، وكانت ثقيف تقول : هو أمية بن أبي الصلت ، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : هو صيفي بن الراهب ، وأخرج ابن جرير عن مجاهد في الآية قال : هو نبي في بني إسرائيل ، يعني " بلعم " أوتي النبوة فرشاه قومه على أن يسكت ففعل وتركهم على ما هم عليه ، أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : فانسلخ منها قال : نزع منه العلم . وفي قوله : ولو شئنا لرفعناه بها قال : لرفعه الله بعلمه . وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مالك بن دينار قال : بعث نبي الله موسى بلعام بن باعورا إلى ملك مدين يدعوهم إلى الله ، وكان مجاب الدعوة ، وكان من علماء بني إسرائيل ، فكان موسى يقدمه في الشدائد ، فأقطعه وأرضاه فترك دين موسى وتبع دينه ، فأنزل الله : واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها وأخرج ابن أبي حاتم عن كعب في قوله : واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا قال : كان يعلم اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب .

                          وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها قال : هذا مثل ضربه الله لمن عرض عليه [ ص: 346 ] الهدى فأبى أن يقبله وتركه . ولو شئنا لرفعناه بها قال : لو شئنا لرفعناه بإيتائه الهدى ، فلم يكن للشيطان عليه سبيل ، ولكن الله يبتلي من يشاء من عبادهولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه قال : أبى أن يصحب الهدى ، فمثله كمثل الكلب الآية ، قال : هذا مثل الكافر ميت الفؤاد كما أميت فؤاد الكلب .

                          وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم في قوله : واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها قال : أناس من اليهود والنصارى والحنفاء ممن أعطاهم الله من آياته وكتابه فانسلخوا منها فجعلهم مثل الكلب .

                          وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : ولو شئنا لرفعناه بها قال : لدفعنا عنه بها ولكنه أخلد إلى الأرض قال : سكن إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث : إن تطرده بدابتك ورجليك ، وهو مثل الذي يقرأ الكتاب ولا يعمل به ، وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله : ولكنه أخلد إلى الأرض قال : ركن ، نزع . وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن الحسن في قوله : إن تحمل عليه قال : إن تسع عليه ، وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن جريج في قوله : إن تحمل عليه يلهث قال : الكلب منقطع الفؤاد لا فؤاد له ، مثل الذي يترك الهدى ، لا فؤاد له ، إنما فؤاده منقطع كان ضالا قبل أو بعد .

                          وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن المعتمر قال : سئل أبو المعتمر عن هذه الآية واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فحدث عن سيار : أنه كان رجلا يقال له : " بلعام " وكان قد أوتي النبوة ، وكان مجاب الدعوة ثم إن موسى أقبل في بني إسرائيل يريد الأرض التي فيها " بلعام " فرعب الناس منه رعبا شديدا فأتوا بلعام فقالوا : ادع الله على هذا الرجل قال : حتى أؤامر ربي فآمر في الدعاء عليهم فقيل له : لا تدع عليهم : ، فإن فيهم عبادي ، وفيهم نبيهم . فقال لقومه : قد آمرت في الدعاء عليهم ، وإني قد نهيت ، قال : فأهدوا إليه هدية فقبلها ، ثم راجعوه فقالوا : ادع الله عليهم ، فقال : حتى أؤامر ، فآمر فلم يحار إليه شيء ، فقال : قد آمرت فلم يحار إلي شيء ، فقالوا : لو كره ربك أن تدعو عليهم لنهاك كما نهاك المرة الأولى ، فأخذ يدعو عليهم فإذا دعا جرى على لسانه الدعاء على قومه فإذا أرسل أن يفتح على قومه جرى على لسانه أن يفتح على موسى وجيشه ، فقالوا : ما نراك إلا تدعو علينا . قال : ما يجري على لساني إلا هكذا ، ولو دعوت عليهم ما استجيب لي ، ولكن سأدلكم على أمر عسى أن يكون فيه هلاكهم . إن الله يبغض الزنا ، وإن هم وقعوا بالزنا هلكوا ، فأخرجوا النساء فإنهم قوم مسافرون فعسى أن يزنوا فيهلكوا .

                          [ ص: 347 ] فأخرجوا النساء تستقبلهم فوقعوا بالزنا ، فسلط الله عليهم الطاعون فمات منهم سبعون ألفا ، وأخرج أبو الشيخ عن سعيد بن جبير في قوله : واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها قال : كان اسمه " بلعلم " وكان يحسن اسما من أسماء الله ، فغزاهم موسى في سبعين ألفا ، فجاءه قومه فقالوا : ادع الله عليهم ، وكانوا إذا غزاهم أحد أتوه فدعا عليهم فهلكوا ، وكان لا يدعو حتى ينام فينظر ما يؤمر به في منامه ، فنام ، فقيل له : ادع الله لهم ولا تدع عليهم ، فاستيقظ فأبى أن يدعو عليهم ، فقال لهم : زينوا لهم النساء فإنهم إذا رأوهن لم يصبروا حتى يصيبوا من الذنوب فتدالوا عليهم .

                          ذلك ما لخصه السيوطي عن رواة التفسير المأثور ، وكله مما انخدع به بعض الصحابة والتابعين من الإسرائيليات إن صحت الروايات عنهم ، وبعضها قوي السند . وقد أورد الحافظ ابن عساكر في تاريخه جل هذه الروايات ، وزاد عليها وانتقد بعضها ، وذكر أن من رواتها كعب الأخبار ووهب بن منبه ، ومما عزاه إلى رواية وهب وفيه مخالفة لغيره أن قصة بلعام كانت في قتال فرعون من الفراعنة لأمة موسى بعد وفاته ، وأن بلعام من أنبياء بني إسرائيل ، وذكر عنه رواية أخرى ، وقال بعد سياق طويل للقصة لا حاجة إلى نقله ما نصه :

                          " وحكيت هذه القصة عن كعب ، وفيها أن معسكر موسى عليه السلام كان بأرض كنعان من الشام ، بين أريحا وبين الأردن وجبل البلقاء والتيه فيما بين هذه المواضع ، ثم ساق القصة على نمط ما تقدم إلا أن فيها بدل " اندلع لسانه " وجاءته لمعة فأخذت بصره فعمي .

                          " وحكي عن وهب أنه قال : إن بلعام أخذ أسيرا فأتي به إلى موسى فقتله ( قال ) : وهكذا كانت سنتهم ، أنهم يقتلون الأسرى ( قال ) : فقوله تعالى : فانسلخ منها يقول : الاسم الأعظم الذي أعطاه الله عز وجل إياه .

                          وروى محمد بن إسحاق عن الزهري عن سعيد بن المسيب أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : " كان مثل بلعلم بن باعورا في بني إسرائيل كمثل أمية بن أبي الصلت في هذه الأمة " ( قال ابن عساكر ) قلت : والحديث موقوف على ابن المسيب ، فتأمل ( ؟ ؟ ) ( قال ) " وأقول : في الإصحاح الثاني والعشرين من سفر العدد من التوراة ذكر بلعام وقصته مطولة ، وهي أشبه برواية وهب غير أن الذين دونوا التوراة الموجودة اليوم برءوا بلعام فقالوا : إنه ذهب إلى منزله ، ولم يدع على بني إسرائيل ولم يصبه شيء . فإن كانت الآيات نزلت في حكاية بلعام فيكون القرآن قد أظهر ما كتمه التوراتيون ، وأظهر ما خبؤوه ، ويكون هذا من جملة المعجزات الدالة على أن القرآن من عند الله تعالى ، وإن كانت في غيره فالله أعلم بمن نزلت ; على أن الصحيح أن الآيات شاملة لكل من كانت هذه صفته من كل من آتاه الله الآيات التي هي الحجج التي جاء بها الأنبياء ثم إنه انسلخ منها - إلى أن قال - والصواب [ ص: 348 ] في تفسير هذه الآية : أنه لا يخص منه شيء إذا كان لا دلالة على خصوصه من خبر ولا عقل " انتهى المراد من كلام ابن عساكر .

                          أقول : إن هذا الحافظ كان مطلعا على التوراة التي في أيدي أهل الكتاب ، وهي عين التي بين أيدينا منها إلا ما في اختلاف الترجمات القديمة والحديثة من الفروق ، وهي وإن كان فيها اختلاف في المعاني فلن يصل إلى الحد الذي في روايات وهب وكعب وغيرهما من رواة الإسرائيليات الكاذبة ، وابن عساكر يرجح قول وهب على ما في التوراة ; لأنه ثقة عنده في الرواية ، ويعد روايته دليلا على معجزة للقرآن ، ولو ذكر القرآن أن الرجل الذي آتاه الله آياته هو بلعام هذا ، أو لو صح هذا في خبر مسند متصل عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لكان صحيحا ، ولكن يجب أن نعلم من أين جاء وهب بهذه القصة ، وهو لم يكن إلا راويا لما عند أهل الكتاب ، وما قاله مخالف لما عندهم .

                          وقصة بلعام مفصلة في الفصول ( 22 - 24 ) من سفر العدد ، وفيها أنها وقعت في " عربات موآب من عبر أردن أريحا " من أرض مدين كما نقول ( أو مديان كما يقولون ) وأن بالاق بن صفور ( بكسر الصاد المهملة وتشديد الفاء ) ملك الموآبيين طلب من بلعام بن باعور أن يلعن بني إسرائيل ; لينصره الله عليهم ووعده بمال كثير ، فأوحى الله إلى بلعام ألا يفعل فلم يفعل .

                          وفي قاموس الكتاب المقدس للدكتور " بوست " أن بلعام هذا من قرية فثور من بين النهرين قال : وكان نبيا مشهورا في جيله ، والظاهر أنه كان موحدا يعبد الله ( ! ! ) وليس ذلك بعجيب ; لأنه من وطن إبراهيم الخليل ، حيث يظن أن جرثومة تلك العبادة كانت لم تزل معروفة عند أهل تلك البلاد ما بين النهرين في أيام ذلك الرجل ، وقد ذاع صيت هذا النبي بين أهل ذلك الزمان ، فعلا شأنه ، وصارت الناس تقصده من جميع أنحاء البلاد ليتنبأ لهم عن أمور مختصة بهم ، أو ليباركهم ويبارك مقتنياتهم وما أشبه " ثم ذكر حكاية ملك موآب معه ، فعلى ذلك يكون بلعام عراقيا لا إسرائيليا ولا موآبيا .

                          وذكر البستاني في دائرة المعارف العربية ملخص قصة بلعام " ثم قال : وبعض مفسري ( الكتاب المقدس ) المدققين ذهب إلى أن قصة " بلعام " المدرجة في سفر العدد من الإصحاح ( 22 - 24 ) دخيلة إلخ . فتأمل ! .

                          وجملة القول : أن هذه الروايات الإسرائيلية لا يعتد بشيء منها ، ولا قيمة لأسانيدها ; لأن من ينتهي إليه السند قد اغتر ببعض ملفقي الإسرائيليات حتما ، وقد رأينا شيخ المفسرين ابن جرير لم يعتد بها . ونرجو - وقد راجعنا أشهر ما لدينا من كتب التفسير - أن يكون ما بينا به معنى الآيات أصحها وأكبرها فائدة .

                          [ ص: 349 ] وأكبر وجوه العبرة فيها ما نراه من حال علماء الدنيا اللابسين لباس علماء الدين ، الذين هم أظهر مظاهر المثل في الانسلاخ من آيات الله ، والإخلاد إلى الأرض ، واتباع أهوائهم وتفانيهم في إرضاء الحكام ، وإن كانوا مرتدين ، والعوام وإن كانوا مبتدعة خرافيين ، وهم فتنة للنابتة العصرية تصدهم عن الإسلام ، وللعوام في الثبات على الخرافات والأوهام ، ومنها عبادة القبور بدعاء موتاها فيما لا يطلب إلا من الله تعالى ، والطواف بها والنذر لها وغير ذلك ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية