الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        5209 حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان قال عمرو قلت لجابر بن زيد يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن حمر الأهلية فقال قد كان يقول ذاك الحكم بن عمرو الغفاري عندنا بالبصرة ولكن أبى ذاك البحر ابن عباس وقرأ قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله ( سفيان ) هو ابن عيينة وعمرو هو ابن دينار .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( قلت لجابر بن زيد ) هو أبو الشعثاء بمعجمة ومثلثة البصري .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( يزعمون ) لم أقف على تسمية أحد منهم ، وقد تقدم في الباب الذي قبله أن عمرو بن دينار روى ذلك عن محمد بن علي عن جابر بن عبد الله ، وأن من الرواة من قال عنه عن جابر بلا واسطة .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( قد كان يقول ذلك الحكم بن عمرو الغفاري عندنا بالبصرة ) زاد الحميدي في مسنده عن سفيان بهذا السند " قد كان يقول ذلك الحكم بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " وأخرجه أبو داود من رواية ابن جريج عن عمرو بن دينار مضموما إلى حديث جابر بن عبد الله في النهي عن لحوم الحمر مرفوعا . ولم يصرح برفع حديث الحكم .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( ولكن أبى ذلك البحر ابن عباس ) و " أبى " من الإباء أي امتنع ، والبحر صفة لابن عباس قيل له لسعة علمه ، وهو من تقديم الصفة على الموصوف مبالغة في تعظيم الموصوف كأنه صار علما عليه ، وإنما ذكر لشهرته بعد ذلك لاحتمال خفائه على بعض الناس ، ووقع في رواية ابن جريج " وأبى ذلك البحر يريد ابن عباس " وهذا يشعر بأن في رواية ابن عيينة إدراجا .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( وقرأ قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما ) في رواية ابن مردويه وصححه الحاكم من طريق محمد بن شريك عن عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء عن ابن عباس قال " كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تقذرا " فبعث الله نبيه وأنزل كتابه وأحل حلاله وحرم حرامه ، فما أحل فيه فهو حلال ، وما حرم فيه فهو حرام ، وما سكت عنه فهو عفو . وتلا هـذه : قل لا أجد إلى آخرها " والاستدلال بهذا للحل إنما يتم فيما لم يأت فيه نص عن النبي صلى الله عليه وسلم بتحريمه ، وقد تواردت الأخبار بذلك والتنصيص على التحريم مقدم على عموم التحليل وعلى القياس ، وقد تقدم في المغازي عن ابن عباس أنه توقف في النهي عن الحمر : هل كان لمعنى خاص ، أو للتأييد ؟ ففيه عن الشعبي عنه أنه قال : لا أدري أنهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل أنه كان حمولة الناس فكره أن تذهب حمولتهم ، أو حرمها ألبتة يوم خيبر ؟ وهذا التردد أصح من الخبر الذي جاء عنه بالجزم بالعلة المذكورة ، وكذا فيما أخرجه الطبراني وابن ماجه من طريق شقيق بن سلمة عن ابن عباس قال " إنما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم الحمر الأهلية مخافة قلة الظهر " وسنده ضعيف ، وتقدم في المغازي في حديث ابن أبي أوفى : فتحدثنا أنه إنما نهى عنها لأنها لم تخمس " وقال بعضهم نهى عنها لأنها كانت تأكل العذرة .

                                                                                                                                                                                                        قلت : وقد أزال هذه الاحتمالات من كونها لم تخمس أو كانت جلالة أو كانت انتهبت حديث أنس المذكور قبل هذا حيث جاء فيه " فإنها رجس " وكذا الأمر بغسل الإناء في حديث سلمة ، قال القرطبي : قوله " فإنها رجس " ظاهر في عود الضمير على الحمر لأنها المتحدث عنها المأمور بإكفائها من القدور وغسلها ، وهذا حكم المتنجس ، فيستفاد منه تحريم أكلها ، وهو دال على تحريمها لعينها لا لمعنى خارج . وقال ابن دقيق العيد : الأمر [ ص: 573 ] بإكفاء القدر ظاهر أنه سبب تحريم لحم الحمر ، وقد وردت علل أخرى إن صح رفع شيء منها وجب المصير إليه ، لكن لا مانع أن يعلل الحكم بأكثر من علة ، وحديث أبي ثعلبة صريح في التحريم فلا معدل عنه . وأما التعليل بخشية قلة الظهر فأجاب عنه الطحاوي بالمعارضة بالخيل ، فإن في حديث جابر النهي عن الحمر والإذن في الخيل مقرونا ، فلو كانت العلة لأجل الحمولة لكانت الخيل أولى بالمنع لقلتها عندهم وعزتها وشدة حاجتهم إليها .

                                                                                                                                                                                                        والجواب عن آية الأنعام أنها مكية وخبر التحريم متأخر جدا فهو مقدم ، وأيضا فنص الآية خبر عن الحكم الموجود عند نزولها ، فإنه حينئذ لم يكن نزل في تحريم المأكول إلا ما ذكر فيها ، وليس فيها ما يمنع أن ينزل بعد ذلك غير ما فيها ، وقد نزل بعدها في المدينة أحكام بتحريم أشياء غير ما ذكر فيها كالخمر في آية المائدة ، وفيها أيضا تحريم ما أهل لغير الله به والمنخنقة إلى آخره ، وكتحريم السباع والحشرات ، قال النووي : قال بتحريم الحمر الأهلية أكثر العلماء من الصحابة فمن بعدهم ، ولم نجد عن أحد من الصحابة في ذلك خلافا لهم إلا عن ابن عباس ، وعند المالكية ثلاث روايات ثالثها الكراهة ، وأما الحديث الذي أخرجه أبو داود عن غالب بن الحر قال " أصابتنا سنة ، فلم يكن في مالي ما أطعم أهلي إلا سمان حمر ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : إنك حرمت لحوم الحمر الأهلية وقد أصابتنا سنة ، قال : أطعم أهلك من سمين حمرك ، فإنما حرمتها من أجل حوالي القرية " يعني الجلالة ، وإسناده ضعيف ، والمتن شاذ مخالف للأحاديث الصحيحة ، فالاعتماد عليها .

                                                                                                                                                                                                        وأما الحديث الذي أخرجه الطبراني عن أم نصر المحاربية " أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحمر الأهلية فقال : أليس ترعى الكلأ وتأكل الشجر ؟ قال : نعم ، قال فأصب من لحومها " وأخرجه ابن أبي شيبة من طريق رجل من بني مرة قال " سألت " فذكر نحوه ، ففي السندين مقال ، ولو ثبتا احتمل أن يكون قبل التحريم . قال الطحاوي : لو تواتر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحريم الحمر الأهلية لكان النظر يقتضي حلها لأن كل ما حرم من الأهلي أجمع على تحريمه إذا كان وحشيا كالخنزير ، وقد أجمع العلماء على حل الحمار الوحشي فكان النظر يقتضي حل الحمار الأهلي . قلت : ما ادعاه من الإجماع مردود ، فإن كثيرا من الحيوان الأهلي مختلف في نظيره من الحيوان الوحشي كالهر ، وفي الحديث أن الذكاة لا تطهر ما لا يحل أكله ، وأن كل شيء تنجس بملاقاة النجاسة يكفي غسله مرة واحدة لإطلاق الأمر بالغسل فإنه يصدق بالامتثال بالمرة ، والأصل أن لا زيادة عليها ، وأن الأصل في الأشياء الإباحة لكون الصحابة أقدموا على ذبحها وطبخها كسائر الحيوان من قبل أن يستأمروا مع توفر دواعيهم على السؤال عما يشكل ، وأنه ينبغي لأمير الجيش تفقد أحوال رعيته ، ومن رآه فعل ما لا يسوغ في الشرع أشاع منعه إما بنفسه كأن يخاطبهم وإما بغيره بأن يأمر مناديا فينادي لئلا يغتر به من رآه فيظنه جائزا .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية