الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        4968 حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا هشام حدثنا قتادة عن زرارة بن أوفى عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم قال قتادة إذا طلق في نفسه فليس بشيء [ ص: 294 ]

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        [ ص: 294 ] قوله ( باب لا طلاق قبل نكاح ، وقول الله تعالى : ياأيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا ) سقط من رواية أبي ذر " لا طلاق قبل نكاح " وثبت عنده باب ياأيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات فساق من الآية إلى قوله من عدة وحذف الباقي وقال : الآية . واقتصر النسفي على قوله " باب ياأيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات الآية " قال ابن التين : احتجاج البخاري بهذه الآية على عدم الوقوع لا دلالة فيه ، وقال ابن المنير : ليس فيها دليل لأنها إخبار عن صورة وقع فيها الطلاق بعد النكاح ، ولا حصر هناك ، وليس في السياق ما يقتضيه . قلت : المحتج بالآية لذلك قبل البخاري ترجمان القرآن عبد الله بن عباس كما سأذكره .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( وقال ابن عباس جعل الله الطلاق بعد النكاح ) هذا التعليق طرف من أثر أخرجه أحمد فيما رواه عنه حرب من مسائله من طريق قتادة عن عكرمة عنه وقال : سنده جيد ، وأخرج الحاكم من طريق يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس قال : ما قالها ابن مسعود وإن يكن قالها فزلة من عالم في الرجل يقول إذا تزوجت فلانة فهي طالق ، قال الله تعالى ياأيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن ولم يقل إذا طلقتم المؤمنات ثم نكحتموهن ; وروى ابن خزيمة والبيهقي من طريقه من وجه آخر عن سعيد بن جبير " سئل ابن عباس عن الرجل يقول : إذا تزوجت فلانة فهي طالق ، قال : ليس بشيء ، إنما الطلاق لما ملك . قالوا فابن مسعود قال إذا وقت وقتا فهو كما قال ، قال : يرحم الله أباعبد الرحمن لو كان كما قال لقال الله إذا طلقتم المؤمنات ثم نكحتموهن " وروى عبد الرزاق عن الثوري عن عبد الأعلى عن سعيد بن جبير " عن ابن عباس قال سأله مروان عن نسيب له وقت امرأة إن تزوجها فهي طالق ، فقال ابن عباس : لا طلاق حتى تنكح ، ولا عتق حتى تملك " وأخرج ابن أبي حاتم من طريق آدم مولى خالد عن سعيد بن جبير " عن ابن عباس فيمن قال كل امرأة أتزوجها فهي طالق : ليس بشيء ، من أجل أن الله يقول ياأيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات الآية " وأخرجه ابن أبي شيبة من هذا الوجه بنحوه ، ورويناه مرفوعا في " فوائد أبي إسحاق بن أبي ثابت " بسنده إلى أبي أمية أيوب بن سليمان قال : حججت سنة ثلاث عشرة ومائة فدخلت على عطاء فسئل عن رجل عرضت عليه امرأة ليتزوجها فقال : هي يوم أتزوجها طالق ألبتة قال لا طلاق فيما لا يملك عقدته يؤثر ذلك عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي إسناده من لا يعرف .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( وروي في ذلك عن علي وسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وأبي بكر بن عبد الرحمن وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وأبان بن عثمان وعلي بن حسين وشريح وسعيد بن جبير والقاسم وسالم وطاوس والحسن وعكرمة وعطاء وعامر بن سعد وجابر بن زيد ونافع بن جبير ومحمد بن كعب وسليمان بن يسار ومجاهد [ ص: 295 ] والقاسم بن عبد الرحمن وعمرو بن هرم والشعبي أنها لا تطلق ) قلت : اقتصر البخاري في هذا الباب على الآثار التي ساقها فيه ولم يذكر فيه خبرا مرفوعا صريحا ، رمزا منه إلى ما سأبينه في ضمنها من ذلك ، فأما الأثر عن علي في ذلك فرواه عبد الرزاق من طريق الحسن البصري قال " سأل رجل عليا قال : قلت إن تزوجت فلانة فهي طالق ، فقال علي : ليس بشيء " ورجاله ثقات إلا أن الحسن لم يسمع من علي . وأخرجه البيهقي من وجه آخر عن الحسن عن علي ، ومن طريق النزال بن سبرة عن علي ، وقد روي مرفوعا أيضا أخرجه البيهقي وأبو داود من طريق سعيد بن عبد الرحمن بن رقيش أنه سمع خاله عبد الله بن أبي أحمد بن جحش يقول : قال علي بن أبي طالب : حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا طلاق إلا من بعد نكاح ، ولا يتم بعد احتلام الحديث لفظ البيهقي ، ورواية أبي داود مختصرة . وأخرجه سعيد بن منصور من وجه آخر عن علي مطولا ، وأخرجه ابن ماجه مختصرا وفي سنده ضعف ، وأما سعيد بن المسيب فرواه عبد الرزاق عن ابن جريج " أخبرني عبد الكريم الجزري أنه سأل سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح عن طلاق الرجل ما لم ينكح ، فكلهم قال : لا طلاق قبل أن ينكح إن سماها وإن لم يسمها " وإسناده صحيح . وروى سعيد بن منصور من طريق داود بن أبي هند " عن سعيد بن المسيب قال : لا طلاق قبل نكاح " وسنده صحيح أيضا ، ويأتي له طريق أخرى مع مجاهد ، وقال سعيد بن منصور حدثنا هـشيم حدثنا محمد بن خالد قال " جاء رجل إلى سعيد بن المسيب فقال : ما تقول في رجل قال إن تزوجت فلانة فهي طالق ، فقال له سعيد : كم أصدقها ؟ قال له الرجل ، لم يتزوجها بعد فكيف يصدقها ؟ فقال له سعيد : فكيف يطلق من لم يتزوج " ؟ وأما عروة بن الزبير فقال سعيد بن منصور حدثنا حماد بن زيد " عن هشام بن عروة أن أباه كان يقول : كل طلاق أو عتق قبل الملك فهو باطل " وهذا سند صحيح .

                                                                                                                                                                                                        وأما أبو بكر بن عبد الرحمن وعبيد الله بن عبد الله فجاء في أثر واحد مجموعا عن سعيد بن المسيب والثلاثة المذكورين بعده وزيادة أبي سلمة بن عبد الرحمن ، فرواه يعقوب بن سفيان والبيهقي من طريقه من رواية يزيد بن الهاد " عن المنذر بن علي بن أبي الحكم أن ابن أخيه خطب بنت عمه فتشاجروا في بعض الأمر . فقال الفتى : هي طالق إن نكحتها حتى آكل الغضيض ، قال : والغضيض طلع النخل الذكر ، ثم ندموا على ما كان من الأمر ، فقال المنذر : أنا آتيكم بالبيان من ذلك فانطلق إلى سعيد بن المسيب فذكر له فقال ابن المسيب : ليس عليه شيء ، طلق ما لم يملك . قال ثم إني سألت عروة بن الزبير فقال مثل ذلك . ثم سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن فقال مثل ذلك . ثم سألت أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فقال مثل ذلك . ثم سألت عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود فقال مثل ذلك . ثم سألت عمر بن عبد العزيز فقال : هل سألت أحدا ؟ قلت نعم ، فسماهم ، قال : ثم رجعت إلى القوم فأخبرتهم " وقد روي عن عروة مرفوعا فذكر الترمذي في " العلل " أنه سأل البخاري : أي حديث في الباب أصح ؟ فقال : حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، وحديث هشام بن سعد عن الزهري عن عروة عن عائشة . قلت : إن البشر بن السري وغيره قالوا عن هشام بن سعد عن الزهري عن عروة مرسلا ، قال : فإن حماد بن خالد رواه عن هشام بن سعد فوصله . قلت : أخرجه ابن أبي شيبة عن حماد بن خالد كذلك ، وخالفهم علي بن الحسين بن واقد فرواه عن هشام بن سعد عن الزهري عن عروة عن المسور بن مخرمة مرفوعا أخرجه ابن ماجه وابن خزيمة في صحيحه ، لكن هشام بن سعد أخرجا له في المتابعات ففيه ضعف ، وقد ذكر ابن عدي هذا الحديث في مناكيره ، وله طريق أخرى عن عروة عن عائشة أخرجه الدارقطني من طريق معمر بن بكار السعدي عن إبراهيم بن سعد عن الزهري فذكره بلفظ " أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا سفيان على نجران " فذكر قصة وفي آخره " فكان [ ص: 296 ] فيها عهد إلى أبي سفيان أوصاه بتقوى الله وقال : لا يطلقن رجل ما لم ينكح ، ولا يعتق ما لم يملك ، ولا نذر في معصية الله " ومعمر ليس بالحافظ . وأخرجه الدارقطني أيضا من رواية الوليد بن سلمة الأردني عن يونس عن الزهري . والوليد واه ، ولما أورد الترمذي في الجامع حديث عمرو بن شعيب قال : ليس بصحيح . وفي الباب عن علي ومعاذ وجابر وابن عباس وعائشة . وقد ذكرت أثناء الكلام على تخريج أقوال من علق عنهم البخاري في هذا الباب روايات هؤلاء المرفوعة . وفات الترمذي أنه ورد من حديث المسور بن مخرمة وعائشة كما تقدم ، ومن حديث عبد الله بن عمر ; ومن حديث أبي ثعلبة الخشني ، فحديث ابن عمر يأتي ذكره في أثر سعيد بن جبير ، وحديث أبي ثعلبة أخرجه الدارقطني بسند شامي فيه بقية بن الوليد وقد عنعنه وأظن فيه إرسالا أيضا ، وأما أبان بن عثمان فلم أقف إلى الآن على الإسناد إليه بذلك ، وأما علي بن الحسن فرويناه في " الغيلانيات " من طريق شعبة عن الحكم هو ابن عتيبة " سمعت علي بن الحسن يقول : لا طلاق إلا بعد نكاح " وكذا أخرجه ابن أبي شيبة عن غندر عن شعبة ، وروينا في " فوائد عبد الله بن أيوب المخرمي " من طريق أبي إسحاق السبيعي عن علي بن الحسين مثله وكلا السندين صحيح ، وله طريق أخرى عنه تأتي مع سعيد بن جبير ، ورواه سعيد بن منصور عن حماد بن شعيب عن حبيب بن أبي ثابت قال " جاء رجل إلى علي بن الحسين فقال : إني قلت يوم أتزوج فلانة فهي طلاق ، فقرأ هذه الآية ياأيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن قال علي بن الحسين : لا أرى الطلاق إلا بعد نكاح " . وأما شريح فرواه سعيد بن منصور وابن أبي شيبة من طريق سعيد بن جبير عنه قال " لا طلاق قبل نكاح " وسنده صحيح ولفظ ابن أبي شيبة عن رجل قال يوم أتزوج فلانة فهي طالق ثلاثا " .

                                                                                                                                                                                                        وأما سعيد بن جبير فرواه أبو بكر بن أبي شيبة عن عبد الله بن نمير عن عبد الملك بن أبي سليمان عن سعيد بن جبير " في الرجل يقول يوم أتزوج فلانة فهي طلاق ، قال : ليس بشيء ، إنما الطلاق بعد النكاح " وسنده صحيح ، وله طريق أخرى تأتي مع مجاهد . وقال سعيد بن منصور حدثنا سفيان عن سليمان بن أبي المغيرة " سألت سعيد بن جبير وعلي بن حسين عن الطلاق قبل النكاح فلم يرياه شيئا " وقد روي مرفوعا أخرجه الدارقطني من طريق أبي هاشم الرماني عن سعيد بن جبير " عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن رجل قال يوم أتزوج فلانة فهي طالق ، فقال : طلق ما لا يملك " وفي سنده أبو خالد الواسطي ، وهو واه . ولحديث ابن عمر طريق أخرى أخرجها ابن عدي من رواية عاصم بن هلال " عن أيوب عن نافع عن ابن عمر رفعه لا طلاق إلا بعد نكاح قال ابن عدي قال ابن صاعد لما حدث به : لا أعلم له علة . قلت : استنكروه على ابن صاعد ولا ذنب له فيه وإنما علته ضعف حفظ عاصم . وأما القاسم وهو ابن محمد بن أبي بكر الصديق وسالم وهو ابن عبد الله بن عمر فرواه أبو عبيد في كتاب النكاح له عن هشيم ويزيد بن هارون كلاهما عن يحيى بن سعيد قال " كان القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وعمر بن عبد العزيز لا يرون الطلاق قبل النكاح " وهذا إسناد صحيح أيضا . وأخرجه ابن أبي شيبة من وجه آخر عن سالم والقاسم وقوعه في المعينة ، وقال ابن أبي شيبة حدثنا حفص هو ابن غياث عن حنظلة قال " سئل القاسم وسالم عن رجل قال : يوم أتزوج فلانة فهي طالق ، قالا : هي كما قال " وعن أبي أسامة " عن عمر بن حمزة أنه سأل سالما والقاسم وأبا بكر بن عبد الرحمن وأبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وعبد الله بن عبد الرحمن عن رجل قال : يوم أتزوج فلانة فهي طالق ألبتة ، فقال كلهم : لا يتزوجها " وهو محمول على الكراهة دون التحريم ، لما أخرجه إسماعيل القاضي في " أحكام القرآن " من طريق جرير بن حازم عن يحيى بن سعيد أن القاسم سئل عن ذلك فكرهه ، فهذا طريق التوفيق بين ما نقل عنه من ذلك . وأما طاوس فأخرجه عبد الرزاق عن معمر قال " كتب الوليد بن يزيد إلى أمراء الأمصار أن يكتبوا إليه بالطلاق قبل النكاح وكان قد ابتلي بذلك ، فكتب إلى عامله باليمن فدعا ابن طاوس [ ص: 297 ] وإسماعيل بن شروس وسماك بن الفضل فأخبرهم ابن طاوس عن أبيه وإسماعيل بن شروس عن عطاء وسماك بن الفضل عن وهب بن منبه أنهم قالوا : لا طلاق قبل النكاح . قال سماك من عنده : إنما النكاح عقدة تعقد والطلاق يحلها ، فكيف يحل عقدة قبل أن تعقد " وأخرجه سعيد بن منصور من طريق خصيف وابن أبي شيبة من طريق الليث بن أبي سليم كلاهما عن عطاء وطاوس جميعا ، وقد روي مرفوعا ، قال عبد الرزاق عن الثوري عن ابن المنكدر عمن سمع طاوسا يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا طلاق لمن لم ينكح وكذا أخرجه ابن أبي شيبة عن وكيع عن الثوري ، وهذا مرسل وفيه راو لم يسم ، وقيل فيه عن طاوس عن ابن عباس أخرجه الدارقطني وابن عدي بسندين ضعيفين عن طاوس ، وأخرجه الحاكم والبيهقي من طريق ابن جريج " عن عمرو بن شعيب عن طاوس عن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا طلاق إلا بعد نكاح ، ولا عتق إلا بعد ملك " ورجاله ثقات إلا أنه منقطع بين طاوس ومعاذ ، وقد اختلف فيه على عمرو بن شعيب فرواه عامر الأحول ومطر الوراق وعبد الرحمن بن الحارث وحسين المعلم كلهم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده والأربعة ثقات وأحاديثهم في السنن ، ومن ثم صححه من يقوي حديث عمرو بن شعيب وهو قوي لكن فيه علة الاختلاف ، وقد اختلف عليه فيه اختلافا آخر فأخرج سعيد بن منصور من وجه آخر " عن عمرو بن شعيب أنه سئل عن ذلك فقال : كان أبي عرض علي امرأة يزوجنيها ، فأبيت أن أتزوجها وقلت : هي طالق ألبتة يوم أتزوجها ، ثم ندمت ، فقدمت المدينة فسألت سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير فقالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا طلاق إلا بعد نكاح وهذا يشعر بأن من قال فيه عن أبيه عن جده سلك الجادة ، وإلا فلو كان عنده عن أبيه عن جده لما احتاج أن يرحل فيه إلى المدينة ويكتفي فيه بحديث مرسل ، وقد تقدم أن الترمذي حكى عن البخاري أن حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أصح شيء في الباب ، وكذلك نقل ما هـنا عن الإمام أحمد فالله أعلم . وأما الحسن فقال عبد الرزاق " عن معمر عن الحسن وقتادة قالا : لا طلاق قبل النكاح ، ولا عتق قبل الملك " وعن هشام عن الحسن مثله . وأخرج ابن منصور عن هشيم عن منصور ويونس " عن الحسن أنه كان يقول : لا طلاق إلا بعد الملك " وقال ابن أبي شيبة حدثنا خلف بن خليفة " سألت منصورا عمن قال يوم أتزوجها فهي طالق فقال : كان الحسن لا يراه طلاقا " وأما عكرمة فرواه أبو بكر الأثرم عن الفضل بن دكين عن سويد بن نجيح قال " سألت عكرمة مولى ابن عباس قلت : رجل قالوا له تزوج فلانة قال هي يوم أتزوجها طالق كذا وكذا ، قال : إنما الطلاق بعد النكاح " وأما عطاء فتقدم مع طاوس ويأتي له طريق مع مجاهد ، وجاء من طريقه مرفوعا أخرجه الطبراني في " الأوسط " عن موسى بن هارون حدثنا محمد بن المنهال حدثنا أبو بكر الحنفي عن ابن أبي ذئب عن عطاء عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا طلاق إلا بعد النكاح ، ولا عتق إلا بعد ملك قال الطبراني : لم يروه عن ابن أبي ذئب إلا أبو بكر الحنفي ووكيع ولا رواه عن أبي بكر الحنفي إلا محمد بن المنهال اهـ . وأخرجه أبو يعلى عن محمد بن المنهال أيضا وصرح فيه بتحديث عطاء من ابن أبي ذئب ، ولذلك قال أيوب بن سويد عن ابن أبي ذئب " حدثنا عطاء " لكن أيوب بن سويد ضعيف . وكذا أخرجه الحاكم في " المستدرك " من طريق محمد بن سنان القزاز عن أبي بكر الحنفي وصرح فيه بتحديث عطاء لابن أبي ذئب وتحديث جابر لعطاء وفي كل من ذلك نظر ، والمحفوظ فيه العنعنة ، فقد أخرجه الطيالسي في مسنده عن ابن أبي ذئب عمن سمع عطاء ، وكذلك رويناه في " الغيلانيات " من طريق حسين بن محمد المروزي عن ابن أبي ذئب ، وكذلك أخرجه أبو قرة في السنن عن ابن أبي ذئب ، ورواية وكيع التي أشار إليها الطبراني أخرجها ابن أبي شيبة عنه عن ابن أبي ذئب عن عطاء وعن محمد بن المنكدر " عن جابر قال : لا طلاق قبل نكاح " ولرواية محمد بن المنكدر عن جابر طريق أخرى أخرجها البيهقي من طريق صدقة بن عبد الله قال " جئت محمد بن المنكدر وأنا مغضب فقلت : أنت أحللت للوليد بن يزيد أم سلمة ؟ قال : ما أنا ، ولكن [ ص: 298 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم " حدثني جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا طلاق لمن لا ينكح ، ولا عتق لمن لا يملك وأما عامر بن سعد فهو البجلي الكوفي من كبار التابعين ، وجزم الكرماني في شرحه بأنه ابن سعد بن أبي وقاص وفيه نظر ، وأما جابر بن زيد وهو أبو الشعثاء البصري فأخرجه سعيد بن منصور من طريقه وفي سنده رجل لم يسم ، وأما نافع بن جبير أي ابن مطعم ومحمد بن كعب أي القرظي : فأخرجه ابن أبي شيبة عن جعفر بن عون عن أسامة بن زيد عنهما قالا لا طلاق إلا بعد نكاح ، وأما سليمان بن يسار فأخرجه سعيد بن منصور عن عتاب بن بشير عن خصيف عن سليمان بن يسار أنه حلف في امرأة إن أتزوجها فهي طالق فتزوجها ، فأخبر بذلك عمر بن عبد العزيز وهو أمير على المدينة ، فأرسل إليه : بلغني أنك حلفت في كذا ; قال نعم ، قال : أفلا تخلي سبيلها ؟ قال : لا ، فتركه عمر ولم يفرق بينهما . وأما مجاهد فرواه ابن أبي شيبة من طريق الحسن بن الرماح سألت سعيد بن المسيب ومجاهدا وعطاء عن رجل قال يوم أتزوج فلانة فهي طالق ، فكلهم قال ليس بشيء ، زاد سعيد : أيكون سيل قبل مطر ؟ وقد روي عن مجاهد خلافه أخرجه أبو عبيد عن طريق خصيف أن أمير مكة قال لامرأته كل امرأة أتزوجها فهي طالق ، قال خصيف فذكرت ذلك لمجاهد وقلت له إن سعيد بن جبير قال : ليس بشيء ، طلق ما لم يملك . قال : فكره ذلك مجاهد وعابه . وأما القاسم بن عبد الرحمن وهو ابن عبد الله بن مسعود فرواه ابن أبي شيبة عن وكيع عن معروف بن واصل قال سألت القاسم بن عبد الرحمن فقال : لا طلاق إلا بعد نكاح . وأما عمرو بن هرم وهو الأزدي من أتباع التابعين فلم أقف على مقالته موصولة ، إلا أن في كلام بعض الشراح أن أبا عبيد أخرجه من طريقه . وأما الشعبي فرواه وكيع في مصنفه عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي قال : إن قال كل امرأة أتزوجها فهي طالق فليس بشيء ، وإذا وقت لزمه ، وكذلك أخرجه عبد الرزاق عن الثوري عن زكريا بن أبي زائدة وإسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي قال : إذا عمم فليس بشيء .

                                                                                                                                                                                                        . وممن رأى وقوعه في المعينة دون التعميم - غير من تقدم - إبراهيم النخعي أخرجه ابن أبي شيبة عن وكيع عن سفيان عن منصور عنه قال : إذا وقت وقع ، وبإسناده إذا قال " كل " فليس بشيء ، ومن طريق حماد بن أبي سليمان مثل قول إبراهيم ، وأخرجه من طريق الأسود بن يزيد عن ابن مسعود ، وإلى ذلك أشار ابن عباس كما تقدم . فابن مسعود أقدم من أفتى بالوقوع ، وتبعه من أخذ بمذهبه كالنخعي ثم حماد ، وأما ما أخرجه ابن أبي شيبة عن القاسم أنه قال هي طالق ، واحتج بأن عمر سئل عمن قال يوم أتزوج فهي علي كظهر أمي ، قال : لا يتزوجها حتى يكفر فلا يصح عنه ، فإنه من رواية عبد الله بن عمر العمري عن القاسم والعمري ضعيف والقاسم لم يدرك عمر ، وكأن البخاري تبع أحمد في تكثير النقل عن التابعين ، فقد ذكر عبد الله بن أحمد بن حنبل في " العلل " أن سفيان بن وكيع حدثه قال : أحفظ عن أحمد منذ أربعين سنة أنه سئل عن الطلاق قبل النكاح فقال : يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن علي وابن عباس وعلي بن حسين وابن المسيب ونيف وعشرين من التابعين أنهم لم يروا به بأسا ، قال عبد الله فسألت أبي عن ذلك فقال : أنا قلته . قلت : وقد تجوز البخاري في نسبة جميع من ذكر عنهم إلى القول بعدم الوقوع مطلقا ، مع أن بعضهم يفصل وبعضهم يختلف عليه ، ولعل ذلك هو النكتة في تصديره النقل عنهم بصيغة التمريض ، وهذه المسألة من الخلافيات الشهيرة ، وللعلماء فيها مذاهب : الوقوع مطلقا ، وعدم الوقوع مطلقا ، والتفصيل بين ما إذا عين أو عمم ، ومنهم من توقف : فقال بعدم الوقوع الجمهور كما تقدم وهو قول الشافعي وابن مهدي وأحمد وإسحاق وداود وأتباعهم وجمهور أصحاب الحديث ، وقال بالوقوع مطلقا أبو حنيفة وأصحابه ، وقال بالتفصيل ربيعة والثوري والليث والأوزاعي وابن أبي ليلى ومن قبلهم ممن تقدم ذكره وهو ابن مسعود وأتباعه ومالك في المشهور عنه ، وعنه عدم الوقوع مطلقا ولو عين ، وعن ابن القاسم مثله ، وعنه أنه توقف ، كذا عن الثوري وأبي عبيد . وقال جمهور المالكية بالتفصيل ، فإن سمى امرأة أو طائفة أو قبيلة أو مكانا أو زمانا يمكن أن يعيش إليه لزمه الطلاق والعتق ، وجاء عن عطاء مذهب آخر مفصل بين أن يشرط ذلك في عقد نكاح امرأته أو [ ص: 299 ] لا ، فإن شرطه لم يصح تزويج من عينها وإلا صح أخرجه ابن أبي شيبة ، وتأول الزهري ومن تبعه قوله " لا طلاق قبل نكاح " أنه محمول على من لم يتزوج أصلا ، فإذا قيل له مثلا تزوج فلانة فقال هي طالق ألبتة لم يقع بذلك شيء وهو الذي ورد فيه الحديث وأما إذا قال إن تزوجت فلانة فهي طالق فإن الطلاق إنما يقع حين تزوجها ، وما ادعاه من التأويل ترده الآثار الصريحة عن سعيد بن المسيب وغيره من مشايخ الزهري في أنهم أرادوا عدم وقوع الطلاق عمن قال إن تزوجت فهي طالق سواء خصص أم عمم أنه لا يقع ، ولشهرة الاختلاف كره أحمد مطلقا وقال إن تزوج لا آمره أن يفارق ، وكذا قال إسحاق في المعينة . قال البيهقي بعد أن أخرج كثيرا من الأخبار ، ثم من الآثار الواردة في عدم الوقوع : هذه الآثار تدل على أن معظم الصحابة والتابعين فهموا من الأخبار أن الطلاق أو العتاق الذي علق قبل النكاح والملك لا يعمل بعد وقوعهما ، وأن تأويل المخالف في حمله عدم الوقوع على ما إذا وقع قبل الملك ، والوقوع فيما إذا وقع بعده ، ليس بشيء . لأن كل أحد يعلم بعدم الوقوع قبل وجود عقد النكاح أو الملك فلا يبقى في الإخبار فائدة ، بخلاف ما إذا حملناه على ظاهره فإن فيه فائدة وهو الإعلام بعدم الوقوع ولو بعد وجود العقد ، فهذا يرجح ما ذهبنا إليه من حمل الأخبار على ظاهرها والله أعلم . وأشار البيهقي بذلك إلى ما تقدم عن الزهري وإلى ما ذكره مالك في الموطأ أن قوما بالمدينة كانوا يقولون إذا حلف الرجل بطلاق امرأة قبل أن ينكحها ثم حنث لزم إذا نكحها ، حكاه ابن بطال قال : وتأولوا حديث " لا طلاق قبل نكاح " على من يقول امرأة فلان طالق ، وعورض من ألزم بذلك بالاتفاق على أن من قال لامرأة : إذا قدم فلان فأذني لوليك أن يزوجنيك ، فقالت : إذا قدم فلان فقد أذنت لوليي في ذلك ، أن فلانا إذا قدم لم ينعقد التزويج حتى تنشئ عقدا جديدا . وعلى أن من باع سلعة لا يملكها ثم دخلت في ملكه لم يلزم ذلك البيع .

                                                                                                                                                                                                        ولو قال لامرأته : إن طلقتك فقد راجعتك فطلقها لا تكون مرتجعة ، فكذلك الطلاق ، ومما احتج به من أوقع الطلاق قوله تعالى ياأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود قال : والتعليق عقد التزمه بقوله وربطه بنيته وعلقه بشرطه ، فإن وجد الشرط نفذ واحتج آخر بقوله تعالى يوفون بالنذر وآخر بمشروعية الوصية ، وكل ذلك لا حجة فيه لأن الطلاق ليس من العقود ، والنذر يتقرب به إلى الله بخلاف الطلاق فإنه أبغض الحلال إلى الله ، ومن ثم فرق أحمد بين تعليق العتق وتعليق الطلاق فأوقعه في العتق دون الطلاق ، ويؤيده أن من قال : لله علي عتق لزمه ، ولو قال : لله علي طلاق كان لغوا . والوصية إنما تنفذ بعد الموت . ولو علق الحي الطلاق بما بعد الموت لم ينفذ . واحتج بعضهم بصحة تعليق الطلاق ; وأن من قال لامرأته : إن دخلت الدار فأنت طالق ، فدخلت طلقت . والجواب أن الطلاق حق ملك الزوج ، فله أن ينجزه ويؤجله وأن يعلقه بشرط وأن يجعله بيد غيره كما يتصرف المالك في ملكه ، فإذا لم يكن زوجا فأي شيء ملك حتى يتصرف ؟ وقال ابن العربي من المالكية : الأصل في الطلاق أن يكون في المنكوحة المقيدة بقيد النكاح ، وهو الذي يقتضيه مطلق اللفظ ، لكن الورع يقتضي التوقف عن المرأة التي يقال فيها ذلك وإن كان الأصل تجويزه وإلغاء التعليق ، قال : ونظر مالك ومن قال بقوله في مسألة الفرق بين المعينة وغيرها أنه إذا عم سد على نفسه باب النكاح الذي ندب الله إليه فعارض عنده المشروع فسقط ، قال : وهذا على أصل مختلف فيه وهو تخصيص الأدلة بالمصالح ، وإلا فلو كان هذا لازما في الخصوص للزم في العموم والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        قوله ‏ ( ‏بب إذا قال لامرأته وهو مكره‏ : ‏ هذه أختي ، فلا شيء عليه قال النبي صلى الله عليه وسلم‏ : ‏ قال إبراهيم لسارة هذه أختي ، وذلك في ذات الل ) ‏ قال ابن بطال‏ : ‏ أراد بذلك رد من كره أن يقول لامرأته يا أختي ، وقد روى عبد الرزاق من طريق أبي تميمة الهجيمي ‏ " ‏ مر الن صلى الله عليه وسلم على رجل وهو يقول لامرأته يا أخية ، فزجره ‏ " ‏ قال ابن بطال‏ : ‏ ومن ثم قال جماعة من العلماء‏ : ‏ يصير بذلك مظاهرا إذا قصد ، [ ص: 300 ] فأرشده النبي صلى الله عليه وسلم إلى اجتناب اللفظ المشكل . قال‏ : ‏ وليس بين هذا الحديث وبين قصة إبراهيم معارضة ، لأن إباهيم إنما أراد بها أخته في الدين ، فمن قال ذلك ونوى أخوة الدين لم يضره‏ . قلت‏ : ‏ حديث أبي تميمة مرسل ، وقد أخرجه أبو داود من طريق مرس ، وفي بعضها ‏ " ‏ عن أبي تميمة عن رجل من قومه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم ‏ " ‏ وهذا متصل ، وذكر أبو داود قبله حديث أبي هريرة في قصة إبراهيم وسارة ، فكأنه وافق البخاري ، وقد قيد البخاري بكون قائل ذلك إذا كان مكرها لم يضره وتعقبه بعض الشراح بأنه لم يقع في قصة إبراهيم إكراه ، وهو كذلك لكن لا تعقب على البخاري لأنه أراد بذكر قصة إبراهيم الاستدلال على أن من قال ذلك في حالة الإكراه لا يضره قياسا على ما وقع في قصة إبراهيم ، لأنه إنما قال ذلك خوفا من الملك أن يغلبه على سارة ، وكان من شأنهم أن لا يقربوا الخلية إلا بخطبة ورضا ، بخلاف المتزوجة فكانوا يغتصبونها من زوجها إذا أحبوا ذلك كما تقدم تقريره في الكلام على الحديث في المناقب ، فلخوف إبراهيم على سارة قال إنها أخته وتأول أخوة الدين ، والله أعلم

                                                                                                                                                                                                        " تنبيه " :

                                                                                                                                                                                                        أورد النسفي في هذا الباب جميع ما في الترجمة التي بعده ، وعكس ذلك أبو نعيم في المستخرج " والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        [ ص: 301 ] قوله ( باب الطلاق في الإغلاق والكره والسكران والمجنون وأمرهما ، والغلط والنسيان في الطلاق ، والشرك وغيره لقول النبي صلى الله عليه وسلم : الأعمال بالنية ولكل امرئ ما نوى ) اشتملت هذه الترجمة على أحكام يجمعها أن الحكم إنما يتوجه على العاقل المختار العامد الذاكر ، وشمل ذلك الاستدلال بالحديث لأن غير العاقل المختار لا نية له فيما يقول أو يفعل ، وكذلك الغالط والناسي والذي يكره على الشيء . وحديث الأعمال بهذا اللفظ وصله المؤلف في كتاب الإيمان أول الكتاب ، ووصله بألفاظ أخرى في أماكن أخرى ، وتقدم شرحه مستوفى هناك . وقوله الإغلاق هو بكسر الهمزة وسكون المعجمة الإكراه على المشهور ، قيل له ذلك لأن المكره يتغلق عليه أمره ويتضيق عليه تصرفه ، وقيل هو العمل في الغضب ، وبالأول جزم أبو عبيد وجماعة ، وإلى الثاني أشار أبو داود فإنه أخرج حديث عائشة " لا طلاق ولا عتاق في غلاق " قال أبو داود : والغلاق أظنه الغضب ، وترجم على الحديث " الطلاق على غيظ " ووقع عنده بغير ألف في أوله ، وحكى البيهقي أنه روي على الوجهين ، ووقع عند ابن ماجه في هذا الحديث الإغلاق بالألف وترجم عليه " طلاق المكره " فإن كانت الرواية بغير ألف هي الراجحة فهو غير الإغلاق .

                                                                                                                                                                                                        قال المطرزي : قولهم إياك والغلق أي الضجر والغضب ، ورد الفارسي في " مجمع الغرائب " على من قال الإغلاق الغضب وغلطه في ذلك وقال : إن طلاق الناس غالبا إنما هـو في حال الغضب . وقال ابن المرابط : الإغلاق حرج النفس ، وليس كل من وقع له فارق عقله ، ولو جاز عدم وقوع طلاق الغضبان لكان لكل أحد أن يقول فيما جناه : كنت غضبانا اهـ . وأراد بذلك الرد على من ذهب إلى أن الطلاق في الغضب لا يقع ، وهو مروي عن بعض متأخري الحنابلة ولم يوجد عن أحد من متقدميهم إلا ما أشار إليه أبو داود ، وأما قوله في " المطالع " الإغلاق الإكراه وهو من أغلقت الباب ، وقيل الغضب وإليه ذهب أهل العراق ، فليس بمعروف عن الحنفية ، وعرف بعلة الاختلاف المطلق إطلاق أهل العراق على الحنفية ، وإذا أطلقه الفقيه الشافعي فمراده مقابل المراوزة منهم . ثم قال : وقيل معناه النهي عن إيقاع الطلاق البدعي مطلقا ، والمراد النفي عن فعله لا النفي لحكمه ، كأنه يقول بل يطلق للسنة كما أمره الله . وقول البخاري " والكره " هو في النسخ بضم الكاف وسكون الراء ، وفي عطفه على الإغلاق نظر ، إلا إن كان يذهب إلى أن الإغلاق الغضب ، ويحتمل أن يكون قبل الكاف ميم لأنه عطف عليه السكران فيكون التقدير باب حكم الطلاق في الإغلاق وحكم [ ص: 302 ] المكره والسكران والمجنون إلخ . وقد اختلف السلف في طلاق المكره ، فروى ابن أبي شيبة وغيره عن إبراهيم النخعي أنه يقع ، قال لأنه شيء افتدى به نفسه ، وبه قال أهل الرأي ، وعن إبراهيم النخعي تفصيل آخر إن ورى المكره لم يقع وإلا وقع ، وقال الشعبي : إن أكرهه اللصوص وقع وإن أكرهه السلطان فلا أخرجه ابن أبي شيبة ، ووجهه بأن اللصوص من شأنهم أن يقتلوا من يخالفهم غالبا بخلاف السلطان . وذهب الجمهور إلى عدم اعتبار ما يقع فيه ، واحتج عطاء بآية النحل إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان قال عطاء : الشرك أعظم من الطلاق ، أخرجه سعيد بن منصور بسند صحيح ، وقرره الشافعي بأن الله لما وضع الكفر عمن تلفظ به حال الإكراه وأسقط عنه أحكام الكفر فكذلك يسقط عن المكره ما دون الكفر لأن الأعظم إذا سقط سقط ما هـو دونه بطريق الأولى ، وإلى هذه النكتة أشار البخاري بعطف الشرك على الطلاق في الترجمة . وأما قوله " والسكران " فسيأتي ذكر حكمه في الكلام على أثر عثمان في هذا الباب ، وقد يأتي السكران في كلامه وفعله بما لا يأتي به وهو صاح لقوله تعالى حتى تعلموا ما تقولون فإن فيها دلالة على أن من علم ما يقول لا يكون سكران ، وأما المجنون فسيأتي في أثر علي مع عمر ، وقوله " وأمرهما " فمعناه هل حكمهما واحد أو يختلف ؟ وقوله " والغلط والنسيان في الطلاق والشرك وغيره " أي إذا وقع من المكلف ما يقتضي الشرك غلطا أو نسيانا هـل يحكم عليه به وإذا كان لا يحكم عليه به فليكن الطلاق كذلك ، وقوله " وغيره " أي وغير الشرك مما هـو دونه ، وذكر شيخنا ابن الملقن أنه في بعض النسخ " والشك " بدل الشرك ، قال : وهو الصواب ، وتبعه الزركشي لكن قال : وهو أليق ، وكأن مناسبة لفظ الشرك خفيت عليهما ، ولم أره في شيء من النسخ التي وقفت عليها بلفظ الشك ، فإن ثبتت فتكون معطوفة على النسيان لا على الطلاق . ثم رأيت سلف شيخنا وهو قول ابن بطال وقع في كثير من النسخ " والنسيان في الطلاق والشرك " وهو خطأ والصواب " والشك " مكان الشرك اهـ ، ففهم شيخنا من قوله في كثير من النسخ أن في بعضها لفظ الشك فجزم بذلك . واختلف السلف في طلاق الناسي فكان الحسن يراه كالعمد إلا إن اشترط فقال إلا أن أنسى أخرجه ابن أبي شيبة ، وأخرج ابن أبي شيبة أيضا عن عطاء أنه كان لا يراه شيئا ويحتج بالحديث المرفوع الآتي كما سأقرره بعد وهو قول الجمهور ، وكذلك اختلف في طلاق المخطئ فذهب الجمهور إلى أنه لا يقع ، وعن الحنفية ممن أراد أن يقول لامرأته شيئا فسبقه لسانه فقال أنت طالق يلزمه الطلاق ، وأشار البخاري بقوله " الغلط والنسيان " إلى الحديث الوارد عن ابن عباس مرفوعا " إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " فإنه سوى بين الثلاثة في التجاوز ، فمن حمل التجاوز على رفع الإثم خاصة دون الوقوع في الإكراه لزم أن يقول مثل ذلك في النسيان ، والحديث قد أخرجه ابن ماجه وصححه ابن حبان . واختلف أيضا في طلاق المشرك فجاء عن الحسن وقتادة وربيعة أنه لا يقع ، ونسب إلى مالك وداود . وذهب الجمهور إلى أنه يقع كما يصح نكاحه وعتقه وغير ذلك من أحكامه .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( وتلا الشعبي : لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ) ورويناه موصولا في " فوائد هناد بن السري الصغير " من رواية سليم مولى الشعبي عنه بمعناه .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( وما لا يجوز من إقرار الموسوس ) بمهملتين والواو الأولى مفتوحة والثانية مكسورة .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( وقال النبي صلى الله عليه وسلم للذي أقر على نفسه : أبك جنون ؟ ) هو طرف من حديث ذكره المصنف في هذا الباب بلفظ " هل بك جنون " وأورده في الحدود ، ويأتي شرحه هناك مستوفى إن شاء الله تعالى . ووقع في بعض طرقه ذكر السكر .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( وقال علي : بقر حمزة خواصر شارفي ) الحديث هو طرف من الحديث الطويل في قصة الشارفين وقد تقدم شرحه مستوفى في غزوة بدر من كتاب المغازي . و " بقر " بفتح الموحدة وتخفيف القاف أي شق ، والخواصر [ ص: 303 ] بمعجمة ثم مهملة جمع خاصرة ، وقوله في آخره " إنه ثمل " بفتح المثلثة وكسر الميم بعدها لام أي سكران ، وهو من أقوى أدلة من لم يؤاخذ السكران بما يقع منه في حال سكره من طلاق وغيره ، واعترض المهلب بأن الخمر حينئذ كانت مباحة ، قال : فبذلك سقط عنه حكم ما نطق به في تلك الحال ، قال : وبسبب هذه القصة كان تحريم الخمر اهـ . وفيما قاله نظر ، أما أولا فإن الاحتجاج من هذه القصة إنما هو بعد مؤاخذة السكران بما يصدر منه ، ولا يفترق الحال بين أن يكون الشرب مباحا أو لا ، وأما ثانيا فدعواه أن تحريم الخمر كان بسبب قصة الشارفين ليس بصحيح ، فإن قصة الشارفين كانت قبل أحد اتفاقا لأن حمزة استشهد بأحد وكان ذلك بين بدر وأحد عند تزويج علي بفاطمة وقد ثبت في الصحيح أن جماعة اصطبحوا الخمر يوم أحد واستشهدوا ذلك اليوم ، فكان تحريم الخمر بعد أحد لهذا الحديث الصحيح .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( وقال عثمان : ليس لمجنون ولا لسكران طلاق ) وصله ابن أبي شيبة عن شبابة ، ورويناه في الجزء الرابع من " تاريخ أبي زرعة الدمشقي " عن آدم بن أبي إياس كلاهما عن ابن أبي ذئب عن الزهري قال " قال رجل لعمر بن عبد العزيز : طلقت امرأتي وأنا سكران ، فكان رأي عمر بن عبد العزيز مع رأينا أن يجلده ويفرق بينه وبين امرأته ، حتى حدثه أبان بن عثمان بن عفان عن أبيه أنه قال : ليس على المجنون ولا على السكران طلاق ، قال عمر : تأمرونني وهذا يحدثني عن عثمان ؟ فجلده ، ورد إليه امرأته " وذكر البخاري أثر عثمان ثم ابن عباس استظهارا لما دل عليه حديث علي في قصة حمزة ، وذهب إلى عدم وقوع طلاق السكران أيضا أبو الشعثاء وعطاء وطاوس وعكرمة والقاسم وعمر بن عبد العزيز ، ذكره ابن أبي شيبة عنهم بأسانيد صحيحة ، وبه قال ربيعة والليث وإسحاق والمزني ، واختاره الطحاوي واحتج بأنهم أجمعوا على أن طلاق المعتوه لا يقع قال : والسكران معتوه بسكره . وقال بوقوعه طائفة من التابعين كسعيد بن المسيب والحسن وإبراهيم والزهري والشعبي ، وبه قال الأوزاعي والثوري ومالك وأبو حنيفة ، وعن الشافعي قولان : المصحح منهما وقوعه ، والخلاف عند الحنابلة لكن الترجيح بالعكس ، وقال ابن المرابط : إذا تيقنا ذهاب عقل السكران . لم يلزمه طلاق ، وإلا لزمه .

                                                                                                                                                                                                        وقد جعل الله حد السكر الذي تبطل به الصلاة أن لا يعلم ما يقول ، وهذا التفصيل لا يأباه من يقول بعدم طلاقه ، وإنما استدل من قال بوقوعه مطلقا بأنه عاص بفعله لم يزل عنه الخطاب بذلك ، ولا الإثم لأنه يؤمر بقضاء الصلوات وغيرها مما وجب عليه قبل وقوعه في السكر أو فيه ، وأجاب الطحاوي بأنه لا تختلف أحكام فاقد العقل بين أن يكون ذهاب عقله بسبب من جهته أو من جهة غيره ، إذ لا فرق بين من عجز عن القيام في الصلاة بسبب من قبل الله أو من قبل نفسه كمن كسر رجل نفسه فإنه يسقط عنه فرض القيام ، وتعقب بأن القيام انتقل إلى بدل وهو القعود فافترقا . وأجاب ابن المنذر عن الاحتجاج بقضاء الصلوات بأن النائم يجب عليه قضاء الصلاة ولا يقع طلاقه فافترقا . وقال ابن بطال : الأصل في السكران العقل ، والسكر شيء طرأ على عقله ، فمهما وقع منه من كلام مفهوم فهو محمول على الأصل حتى يثبت ذهاب عقله .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( وقال ابن عباس : طلاق السكران والمستكره ليس بجائز ) وصله ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور جميعا عن هشيم عن عبد الله بن طلحة الخزاعي عن أبي يزيد المزني عن عكرمة عن ابن عباس قال " ليس لسكران ولا لمضطهد طلاق " المضطهد : بضاد معجمة ساكنة ثم طاء مهملة مفتوحة ثم هاء ثم مهملة هو المغلوب المقهور ، وقوله " ليس بجائز " أي بواقع ، إذ لا عقل للسكران المغلوب على عقله ولا اختيار للمستكره .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( وقال عقبة بن عامر : لا يجوز طلاق الموسوس ) أي لا يقع ، لأن الوسوسة حديث النفس ، ولا مؤاخذة بما يقع في النفس كما سيأتي .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( وقال عطاء : إذا بدأ بالطلاق فله شرطه ) تقدم مشروحا في " باب الشروط في الطلاق " وتقدم عن [ ص: 304 ] عطاء وسعيد بن المسيب والحسن ، وبينت من وصله عنهم ومن خالف في ذلك .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( وقال نافع : طلق رجل امرأته ألبتة إن خرجت ، فقال ابن عمر : إن خرجت فقد بتت منه ، وإن لم تخرج فليس بشيء ) أما قوله " ألبتة " فإنه بالنصب على المصدر ، قال الكرماني هنا قال النحاة : قطع همزة ألبتة بمعزل عن القياس اهـ ، وفي دعوى أنها يقال بالقطع نظر فإن ألف ألبتة ألف وصل قطعا ، والذي قاله أهل اللغة ألبتة القطع وهو تفسيرها بمرادفها لا أن المراد أنها تقال بالقطع ، وأما قوله " بتت " فبضم الموحدة وتشديد المثناة المفتوحة على البناء للمجهول ، ومناسبة ذكر هذا هـنا - وإن كانت المسائل المتعلقة بالبتة تقدمت - موافقة ابن عمر للجمهور في أن لا فرق في الشرط بين أن يتقدم أو يتأخر ، وبهذا تظهر مناسبة أثر عطاء وكذا ما بعد هذا . وقد أخرج سعيد بن منصور من وجه صحيح عن ابن عمر أنه قال " في الخلية والبتة ثلاث ثلاث " .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( وقال الزهري فيمن قال إن لم أفعل كذا وكذا فامرأتي طالق ثلاثا : يسأل عما قال وعقد عليه قلبه حين حلف بتلك اليمين ، فإن سمى أجلا أراده وعقد عليه قلبه حين حلف جعل ذلك في دينه وأمانته ) أي يدين فيما بينه وبين الله تعالى ، أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن الزهري مختصرا ولفظه " في الرجلين يحلفان بالطلاق والعتاقة على أمر يختلفان فيه ولم يقم على واحد منهما بينة على قوله قال : يدينان ويحملان من ذلك ما تحملا . وعن معمر عمن سمع الحسن مثله .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( وقال إبراهيم : إن قال لا حاجة لي فيك نيته ) أي إن قصد طلاقا طلقت وإلا فلا ، قال ابن أبي شيبة حدثنا حفص هو ابن غياث عن إسماعيل عن إبراهيم في رجل قال لامرأته لا حاجة لي فيك قال : نيته . وعن وكيع عن شعبة سألت الحكم وحمادا قالا : إن نوى طلاقا فواحدة ، وهو أحق بها .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( وطلاق كل قوم بلسانهم ) وصله ابن أبي شيبة قال " حدثنا إدريس قال حدثنا ابن أبي إدريس وجرير فالأول عن مطرف والثاني عن المغيرة كلاهما عن إبراهيم قال : طلاق العجمي بلسانه جائز " ومن طريق سعيد بن جبير قال " إذا طلق الرجل بالفارسية يلزمه " .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( وقال قتادة : إذا قال إذا حملت فأنت طالق ثلاثا يغشاها عند كل طهر مرة ، فإن استبان حملها فقد بانت منه ) وصله ابن أبي شيبة عن عبد الأعلى عن سعيد بن أبي عروة عن قتادة مثله لكن قال " عند كل طهر مرة ثم يمسك حتى تطهر " وذكر بقيته نحوه ، ومن طريق أشعث عن الحسن " يغشاها إذا طهرت من الحيض ثم يمسك عنها إلى مثل ذلك " وقال ابن سيرين " يغشاها حتى تحمل " وبهذا قال الجمهور ، واختلفت الرواية عن مالك : ففي رواية ابن القاسم إن وطئها مرة بعد التعليق طلقت سواء استبان بها حملها أم لا ، وإن وطئها في الطهر الذي قال لها ذلك بعد الوطء طلقت مكانها . وتعقبه الطحاوي بالاتفاق على أن مثل ذلك إذا وقع في تعليق العتق لا يقع إلا إذا وجد الشرط ، قال : فكذلك الطلاق فليكن .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( وقال الحسن : إذا قال الحقي بأهلك نيته ) وصله عبد الرزاق بلفظ " هو ما نوى " وأخرجه ابن أبي شيبة من وجه آخر عن الحسن " في رجل قال لامرأته اخرجي استبرئي ، اذهبي لا حاجة لي فيك هي تطليقة إن نوى الطلاق " .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( وقال ابن عباس : الطلاق عن وطر ، والعتاق ما أريد به وجه الله ) أي أنه لا ينبغي للرجل أن يطلق امرأته إلا عند الحاجة كالنشوز ، بخلاف العتق فإنه مطلوب دائما ، والوطر بفتحتين الحاجة ، قال أهل اللغة : ولا يبنى منها فعل .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( وقال الزهري : إن قال ما أنت بامرأتي نيته ، وإن نوى طلاقا فهو ما نوى ) وصله ابن أبي شيبة [ ص: 305 ] عن عبد الأعلى عن معمر عن الزهري " في رجل قال لامرأته لست لي بامرأة قال : هو ما نوى " ومن طريق قتادة " إذا واجهها به وأراد الطلاق فهي واحدة " وعن إبراهيم " إن كرر ذلك مرارا ما أراه أراد إلا الطلاق " وعن قتادة " إن أراد طلاقا طلقت " وتوقف سعيد بن المسيب ، وقال الليث " هي كذبة " وقال أبو يوسف ومحمد " لا يقع بذلك طلاق " .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( وقال علي : ألم تعلم أن القلم رفع عن ثلاثة عن المجنون حتى يفيق ، وعن الصبي حتى يدرك ، وعن النائم حتى يستيقظ ) وصله البغوي في " الجعديات " عن علي بن الجعد عن شعبة عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس " أن عمر أتي بمجنونة قد زنت وهي حبلى ، فأراد أن يرجمها فقال له علي : أما بلغك أن القلم قد وضع عن ثلاثة " فذكره ، وتابعه ابن نمير ووكيع وغير واحد عن الأعمش ، ورواه جرير بن حازم عن الأعمش فصرح فيه بالرفع أخرجه أبو داود وابن حبان من طريقه ، وأخرجه النسائي من وجهين آخرين عن أبي ظبيان مرفوعا وموقوفا لكن لم يذكر فيهما ابن عباس ، جعله عن أبي ظبيان عن علي ورجح الموقوف على المرفوع ، وأخذ بمقتضى هذا الحديث الجمهور ، لكن اختلفوا في إيقاع طلاق الصبي ، فعن ابن المسيب والحسن يلزمه إذا عقل وميز ، وحده عند أحمد أن يطيق الصيام ويحصي الصلاة ، وعند عطاء إذا بلغ اثنتي عشرة سنة ، وعن مالك رواية إذا ناهز الاحتلام .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( وقال علي : وكل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه ) وصله البغوي في " الجعديات " عن علي بن الجعد عن شعبة عن الأعمش عن إبراهيم النخعي عن عابس بن ربيعة " أن عليا قال : كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه " وهكذا أخرجه سعيد بن منصور عن جماعة من أصحاب الأعمش عنه صرح في بعضها بسماع عابس بن ربيعة من علي ، وقد ورد فيه حديث مرفوع أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة مثل قول علي وزاد في آخره " المغلوب على عقله " وهو من رواية عطاء بن عجلان وهو ضعيف جدا . والمراد بالمعتوه - وهو بفتح الميم وسكون المهملة وضم المثناة وسكون الواو بعدها هـاء - الناقص العقل ، فيدخل فيه الطفل والمجنون والسكران ; والجمهور على عدم اعتبار ما يصدر منه ، وفيه خلاف قديم ذكر ابن أبي شيبة من طريق نافع أن المحبر بن عبد الرحمن طلق امرأته وكان معتوها فأمرها ابن عمر بالعدة ، فقيل له : إنه معتوه ، فقال : إني لم أسمع الله استثنى للمعتوه طلاقا ولا غيره . وذكر ابن أبي شيبة عن الشعبي وإبراهيم وغير واحد مثل قول علي .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( حدثنا مسلم ) هو ابن إبراهيم ، وهشام هو الدستوائي .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( عن زرارة ) تقدم القول فيه في أوائل العتق ، وذكرت فيه بعض فوائده ، ويأتي بقيتها في كتاب الأيمان والنذور ، وقوله " ما حدثت به أنفسها " بالفتح على المفعولية ، وذكر المطرزي عن أهل اللغة أنهم يقولونه بالضم يريدون بغير اختيارها ، وقد أسند الإسماعيلي عن عبد الرحمن بن مهدي قال ليس عند قتادة حديث أحسن من هذا ، وهذا الحديث حجة في أن الموسوس لا يقع طلاقه والمعتوه والمجنون أولى منه بذلك ، واحتج الطحاوي بهذا الحديث للجمهور فيمن قال لامرأته أنت طالق ونوى في نفسه ثلاثا أنه لا يقع إلا واحدة - خلافا للشافعي ومن وافقه - قال : لأن الخبر دل على أنه لا يجوز وقوع الطلاق بنية لا لفظ معها ، وتعقب بأنه لفظ بالطلاق ونوى الفرقة التامة فهي نية صحبها لفظ ; واحتج به أيضا لمن قال فيمن قال لامرأته يا فلانة ونوى بذلك طلاقها أنها لا تطلق ، خلافا لمالك وغيره ، لأن الطلاق لا يقع بالنية دون اللفظ ولم يأت بصيغة لا صريحة ولا كناية ، واستدل به على أن من كتب الطلاق طلقت امرأته لأنه عزم بقلبه وعمل بكتابته وهو قول الجمهور ، وشرط مالك فيه الإشهاد على ذلك ، واحتج من قال : إذا طلق نفسه طلقت - وهو مروي عن ابن سيرين والزهري - وعن مالك رواية ذكرها أشهب عنه وقواها ابن العربي ، بأن من اعتقد الكفر بقلبه كفر ومن أصر على المعصية أثم [ ص: 306 ] وكذلك من راءى بعمله وأعجب ، وكذا من قذف مسلما بقلبه ، وكل ذلك من أعمال القلب دون اللسان . وأجيب بأن العفو عن حديث النفس من فضائل هذه الأمة ، والمصر على الكفر ليس منهم ، وبأن المصر على المعصية الآثم من تقدم له عمل المعصية لا من لم يعمل معصية قط ، وأما الرياء والعجب وغير ذلك فكله متعلق بالأعمال . واحتج الخطابي بالإجماع على أن من عزم على الظهار لا يصير مظاهرا قال : وكذلك الطلاق ، وكذا لو حدث نفسه بالقذف لم يكن قاذفا ، ولو كان حديث النفس يؤثر لأبطل الصلاة ، وقد دل الحديث الصحيح على أن ترك الحديث مندوب فلو وقع لم تبطل ، وتقدم البحث في الصلاة في ذلك في قول عمر " إني لأجهز جيشي وأنا في الصلاة " الحديث الثاني حديث جابر في قصة الذي أقر بالزنا فرجم ، ذكرها من طريق يونس عن الزهري عن أبي سلمة عن جابر ، ويأتي شرحه مستوفى في كتاب الحدود ، والمراد منه ما أشار إليه في الترجمة من قوله " هل بك جنون " فإن مقتضاه أنه لو كان مجنونا لم يعمل بإقراره ، ومعنى الاستفهام هل كان بك جنون أو هل تجن تارة وتفيق تارة ؟ وذلك أنه كان حين المخاطبة مفيقا . ويحتمل أن يكون وجه له الخطاب والمراد استفهام من حضر ممن يعرف حاله ، وسيأتي بسط ذلك إن شاء الله تعالى . الحديث الثالث حديث أبي هريرة في القصة المذكورة ، أوردها من طريق شعيب عن الزهري عن أبي سلمة وسعيد بن المسيب جميعا عن أبي هريرة ، وسيأتي شرحها أيضا في الحدود ، وقوله في هذه الرواية " أن الآخر قد زنى " بفتح الهمزة وكسر الخاء المعجمة أي المتأخر عن السعادة وقيل معناه الأرذل .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( وقال قتادة إذا طلق في نفسه فليس بشيء ) وصله عبد الرزاق عن معمر عن قتادة والحسن قالا : من طلق سرا في نفسه فليس طلاقه ذلك بشيء ، وهذا قول الجمهور وخالفهم ابن سيرين وابن شهاب فقالا تطلق ، وهي رواية عن مالك .

                                                                                                                                                                                                        " تنبيه " :

                                                                                                                                                                                                        وقع هذا الأثر عن قتادة في رواية النسفي عقب حديث قتادة المرفوع المذكور هنا بعد ، فلما ساقه من طريق قتادة عن زرارة عن أبي هريرة فذكر الحديث المرفوع قال بعده " قال قتادة " فذكره . ثم ذكر المصنف في الباب ثلاثة أحاديث . الحديث الأول




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية