الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ) الخطاب لآدم وحواء عليهما السلام ، وللشيطان عليه اللعنة والملام ، أي اهبطوا من هذه الجنة أو من هذه المكانة - على ما تقدم مثله في قصة إبليس - بعضكم وهو الشيطان ، عدو لبعض وهو الإنسان ، وأما الإنسان فليس عدوا للشيطان ، لأنه ليس مندفعا إلى إغوائه وإيذائه ، وإنما يجب عليه أن يتخذه عدوا بألا يغفل عن عداوته له ولا يأمن وسوسته وإغواءه ، كما قال تعالى : ( إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير ) ( 35 : 6 ) وقيل : إن الخطاب لهما [ ص: 313 ] بالذات ولذريتهما بالتبع وفيه خطاب المعدوم - وقيل : هو خطاب لهما فقط بدليل قوله في سورة طه : ( قال اهبطا منها ) ( 20 : 123 ) إلخ . وفي هذه التثنية قولان للمفسرين : أحدهما أنها لآدم وحواء . والثاني أنها لآدم وإبليس ، وحواء تبع لآدم ، وهذا أقوى لأنه جعل بعض المخاطبين عدوا لبعض ، وإنما العداوة بين الإنسان والشيطان ، لا بين المرء وزوجه التي خلقت ليسكن إليها وتكون بينهما المودة والرحمة ، فعجبا لمن غفل عن هذا ! ويحتمل أن تكون التثنية للفريقين ، فريقي الإنسان والشيطان . والمتبادر أن هذا الإخراج من ذلك النعيم عقاب على تلك المعصية ، وتأويل لكونها ظلما منهما لأنفسهما ، وهو من نوع العقاب الذي قضت سنته تعالى في طبيعة الخلق أن يكون أثرا طبيعيا للعمل السيئ ، مترتبا عليه ترتب المسبب على السبب . وأما النوع الآخر من العقاب عليه من حيث هو عصيان للرب تعالى الذي يكون في الآخرة ، فقد غفره تعالى لهما بالتوبة التي ذهبت بأثره من النفس وجعلتها محلا لاصطفائه تعالى كما قال في سورة طه : ( وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى ) ( 20 : 121 ، 122 ) .

                          ( ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين ) أي ولكم في الأرض استقرار أو مكان تستقرون فيه ، ومتاع تنتفعون به في معيشتكم إلى حين ، أي زمن مقدر في علم الله تعالى ، وهو الأجل الذي تنتهي فيه أعماركم وتقوم به قيامتكم ، والمستقر يطلق مصدرا بمعنى الاستقرار واسم مكان منه ، والمتاع ما ينتفع به ، وهذا المستقر والمتاع هنا بمعنى قوله تعالى في أول هذا السياق : ( ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش ) فهو تعالى يذكرنا فيما خاطب به آخرنا على لسان آخر رسله وخاتمهم صلى الله عليه وسلم بما قاله لأولنا .

                          ثم بين تعالى هذا القول المجمل بما هو جدير أن يفكر فيه ويسأل عنه فاستأنفه كسابقه وهو ( قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون ) أي في هذه الأرض التي خلقتم منها تحيون مدة العمر المقدر لكل منكم ولمجموع نوعكم - أو نوعيكم على أن إبليس داخل في الخطاب ، وفيه دليل على أنه لا يبقى إلى يوم البعث ، وفيها تموتون عند انتهائه ، ومنها تخرجون بعد موت الجميع وعندما يريد الخالق أن يبعثكم يوم القيامة للنشأة الآخرة ، كما قال في سورة طه : ( منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى ) ( 20 : 55 ) وهي تشبه النشأة الأولى إذ قال : ( كما بدأكم تعودون ) ( 7 : 29 ) وقال مذكرا بها : ( نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون ) ( 56 : 60 - 62 ) .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية