الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ومن المباحث الكلامية في الآية قول الأشعرية : إن الثواب كله بفضل الله تعالى ولا يستحق أحد من المحسنين منه شيئا ، وقول المعتزلة : إن الثواب هو المنفعة المستحقة على العمل والتفضل المنفعة غير المستحقة ، وإن الثواب يجب أن يكون أعظم من التفضل في الكثرة والشرف ، إذ لو جاز العكس أو المساواة لم يبق في التكليف فائدة فيكون عبثا وقبيحا ، من ثم قال الجبائي وغيره : يجب أن تكون العشرة الأمثال في جزاء الحسنة تفضلا والثواب غيرها وهو أعظم منها . وقال آخرون : يجوز أن يكون أحد العشرة هو الثواب والتسعة تفضلا بشرط أن يكون الواحد أعظم وأعلى شأنا من التسعة . ونقول : إن هذه النظريات كلها ضعيفة ولا فائدة فيها ، وإذا كان التفضل ما زاد وفضل على أصل الثواب المستحق بوعد الله تعالى وحكمته وعدله فأي مانع أن يزيد الفرع على الأصل وهو تابع له ومتوقف عليه ، وإنما كان يكون الثواب حينئذ عبثا على تقدير التسليم لو كان التفضل يحصل بدونه فيستغنى به عنه كما هو واضح .

                          وقد أورد الرازي في تفسير الآية إشكالات شرعية وأجاب عنها أجوبة ضعيفة قال : ( الأول ) كفر ساعة كيف يوجب عقاب الأبد على نهاية التغليظ . ( جوابه ) أنه كان الكافر على عزم أنه لو عاش أبدا لبقي على ذلك الاعتقاد أبدا ، فلما كان ذلك العزم مؤبدا عوقب عقاب الأبد ، خلاف المسلم المذنب فإنه يكون على عزم الإقلاع عن ذلك الذنب فلا جرم كانت عقوبته منقطعة . انتهى بنصه .

                          ونقول في الرد عليه : ( أولا ) إننا لا نسلم أن كل كافر يعزم أو يخطر بباله العزم المذكور ولا سيما من عرضت له عقيدة أو فعلة مما عدوه كفرا ساعة من الزمان ومات عليها ، والكفر عند المتكلمين والفقهاء لا ينحصر في جحود العناد وربما كان أكثر الكفار يعتقدون أنهم مؤمنون ناجون عند الله تعالى . ( ثانيا ) أن كون العقاب الأبدي على العزم المذكور يحتاج إلى نص ، والعقل لا يوجبه بل لا يوجب عند الأشعرية حكما ما من أحكام الشرع ، وهذا الإشكال لا يرد على ما جرينا عليه هنا تبعا لما وضحناه مرارا من كون الجزاء على قدر تأثير الاعتقاد والعمل في النفس . ( ثالثها ) قد تنصل بعض العلماء من هذا الإشكال بمثل ما نقلناه في تفسير ( خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم ) ( 128 ) وهو يرجع إلى قولين : أحدهما نفي كون العذاب أبديا لا نهاية له ، وثانيهما تفويض الأمر فيه إلى حكمة الله تعالى وعلمه . [ ص: 209 ] ثم قال : ( الثاني ) إعتاق الرقبة الواحدة ، تارة جعل بدلا عن صيام ستين يوما وهو في كفارة الظهار ، وتارة جعل بدلا عن صيام أيام قلائل ، وذلك يدل على أن المساواة غير معتبرة . ( جوابه ) أن المساواة إنما تحصل بوضع الشرع وحكمه اهـ .

                          ونقول : إن جعل الشرع العتق كفارة لذنوب متفاوتة إنما لعنايته بتحرير الرقيق ، وهو لا ينافي كون كل ذنب منها له جزاء في الآخرة بقدره ، يشير إليه تفاوت الكفارة بالصيام .

                          ثم قال : ( الثالث ) إذا أحدث في رأس إنسان موضحتين وجب فيه أرشان فإن رفع الحاجز بينهما صار الواجب أرش موضحة واحدة فهاهنا ازدادت الجناية وقل العقاب فالمساواة غير معتبرة . ( وجوابه ) أن ذلك من باب تعبدات الشرع وتحكماته اهـ .

                          ونقول : إن ما ذكره من القصاص في شجة الرأس الموضحة ( وهي ما كشف العظم ) والموضحتين ليس مما ورد فيه نص الشرع بكتاب ولا سنة وتعبدنا به تعبدا ، وإنما ورد في الحديث : أرش الموضحة خمس من الإبل ، فإذا شج رجل رجلا موضحتين ثم أزال هو أو غيره الحاجز بينهما فصار كالموضحة الواحدة لا نسلم أن الحكم يتبدل فيصير الواجب أرش موضحة واحدة كما قال ، وإن قاله معه مائة فقيه مثله .

                          ثم قال : ( الرابع ) إنه يجب في مقابلة تفويت كل واحد من الأعضاء دية كاملة ثم إذا قتله وفوت كل الأعضاء وجبت دية واحدة وذلك يمنع القول من رعاية المماثلة ( وجوابه ) أن ذلك من باب تعبدات الشرع وتحكماته اهـ .

                          ونقول فيه : إنه هو وما قبله ليس من تعبدات الشرع وتحكماته كما زعم بادي الرأي بغير روية ; وذلك أن القتل يوجب القصاص لا الدية إذا كان عن تعمد ، إلا أن يعفو ولي لدم ويرضى بالدية . وفساد قتل الخطأ الموجب للدية دون فساد قطع اليد أو الرجل أو قلع العين تعمدا ; على أن عقوبات الدنيا لا يجب أن تكون معيارا لعقوبات الآخرة فإنها يراعى فيها من مصالح العباد ما لا محل له في الآخرة ، كقطع يد السارق بشرطه يراعى فيه ردع المجرمين وتخويفهم من عاقبة هذا العمل الذي يزيل أمن الناس على أموالهم ويسلب راحتهم ويكلفهم بذل مال كثير وعناء عظيم في حفظ أموالهم - وبهذا المعنى يستوي سارق الدينار أو ربع الدينار وسارق الألوف من الدنانير والجواهر ، وحسبنا هذا التنبيه هنا .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية