الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      الفرع الثامن : أجمع العلماء على مشروعية صلاة ركعتين بعد الطواف ، ولكنهم اختلفوا في ركعتي الطواف ، هل حكمهما الوجوب أو السنية ؟ فقال بعض أهل العلم : إن ركعتي الطواف واجبتان ، واستدلوا لوجوبهما بصيغة الأمر في قوله : واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى [ 2 \ 125 ] على قراءة ابن كثير ، وأبي عمرو ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي ، قالوا : والنبي صلى الله عليه وسلم لما طاف : قرأ هذه الآية الكريمة ، وصلى ركعتين خلف المقام ، ممتثلا بذلك الأمر في قوله : واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى . وقد قال صلى الله عليه وسلم : " خذوا عني مناسككم " ، والأمر في قوله : واتخذوا على القراءة المذكورة يقتضي الوجوب كما بيناه مرارا في هذا الكتاب المبارك . وقال جمهور العلماء : إن ركعتي الطواف من السنن ، لا من الواجبات ، واستدلوا لعدم وجوبهما بحديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه الثابت في الصحيح . قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من أهل نجد ثائر الرأس ، يسمع دوي صوته ، ولا يفقه ما يقول ، فإذا هو يسأل عن الإسلام ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خمس صلوات في اليوم والليلة ، فقال : هل علي غيرها ؟ قال : لا ، إلا أن تطوع " الحديث . قالوا : وفي هذا الحديث الصحيح التصريح بأنه لا يجب شيء من الصلاة غير الخمس المكتوبة ، وقد يجاب عن هذا الاستدلال : بأن الأمر بصلاة ركعتي الطواف خلف المقام وارد بعد قوله صلى الله عليه وسلم : " لا ، إلا أن تطوع " ، والعلم عند الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      والمستحب أن يقرأ في الأولى من ركعتي الطواف : قل ياأيها الكافرون [ 109 ] وفي الثانية : قل هو الله أحد [ 112 ] كما هو ثابت في حديث جابر . وجمهور أهل العلم على أن ركعتي الطواف لا يشترط في صحة صلاتهما أن تكون خلف المقام ، بل لو صلاهما في أي موضع غيره صح ذلك . ولو طاف في وقت نهي ، فأحد قولي أهل العلم : إنه يؤخر صلاتهما إلى وقت لا نهي عن النافلة فيه ، ومما يدل على هذين [ ص: 411 ] الأمرين أعني صحة صلاتهما في موضع آخر ، وتأخير صلاتهما إلى وقت غير وقت النهي الذي طاف فيه ما ذكره البخاري في صحيحه تعليقا بصيغة الجزم ، قال : باب الطواف بعد الصبح والعصر ، وكان ابن عمر رضي الله عنهما : يصلي ركعتي الطواف ما لم تطلع الشمس ، وطاف عمر بعد الصبح ، فركب حتى صلى الركعتين بذي طوى . وفعل عمر رضي الله عنه هذا الذي ذكره البخاري يدل على عدم اشتراط كون الركعتين خلف المقام ، بل تصح صلاتهما في أي موضع صلاهما فيه ، وأن تأخيرهما عن وقت النهي هو الصواب ، وممن قال به : أبو سعيد الخدري ، ومعاذ بن عفراء ، ومالك ، وأصحابه : وعزاه بعضهم إلى الجمهور ، وقد قدمنا مرارا قول من يقول من أهل العلم : إن ذوات الأسباب الخاصة من الصلوات لا تدخل في عموم النهي في أوقات النهي ، إلا أن القاعدة المقررة في الأصول : أن درأ المفاسد مقدم على جلب المصالح .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الشافعي ، وأصحابه : إن صلاة ركعتي الطواف جائزة في أوقات النهي بلا كراهة ، واستدلوا لذلك بدليلين :

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما : عام وهو أن ذوات الأسباب الخاصة من الصلوات لا تدخل في عموم النهي ; لأن سببها الخاص ، يخرجها من عموم النهي ، كركعتي الطواف فإنهما لسبب خاص هو الطواف . وكتحية المسجد في وقت النهي ، ونحو ذلك ، وأحدهما خاص : وهو ما ورد في خصوص البيت الحرام ، كحديث جبير بن مطعم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار " ، رواه الإمام أحمد ، وأصحاب السنن ، وصححه الترمذي ، ورواه أيضا ابن خزيمة ، وابن حبان ، والدارقطني ، قال ابن حجر في التلخيص في هذا الحديث : رواه الشافعي ، وأحمد ، وأصحاب السنن ، وابن خزيمة ، وابن حبان ، والدارقطني ، والحاكم من حديث أبي الزبير ، عن عبد الله بن باباه ، عن جبير بن مطعم ، وصححه الترمذي ، ورواه الدارقطني من وجهين آخرين ، عن نافع بن جبير ، عن أبيه ، ومن طريقين آخرين عن جابر ، وهو معلول ، فإن المحفوظ عن أبي الزبير ، عن عبد الله بن باباه ، عن جبير ، لا عن جابر . وأخرجه الدارقطني أيضا ، عن ابن عباس من رواية مجاهد عنه ، ورواه الطبراني من رواية عطاء ، عن ابن عباس ، ورواه أبو نعيم في تاريخ أصبهان ، والخطيب في التلخيص من طريق ثمامة بن عبيدة ، عن أبي الزبير ، عن علي بن عبد الله بن عباس ، عن أبيه ، وهو معلول . وروى ابن عدي من طريق سعيد بن أبي راشد ، عن عطاء ، عن أبي هريرة [ ص: 412 ] حديث : " لا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس " ، الحديث ، وزاد في آخره : " من طاف فليصل " ؛ أي : حين طاف ، وقال : لا يتابع عليه ، وكذا قال البخاري . وروى البيهقي من طريق عبد الله بن باباه ، عن أبي الدرداء : أنه طاف بعد العصر عند مغارب الشمس ، فصلى الركعتين ، وقال : إن هذه البلدة ليست كغيرها .

                                                                                                                                                                                                                                      تنبيه

                                                                                                                                                                                                                                      عزا المجد ابن تيمية حديث جبير لمسلم ، فإنه قال : رواه الجماعة إلا البخاري . وهذا وهم منه تبعه عليه المحب الطبري ، فقال : رواه السبعة إلا البخاري ، وابن الرفعة ، فقال : رواه مسلم ، ولفظه : " لا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار ، " وكأنه والله أعلم : لما رأى ابن تيمية عزاه إلى الجماعة ، دون البخاري اقتطع مسلما من بينهم ، واكتفى به عنهم ، ثم ساقه باللفظ الذي أورده ابن تيمية ، فأخطأ مكررا .

                                                                                                                                                                                                                                      فائدة

                                                                                                                                                                                                                                      قال البيهقي : يحتمل أن يكون المراد بهذه الصلاة صلاة الطواف خاصة : وهو الأشبه بالآثار ، ويحتمل جميع الصلوات . انتهى كلام ابن حجر في التلخيص الحبير .

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا الذي ذكرنا عن الشافعي ، وأصحابه من جواز صلاة ركعتي الطواف في أوقات النهي بلا كراهة ، حكاه ابن المنذر ، عن ابن عمر ، وابن عباس ، والحسن ، والحسين بن علي ، وابن الزبير ، وطاوس ، وعطاء ، والقاسم بن محمد ، وعروة ، ومجاهد ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبي ثور . انتهى بواسطة نقل النووي في شرح المهذب .

                                                                                                                                                                                                                                      ومما استدلوا به على ذلك ما رواه مجاهد عن أبي ذر مرفوعا : " لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس ولا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس إلا بمكة " ، قال ابن حجر في التلخيص : في هذا الحديث رواه الشافعي أخبرنا عبد الله بن المؤمل ، عن حميد مولى غفرة ، عن قيس بن سعد ، عن مجاهد ، وفيه قصة وكرر الاستثناء ثلاثا . ورواه أحمد ، عن يزيد ، عن عبد الله بن المؤمل إلا أنه لم يذكر حميدا في سنده . ورواه ابن عدي من حديث سعيد بن سالم ، عن عبد الله بن المؤمل ، فلم يذكر قيسا ، ورواه ابن عدي من طريق اليسع بن طلحة ، وسمعت مجاهدا يقول : بلغنا أن أبا ذر فذكره ، وعبد الله ضعيف ، وذكر ابن عدي هذا الحديث من جملة ما أنكر عليه . وقال البيهقي : فقال تفرد به عبد الله ولكن تابعه إبراهيم بن طهمان ، [ ص: 413 ] ثم ساقه بسنده إلى خلاد بن يحيى قال : ثنا إبراهيم بن طهمان ، ثنا حميد مولى غفرة ، عن قيس بن سعد ، عن مجاهد قال : جاءنا أبو ذر فأخذ بحلقة الباب ، الحديث . وقال أبو حاتم الرازي : لم يسمع مجاهد من أبي ذر ، وكذا أطلق ذلك ابن عبد البر ، والبيهقي ، والمنذري ، وغير واحد . قال البيهقي : قوله في رواية إبراهيم بن طهمان : جاءنا أبو ذر ؛ أي : جاء بلدنا .

                                                                                                                                                                                                                                      قلت : ورواه ابن خزيمة في صحيحه ، من حديث سعيد بن سالم كما رواه ابن عدي ، وقال : أنا أشك في سماع مجاهد ، من أبي ذر ، انتهى كلام ابن حجر في التلخيص الحبير .

                                                                                                                                                                                                                                      هذا هو حاصل ما احتج به الشافعي ، وأصحابه ، ومن وافقهم على جواز صلاة ركعتي الطواف ، في أوقات النهي وحجة مخالفيهم هي عموم الأحاديث الواردة في النهي عن الصلاة في تلك الأوقات وظاهرها العموم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد قال الشوكاني رحمه الله في نيل الأوطار : وأنت خبير بأن حديث جبير بن مطعم لا يصلح لتخصيص أحاديث النهي المتقدمة ; لأنه أعم منها من وجه وأخص من وجه ، وليس أحد العمومين أولى بالتخصيص من الآخر ، لما عرفت غير مرة انتهى منه ، وهو كما قال رحمه الله .

                                                                                                                                                                                                                                      والقاعدة المقررة في الأصول : أن النصين إذا كان بينهما عموم ، وخصوص من وجه ، فإنهما يظهر تعارضهما في الصورة التي يجتمعان فيها ، فيجب الترجيح بينهما . كما أشار له صاحب مراقي السعود بقوله :


                                                                                                                                                                                                                                      وإن يك العموم من وجه ظهر فالحكم بالترجيح حتما معتبر



                                                                                                                                                                                                                                      وإيضاح كون حديث جبير المذكور بينه ، وبين أحاديث النهي المذكورة عموم وخصوص من وجه ، كما ذكره الشوكاني رحمه الله : هو أن أحاديث النهي عامة في مكة وغيرها ، خاصة في أوقات النهي . وحديث جبير بن مطعم عام في أوقات النهي وغيرها ، خاص بمكة حرسها الله ، فتختص أحاديث النهي بأوقات النهي في غير مكة ، ويختص حديث جبير بالأوقات التي لا ينهى عن الصلاة فيها بمكة ، ويجتمعان في أوقات النهي في مكة ، فعموم أحاديث النهي يشمل مكة وغيرها ، وعموم إباحة الصلاة في جميع الزمن في حديث جبير ، يشمل أوقات النهي وغيرها في مكة فيظهر التعارض في أوقات النهي في مكة ، فيجب الترجيح . وأحاديث النهي أرجح من حديث جبير من وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما : أنها أصح منه لثبوتها في الصحيح .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 414 ] والثاني : هو ما تقرر في الأصول ، أن النص الدال على النهي يقدم على النص الدال على الإباحة ; لأن درأ المفاسد مقدم على جلب المصالح ، كما قدمناه مرارا . والعلم عند الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية