الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      والأقيسة المستعملة في الاستدلال ثلاثة : قياس علة ، وقياس دلالة ، وقياس شبه ، وقد وردت كلها في القرآن . فأما قياس العلة فقد جاء في كتاب الله عز وجل في مواضع ، منها قوله تعالى : إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون [ 3 \ 59 ] فأخبر تعالى أن عيسى نظير آدم في التكوين ، بجامع ما يشتركان فيه من المعنى الذي تعلق به وجود سائر المخلوقات ، وهو مجيئها طوعا لمشيئته وتكوينه ، فكيف يستنكر وجود عيسى من غير أب من يقر بوجود آدم من غير أب ولا أم ووجود حواء من غير أم ، فآدم وعيسى نظيران يجمعهما الذي يصح تعليق الإيجاد والخلق به .

                                                                                                                                                                                                                                      ومنها قوله تعالى : قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين [ 3 \ 137 ] أي : قد كان من قبلكم أمم أمثالكم ، فانظروا إلى عواقبهم السيئة ، واعلموا أن سبب ذلك ما كان من تكذيبهم بآيات الله ورسله ، وهم الأصل وأنتم الفرع ، والعلة الجامعة : التكذيب ، والحكم : الهلاك .

                                                                                                                                                                                                                                      ومنها قوله تعالى : ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدرارا وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين [ 6 \ 6 ] فذكر سبحانه إهلاك من قبلنا من القرون ، وبين أن ذلك كان لمعنى القياس وهو ذنوبهم ، فهم الأصل ونحن الفرع ، والذنوب العلة الجامعة ، والحكم : الهلاك . فهذا محض قياس العلة ، وقد أكده سبحانه بضرب من الأولى ، [ ص: 186 ] وهو أن من قبلنا كانوا أقوى منا فلم تدفع عنهم قوتهم وشدتهم ما حل بهم . ومنه قوله تعالى : كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون [ 9 ] وقد اختلف في محل هذا الكاف وما يتعلق به ، فقيل : هو رفع خبر مبتدأ محذوف ، أي : أنتم كالذين من قبلكم . وقيل : نصب بفعل محذوف تقديره : فعلتم كفعل الذين من قبلكم . والتشبيه على هذين القولين في أعمال الذين من قبل ، وقيل : التشبيه في العذاب . ثم قيل : العامل محذوف ، أي : لعنهم وعذبهم كما لعن [ الذين ] من قبلهم . وقيل بل العامل ما تقدم ، أي : وعد الله المنافقين كوعد الذين من قبلكم ، ولعنهم كلعنهم ، ولهم عذاب مقيم كالعذاب الذي لهم .

                                                                                                                                                                                                                                      والمقصود أنه سبحانه ألحقهم بهم في الوعيد ، وسوى بينهم فيه كما تساووا في الأعمال ، وكونهم كانوا أشد منهم قوة وأكثر أموالا وأولادا فرق غير مؤثر ، فعلق الحكم بالوصف الجامع المؤثر ، وألغى الوصف الفارق ، ثم نبه على أن مشاركتهم في الأعمال اقتضت مشاركتهم في الجزاء ، فقال : فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا [ 9 ] فهذه هي العلة المؤثرة والوصف الجامع ، وقوله : أولئك حبطت أعمالهم هو الحكم ، والذين من قبلهم الأصل ، والمخاطبون الفرع .

                                                                                                                                                                                                                                      قال عبد الرزاق في تفسيره : أنا معمر عن الحسن في قوله : فاستمتعوا بخلاقهم قال بدينهم ، ويروى عن أبي هريرة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن عباس : استمتعوا بنصيبهم من الآخرة في الدنيا . وقال آخرون : بنصيبهم من الدنيا . وحقيقة الأمر أن الخلاق هو النصيب والحظ ، كأنه الذي خلق للإنسان وقدر له ، كما يقال : قسمه الذي قسم له ، ونصيبه الذي نصب له أي : أثبت ، وقطه الذي قط له أي : قطع ، ومنه قوله تعالى : وما له في الآخرة من خلاق [ 2 \ 200 ] وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا خلاق له في الآخرة " . والآية تتناول ما ذكره السلف كله ، فإنه سبحانه قال : كانوا أشد منهم قوة [ 9 ] فبتلك القوة التي كانت فيهم كانوا يستطيعون أن يعملوا للدنيا والآخرة ، وكذلك الأموال ، والأولاد ، وتلك القوة ، [ ص: 187 ] والأموال والأولاد هي الخلاق ، فاستمتعوا بقوتهم وأموالهم في الدنيا ، ونفس الأعمال التي عملوها بهذه القوة من الخلاق الذي استمتعوا به .

                                                                                                                                                                                                                                      ولو أرادوا بذلك الله والدار الآخرة لكان لهم خلاق في الآخرة ، فتمتعهم بها أخذ حظوظهم العاجلة ، وهذا حال من لم يعمل إلا لدنياه سواء كان عمله من جنس العبادات أو غيرها . ثم ذكر سبحانه حال الفروع ، فقال : فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم فدل هذا على أن حكمهم حكمهم ، وأنهم ينالهم ما ينالهم ؛ لأن حكم النظير حكم نظيره . ثم قال : وخضتم كالذي خاضوا . فقيل " الذي " صفة لمصدر محذوف ، أي : كالمخوض الذي خاضوا ، وقيل : لموصوف محذوف . أي : كخوض القوم الذي خاضوا وهو فاعل الخوض .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : " الذي " مصدرية كـ " ما " أي : كخوضهم . وقيل : هي موضع " الذين " . والمقصود أنه سبحانه جمع بين الاستمتاع بالخلاق وبين الخوض بالباطل ؛ لأن فساد الدين إما أن يقع بالاعتقاد بالباطل والتكلم به وهو الخوض ، أو يقع بالعمل بخلاف الحق ، والصواب وهو الاستمتاع بالخلاق . فالأول البدع . والثاني اتباع الهوى ، وهذان هما أصل كل شر وفتنة وبلاء ، وبهما كذبت الرسل وعصي الرب ، ودخلت النار وحلت العقوبات .

                                                                                                                                                                                                                                      فالأول من جهة الشبهات ، والثاني من جهة الشهوات ؛ ولهذا كان السلف يقولون : احذروا من الناس صنفين : صاحب هوى فتنه هواه ، وصاحب دنيا أعجبته دنياه . وكانوا يقولون : احذروا فتنة العالم الفاجر ، والعابد الجاهل ؛ فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون ، فهذا يشبه المغضوب عليهم الذين يعلمون الحق ويعملون بخلافه ، وهذا يشبه الضالين الذين يعملون بغير علم .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي صفة الإمام أحمد عن الدنيا ما كان أصبره ، وبالماضين ما كان أشبهه أتته البدع فنفاها ، والدنيا فأباها . وهذه حال أئمة المتقين ، الذين وصفهم الله تعالى في كتابه بقوله : وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون [ 32 \ 24 ] فبالصبر تترك الشهوات ، وباليقين تدفع الشبهات ، كما قال تعالى : وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر [ 103 \ 3 ] وقوله تعالى : واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار [ 38 \ 45 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 188 ] وفي بعض المراسيل : " إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات ، ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات . فقوله تعالى : فاستمتعتم بخلاقكم إشارة إلى اتباع الشهوات ، وهو داء العصاة . وقوله : وخضتم كالذي خاضوا إشارة إلى الشبهات ، وهو داء المبتدعة وأهل الأهواء والخصومات ، وكثيرا ما يجتمعان ، فقل من تجده فاسد الاعتقاد إلا وفساد اعتقاده يظهر في عمله . والمقصود أن الله أخبر أن في هذه الأمة من يستمتع بخلاقه كما استمتع الذين من قبله بخلاقهم ، ويخوض كخوضهم ، وأن لهم من الذم والوعيد كما للذين من قبلهم ، ثم حضهم على القياس والاعتبار بمن قبلهم ، فقال : ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات أتتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون [ 9 \ 70 ] فتأمل صحة هذا القياس وإفادته لما علق عليه من الحكم ، وأن الأصل والفرع قد تساويا في المعنى الذي علق به العقاب ، وأكده كما تقدم بضرب من الأولى وهو شدة القوة وكثرة الأموال والأولاد ، فإذا لم يتعذر على الله عقاب الأقوى منهم بذنبه فكيف يتعذر عليه عقاب من هو دونه . ومنه قوله تعالى : وربك الغني ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين [ 6 \ 133 ] فهذا قياس جلي ، يقول سبحانه : إن شئت أذهبتكم واستخلفت غيركم ، كما أذهبت من قبلكم واستخلفتكم ، بذكر أركان القياس الأربعة : علة الحكم وهي عموم مشيئته وكمالها ، والحكم وهو إذهابه إياهم وإتيانه بغيرهم ، والأصل وهو ما كان من قبل ، والفرع وهم المخاطبون . ومنه قوله تعالى : بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين [ 10 \ 39 ] فأخبر أن من قبل المكذبين أصل يعتبر به ، والفرع نفوسهم ، فإذا ساووهم في المعنى ساووهم في العاقبة . ومنه قوله تعالى : إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا [ 73 \ 15 - 16 ] فأخبر سبحانه أنه أرسل موسى إلى فرعون ، وأن فرعون عصى رسوله فأخذه أخذا وبيلا . فهكذا من عصى منكم محمدا - صلى الله عليه وسلم - وهذا في القرآن كثير جدا فقد فتح لك بابه .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية