الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            2461 - ( وعن عياض بن حمار قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { من وجد لقطة فليشهد ذوي عدل ، أو ليحفظ عفاصها ووكاءها فإن جاء صاحبها فلا يكتم فهو أحق بها ، وإن لم يجئ صاحبها فهو مال الله يؤتيه من يشاء } رواه أحمد وابن ماجه ) .

                                                                                                                                            2462 - ( وعن زيد بن خالد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لا يأوي الضالة إلا ضال ما لم يعرفها } رواه أحمد ومسلم ) [ ص: 405 ]

                                                                                                                                            2463 - ( وعن زيد بن خالد قال { سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اللقطة : الذهب والورق ، فقال : اعرف وكاءها وعفاصها ، ثم عرفها سنة ، فإن لم تعرف فاستنفقها ولتكن وديعة عندك ، فإن جاء طالبها يوما من الدهر ، فأدها إليه وسأله عن ضالة الإبل فقال : مالك ولها دعها فإن معها حذاءها وسقاءها ، ترد الماء وتأكل الشجر حتى يجدها ربها وسأله عن الشاة فقال : خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب } متفق عليه ولم يقل فيه أحمد " الذهب أو الورق " وهو صريح في التقاط الغنم في رواية { فإن جاء صاحبها فعرف عفاصها وعددها ووكاءها فأعطها إياه وإلا فهي لك } رواه مسلم وهو دليل على دخوله في ملكه وإن لم يقصده ) .

                                                                                                                                            2464 - ( وعن أبي بن كعب في حديث اللقطة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { عرفها فإن جاء أحد يخبرك بعدتها ووعائها ووكائها فأعطها إياه وإلا فاستمتع بها } مختصر من حديث أحمد ومسلم والترمذي وهو دليل وجوب الدفع بالصفة )

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            حديث عياض بن حمار أخرجه أيضا أبو داود والنسائي وابن حبان ، ولفظه { ثم لا تكتم ولا تغيب ، فإن جاء صاحبها فهو أحق بها ، وإلا فهو مال الله يؤتيه من يشاء } وفي لفظ للبيهقي { ثم لا يكتم وليعرف } ورواه الطبراني وله طرق وفي الباب عن مالك بن عمير عن أبيه أخرجه أبو موسى المديني في الذيل قوله : ( فليشهد ) ظاهر الأمر يدل على وجوب الإشهاد ، وهو أحد قولي الشافعي ، وبه قال أبو حنيفة ، وفي كيفية الإشهاد قولان : أحدهما يشهد أنه وجد لقطة ولا يعلم بالعفاص ولا غيره لئلا يتوصل بذلك الكاذب إلى أخذها

                                                                                                                                            والثاني يشهد على صفاتها كلها حتى إذا مات لم يتصرف فيها الوارث ، وأشار بعض الشافعية إلى التوسط بين الوجهين ، فقال : لا يستوعب الصفات ولكن يذكر بعضها قال النووي : وهو الأصح والثاني من قولي الشافعي أنه لا يجب الإشهاد ، وبه قال مالك وأحمد وغيرهما ، قالوا : وإنما يستحب احتياطا ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر به في حديث زيد بن خالد ، ولو كان واجبا لبينه

                                                                                                                                            قوله : ( عفاصها ) بكسر العين المهملة وتخفيف الفاء وبعد الألف صاد مهملة : وهو الوعاء الذي تكون فيه النفقة جلدا كان أو غيره ، وقيل له : العفاص أخذا من العفص : وهو الثني ; لأن الوعاء يثنى على ما فيه وقد وقع في زوائد المسند لعبد الله بن أحمد في حديث أبي " وخرقتها " بدل عفاصها ، والعفاص أيضا : الجلد الذي يكون على رأس القارورة ، وأما الذي يدخل فم [ ص: 406 ] القارورة من جلد أو غيره فهو الصمام بكسر الصاد المهملة ، فحيث يذكر العفاص مع الوعاء فالمراد الثاني ، وحيث يذكر العفاص مع الوكاء ، فالمراد به الأول كذا في الفتح ، والوكاء بكسر الواو والمد : الخيط الذي يشد به الوعاء الذي تكون فيه النفقة ، يقال : أوكيته إيكاء فهو موكأ ، ومن قال الوكا بالقصر فهو وهم

                                                                                                                                            قوله : ( فلا يكتم ) أي : لا يجوز كتم اللقطة إذا جاء لها صاحبها وذكر من أوصافها ما يغلب الظن بصدقه



                                                                                                                                            قوله : ( يؤتيه من يشاء ) استدل به من قال : إن الملتقط يملك اللقطة بعد أن يعرف بها حولا وهو أبو حنيفة لكن بشرط أن يكون فقيرا ، وبه قالت الهادوية ، واستدلوا على اشتراط الفقر بقوله في هذا الحديث " فهو مال الله " قالوا : وما يضاف إلى الله إنما يتملكه من يستحق الصدقة ، وذهب الجمهور إلى أنه يجوز له أن يصرفها في نفسه بعد التعريف سواء كان غنيا أو فقيرا لإطلاق الأدلة الشاملة للغني والفقير كقوله : " فاستمتع بها " وفي لفظ " فهي كسبيل مالك "

                                                                                                                                            وفي لفظ " فاستنفقها " وفي لفظ " فهي لك " وأجابوا عن دعوى أن الإضافة تدل على الصرف إلى الفقير بأن ذلك لا دليل عليه ، فإن الأشياء كلها تضاف إلى الله ، قال الله تعالى : { وآتوهم من مال الله الذي آتاكم }



                                                                                                                                            قوله : ( لا يأوي الضالة . . . إلخ ) في نسخة " يؤوي " وهو مضارع آوى بالمد ، والمراد بالضال من ليس بمهتد ; لأن حق الضالة أن يعرف بها ، فإذا أخذها من دون تعريف كان ضالا ، وسيأتي بقية الكلام على هذا في آخر الباب قوله : ( اعرف عفاصها ووكاءها ) الغرض من هذه المعرفة معرفة الآلات التي تحفظ فيها اللقطة ، ويلتحق بما ذكر حفظ الجنس والصفة والقدر ، وهو الكيل فيما يكال والوزن فيما يوزن والزرع فيما يزرع

                                                                                                                                            وقد اختلفت الروايات ، ففي بعضها : معرفة العفاص والوكاء قبل التعريف كما في الرواية المذكورة في الباب وفي بعضها : التعريف مقدم على معرفة ذلك كما في رواية للبخاري بلفظ : { عرفها سنة ثم اعرف عفاصها ووكاءها } قال النووي : يجمع بين الروايتين بأن يكون مأمورا بالمعرفة في حالتين فيعرف العلامات وقت الالتقاط حتى يعلم صدق واصفها إذا وصفها ثم يعرفها مرة أخرى بعد تعريفها سنة إذا أراد أن يتملكها ليعلم قدرها وصفتها إذا جاء صاحبها بعد ذلك فردها إليه

                                                                                                                                            قال الحافظ : ويحتمل أن تكون ثم في الروايتين بمعنى الواو فلا تقتضي ترتيبا فلا تقتضي تخالفا يحتاج إلى الجمع ، ويقويه كون المخرج واحدا والقصة واحدة ، وإنما يحسن الجمع بما تقدم لو كان المخرج مختلفا ، أو تعددت القصة ، وليس الغرض إلا أن يقع التعرف والتعريف مع قطع النظر عن أيهما يسبق قال : واختلف العلماء في هذه المعرفة على قولين أظهرهما الوجوب لظاهر الأمر ، وقيل : يستحب وقال بعضهم : يجب عند الالتقاط ويستحب بعده قوله : ( ثم عرفها ) بتشديد الراء وكسرها : أي : اذكرها للناس قال في الفتح : [ ص: 407 ] قال العلماء : محل ذلك المحافل كأبواب المساجد والأسواق ونحو ذلك يقول : من ضاعت له نفقة ونحو ذلك من العبارات ولا يذكر شيئا من الصفات قوله : ( سنة ) الظاهر أن تكون متوالية ، ولكن على وجه لا يكون على جهة الاستيعاب فلا يلزمه التعريف بالليل ولا استيعاب الأيام ، بل على المعتاد فيعرف في الابتداء كل يوم مرتين في طرفي النهار ، ثم في كل يوم مرة ، ثم في كل أسبوع مرة ، ثم في كل شهر ، ولا يشترط أن يعرفها بنفسه بل يجوز له توكيل غيره ويعرفها في مكان وجودها وفي غيره ، كذا قال العلماء وظاهره أيضا وجوب التعريف ; لأن الأمر يقتضي الوجوب ولا سيما وقد سمى صلى الله عليه وسلم من لم يعرفها ضالا كما تقدم وفي وجوب المبادرة إلى التعريف خلاف مبناه : هل الأمر يقتضي الفور أم لا ؟ وظاهره أيضا أنه لا يجب التعريف بعد السنة ، وبه قال الجمهور ، وادعى في البحر الإجماع على ذلك

                                                                                                                                            ووقع في رواية من حديث أبي عند البخاري وغيره بلفظ { وجدت صرة فيها مائة دينار ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال : عرفها حولا ، فعرفتها فلم أجد من يعرفها ، ثم أتيته ثانيا فقال : عرفها حولا ، فلم أجد ، ثم أتيته ثالثا فقال : احفظ وعاءها وعددها ووكاءها فإن جاء صاحبها وإلا فاستمتع بها ، فاستمتعت ، فلقيته بعد بمكة ، فقال : لا أدري ثلاثة أحوال أو حولا واحدا } هكذا في البخاري ، وذكر البخاري الحديث في موضع آخر من صحيحه فزاد " ثم أتيته الرابعة فقال : اعرف وعاءها . . . إلخ " قال في الفتح : القائل : " فلقيته بعد بمكة " هو شعبة ، والذي قال " لا أدري " هو شيخه سلمة بن كهيل وهو الراوي لهذا الحديث عن سويد عن أبي بن كعب قال شعبة : فسمعته بعد عشر سنين يقول : عرفها عاما واحدا وقد بين أبو داود الطيالسي في مسنده القائل " فلقيته " والقائل " لا أدري " ، فقال في آخر الحديث : قال شعبة : فلقيت سلمة بعد ذلك فقال : " لا أدري ثلاثة أحوال أو حولا واحدا " وبهذا تبين بطلان ما قاله ابن بطال إن الذي شك هو أبي بن كعب ، والقائل هو سويد بن غفلة ، وقد رواه عن شعبة عن سلمة بن كهيل بغير شك جماعة وفيه ثلاثة أحوال ، إلا حماد بن سلمة فإن في حديثه عامين أو ثلاثة وجمع بعضهم بين حديث أبي هذا ، وحديث زيد بن خالد المذكور فيه سنة فقط ، بأن حديث أبي محمول على مزيد الورع عن التصرف في اللقطة والمبالغة في التعفف عنها ، وحديث زيد على ما لا بد منه وجزم ابن حزم وابن الجوزي بأن الزيادة في حديث أبي غلط ، قال ابن الجوزي : والذي يظهر لي أن سلمة أخطأ فيها ثم ثبت واستمر على عام واحد ولا يؤخذ إلا بما لم يشك فيه لا بما يشك فيه راويه وقال أيضا : يحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم عرف أن تعريفها لم يقع على الوجه الذي ينبغي فأمر ثانيا بإعادة التعريف كما قال للمسيء صلاته : { ارجع فصل فإنك لم تصل } [ ص: 408 ] قال الحافظ : ولا يخفى بعد هذا على مثل أبي مع كونه من فقهاء الصحابة وفضلائهم قال المنذري : لم يقل أحد من أئمة الفتوى أن اللقطة تعرف ثلاثة أعوام إلا شريح عن عمر وقد حكاه الماوردي عن شواذ من الفقهاء

                                                                                                                                            وحكى ابن المنذر عن عمر أربعة أقوال : يعرف بها ثلاثة أحوال ، عاما واحدا ، ثلاثة أشهر ، ثلاثة أيام وزاد ابن حزم عن عمر قولا خامسا وهو : أربعة أشهر قال في الفتح : ويحمل ذلك على عظم اللقطة وحقارتها



                                                                                                                                            قوله : ( فإن لم تعرف فاستنفقها ، . . . إلخ ) قال يحيى بن سعيد الأنصاري : لا أدري هذا في الحديث أم هو شيء من عند يزيد مولى المنبعث ؟ يعني : الراوي عن زيد بن خالد كما حكى ذلك البخاري عن يحيى قال في الفتح : شك يحيى بن سعيد هل قوله : " ولتكن وديعة عنده " مرفوع أم لا ؟ وهو القدر المشار إليه بهذا دون ما قبله لثبوت ما قبله في أكثر الروايات وخلوها عن ذكر الوديعة وقد جزم يحيى بن سعيد برفعه مرة أخرى كما في صحيح مسلم بلفظ " فاستنفقها ولتكن وديعة عندك " وكذلك جزم برفعها خالد بن مخلد عن سليمان عن ربيعة عند مسلم وقد أشار البخاري إلى رجحان رفعها ، فترجم باب إذا جاء صاحب اللقطة ردها عليه ; لأنها وديعة عنده والمراد بكونها وديعة أنه يجب ردها ، فتجوز بذكر الوديعة عن وجوب رد بدلها بعد الاستنفاق ، لا أنها وديعة حقيقة يجب أن تبقى عينها ; لأن المأذون في استنفاقه لا تبقى عينه ، كذا قال ابن دقيق العيد

                                                                                                                                            قال : ويحتمل أن تكون الواو في قوله : ولتكن وديعة بمعنى أو ، أي : إما أن تستنفقها وتغرم بدلها ، وإما أن تتركها عندك على سبيل الوديعة حتى يجيء صاحبها فتعطيها إياه



                                                                                                                                            ويستفاد من تسميتها وديعة أنها لو تلفت لم يكن عليه ضمانها قال في الفتح : وهو اختيار البخاري تبعا لجماعة من السلف قوله : ( فإن معها حذاءها وسقاءها ) الحذاء بكسر المهملة بعدها ذال معجمة مع المد : أي : خفها ، والمراد بالسقاء : جوفها وقيل : عنقها ، وأشار بذلك إلى استغنائها عن الحفظ لها بما ركب في طباعها من الجلادة على العطش وتناول المأكول بغير تعب لطول عنقها فلا تحتاج إلى ملتقط

                                                                                                                                            قوله : ( لك أو لأخيك أو للذئب ) فيه إشارة إلى جواز أخذها كأنه قال : هي ضعيفة لعدم الاستقلال معرضة للهلاك ، مترددة بين أن تأخذها أنت أو أخوك قال الحافظ : والمراد به ما هو أعم من صاحبها أو ملتقط آخر والمراد بالذئب : جنس ما يأكل الشاة من السباع ، وفيه حث على أخذها ; لأنه إذا علم أنها إذا لم تؤخذ بقيت للذئب كان ذلك أدعى له إلى أخذها ، وفيه رد على ما روي عن أحمد في رواية " أن الشاة لا تلتقط " وتمسك به مالك في أنه يملكها بالأخذ ولا تلزمه غرامة ولو جاء صاحبها

                                                                                                                                            واحتج على ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم سوى بين الذئب والملتقط ، والذئب لا غرامة عليه فكذلك الملتقط وأجيب بأن اللام ليست للتمليك ; لأن [ ص: 409 ] الذئب لا يملك



                                                                                                                                            وقد أجمعوا على أنه لو جاء صاحبها قبل أن يأكلها الملتقط كان له أخذها ، فدل على أنها باقية على ملك صاحبها ، ولا فرق بين قوله في اللقطة " شأنك بها أو خذها " وبين قوله " هي لك أو لأخيك أو للذئب " بل الأول أشبه بالتمليك لأنه لم يشرك معه ذئبا ولا غيره



                                                                                                                                            قوله : ( فإن جاء أحد يخبرك . . . إلخ ) فيه دليل على أنه يجوز للملتقط أن يرد اللقطة إلى من وصفها بالعلامات المذكورة من دون إقامة البينة ، وبه قال المؤيد بالله والإمام يحيى وبعض أصحاب الشافعي وأبو بكر الرازي الحنفي ، قالوا : ; لأنه يجوز العمل بالظن لاعتماده في أكثر الشريعة ، إذ لا تفيد البينة إلا الظن ، وبه قال مالك وأحمد وحكى في البحر عن القاسمية والحنفية والشافعية : أن اللقطة لا ترد للواصف وإن ظن الملتقط صدقه إذ هو مدع فلا تقبل وحكي في الفتح عن أبي حنيفة والشافعي : أنه يجوز له الرد إلى الواصف إن وقع في نفسه صدقه ولا يجبر على ذلك إلا ببينة

                                                                                                                                            قال الخطابي : إن صحت هذه اللفظة ، يعني : قوله : " فإن جاء صاحبها يخبرك . . . إلخ " لم يجز مخالفتها وهي فائدة قوله : " اعرف عفاصها " إلى آخره ، وإلا فالاحتياط مع من لم ير الرد إلا بالبينة قال : ويتأولون قوله : " اعرف عفاصها " على أنه أمره بذلك لئلا تختلط بماله ، أو لتكون الدعوى فيها معلومة وذكر غيره من فوائد ذلك أيضا أن يعرف صدق المدعي من كذبه ، وأن فيها تنبيها على حفظ المال وغيره وهو الوعاء ; لأن العادة جرت بإلقائه إذا أخذت النفقة ، وأنه إذا نبه على حفظ الوعاء كان فيه تنبيه على حفظ النفقة من باب الأولى قال الحافظ : قد صحت هذه الزيادة فتعين المصير إليها ا هـ

                                                                                                                                            ، وهذا هو الحق فترد اللقطة لمن وصفها بالصفات التي اعتبرها الشارع



                                                                                                                                            وأما إذا ذكر صاحب اللقطة بعض الأوصاف دون بعض كأن يذكر العفاص دون الوكاء ، أو العفاص دون العدد ، فقد اختلف في ذلك ، فقيل : لا شيء له إلا بمعرفة جميع الأوصاف المذكورة وقيل : تدفع إليه إذا جاء ببعضها وهو ظاهر الحديث الأول ، وظاهره أيضا أن مجرد الوصف يكفي ولا يحتاج إلى اليمين ، وهذا إذا كانت اللقطة لها عفاص ووكاء وعدد فإن كان لها البعض من ذلك فالظاهر أنه يكفي ذكره ، وإن لم يكن لها شيء من ذلك فلا بد من ذكر أوصاف مختصة بها تقوم مقام وصفها بالأمور التي اعتبرها الشارع قوله : ( وإلا فاستمتع بها ) الأمر فيه للإباحة ، وكذا في قوله " فاستنفقها "



                                                                                                                                            وقد اختلف العلماء فيما إذا تصرف الملتقط في اللقطة بعد تعريفها سنة ثم جاء صاحبها هل يضمنها له أم لا ؟ فذهب الجمهور إلى وجوب الرد إن كانت العين موجودة أو البدل إن كانت استهلكت وخالف في ذلك الكرابيسي صاحب الشافعي ، ووافقه صاحبه البخاري وداود بن علي إمام الظاهرية ، لكن وافق داود الجمهور إذا كانت العين قائمة ومن أدلة قول الجمهور ما تقدم بلفظ " ولتكن [ ص: 410 ] وديعة عندك ، فإن جاء طالبها . . . إلخ " وكذلك قوله : " فإن جاء صاحبها فلا تكتم فهو أحق بها . . . إلخ " وفي رواية للبخاري من حديث زيد بن خالد : { فاعرف عفاصها ووكاءها ثم كلها ، فإن جاء صاحبها فأدها إليه } أي : بدلها ; لأن العين لا تبقى بعد أكلها وفي رواية لأبي داود { فإن جاء باغيها فأدها إليه وإلا فاعرف عفاصها ووكاءها ثم كلها ، فإن جاء باغيها فأدها إليه } فأمر بأدائها إليه قبل الإذن في أكلها وبعده وفي رواية لأبي داود أيضا { فإن جاء صاحبها دفعتها إليه وإلا عرفت وكاءها وعفاصها ثم اقبضها في مالك ، فإن جاء صاحبها فادفعها إليه } والمراد بقوله : " اقبضها في مالك " اجعلها من جملة مالك وهو بالقاف وكسر الباء من الإقباض قال ابن رشد : اتفق فقهاء الأمصار ومالك والثوري والأوزاعي وأبو حنيفة والشافعي أن له أن يتصرف فيها ، ثم قال مالك والشافعي : له أن يتملكها

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة : ليس له إلا أن يتصدق بها وروي مثل قوله عن علي وابن عباس وجماعة من التابعين وقال الأوزاعي : إن كان مالا كثيرا جعله في بيت المال وروي مثل قول مالك والشافعي عن عمر وابن مسعود وابن عمر وكلهم متفق على أنه إن أكلها ضمنها لصاحبها إلا أهل الظاهر ا هـ



                                                                                                                                            قال في البحر : مسألة : ولا يضمن الملتقط إجماعا إلا لتفريط أو جناية إذ هو أمين حيث لم يأخذ لغرض نفسه ، فإن جنى أو فرط فالأكثر الخبر ، ولم يذكر وجوب البدل قلنا أمر عليا عليه السلام بغرامة الدينار في الخبر المشهور وخبركم محمول على من أيس من معرفة صاحبها ا هـ وحديث علي الذي أشار إليه أخرجه أبو داود عن بلال بن يحيى بن العبسي عنه أنه " التقط دينارا فاشترى به دقيقا فعرفه صاحب الدقيق فرد عليه الدينار ، فأخذه علي فقطع منه قيراطين فاشترى به لحما " قال المنذري : في سماع بلال بن يحيى من علي نظر وقال الحافظ : إسناده حسن ورواه أيضا أبو داود عن أبي سعيد الخدري { أن علي بن أبي طالب وجد دينارا فأتى به فاطمة ، فسألت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : هو رزق الله ، فأكل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكل علي وفاطمة ، فلما كان بعد ذلك أتته امرأة تنشد الدينار ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا علي أد الدينار } وفي إسناده رجل مجهول وأخرجه أيضا أبو داود من وجه آخر عن أبي سعيد وذكره مطولا ، وفي إسناده موسى بن يعقوب الزمعي ، وثقه ابن معين وقال ابن عدي : لا بأس به وقال النسائي : ليس بالقوي وروى هذا الحديث الشافعي عن الدراوردي عن شريك بن أبي نمر عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد ، وزاد " أنه أمره أن يعرفه " ورواه عبد الرزاق من هذا الوجه وزاد " فجعل أجل الدينار وشبهه ثلاثة أيام " وفي إسناد هذه الزيادة أبو بكر بن أبي سبرة وهو ضعيف جدا وقد أعل البيهقي هذه الروايات لاضطرابها ولمعارضتها لأحاديث اشتراط السنة في التعريف قال : ويحتمل أن [ ص: 411 ] يكون إنما أباح له الأكل قبل التعريف بالاضطرار



                                                                                                                                            وعن عبد الرحمن بن عثمان قال : { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لقطة الحاج } رواه أحمد ومسلم ، وقد سبق قوله في بلد مكة { ولا تحل لقطتها إلا لمعرف } واحتج بهما من قال : لا تملك لقطة الحرم بحال بل تعرف أبدا الحديث الثاني قد سبق في باب صيد الحرم وشجره من كتاب الحج قوله : ( نهى عن لقطة الحاج ) هذا النهي تأوله الجمهور بأن المراد به النهي عن التقاط ذلك للملك ، وأما للإنشاد بها فلا بأس ويدل على ذلك قوله في الحديث الآخر { ولا تحل لقطتها إلا لمعرف } وفي لفظ آخر { ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد }

                                                                                                                                            قوله : ( إلا لمعرف ) قد استشكل تخصيص لقطة الحاج بمثل هذا مع أن التعريف لا بد منه في كل لقطة من غير فرق بين لقطة الحاج وغيره وأجيب عن هذا الإشكال بأن المعنى أن لقطة الحاج لا تحل إلا لمن يريد التعريف فقط من دون تملك فأما من أراد أن يعرفها ثم يتملكها فلا وقد ذهب الجمهور إلى أن لقطة مكة لا تلتقط للتملك بل للتعريف خاصة قال في الفتح : وإنما اختصت بذلك عندهم لإمكان إيصالها إلى أربابها ; لأنها إن كانت للمكي فظاهر ، وإن كانت للآفاقي فلا يخلو أفق غالبا من وارد إليها ، فإذا عرفها واجدها في كل عام سهل التوصل إلى معرفة صاحبها

                                                                                                                                            قال ابن بطال : وقال أكثر المالكية وبعض الشافعية : هي كغيرها من البلاد ، وإنما تختص مكة بالمبالغة في التعريف ; لأن الحاج يرجع إلى بلده وقد لا يعود ، فاحتاج الملتقط لها إلى المبالغة في التعريف واحتج ابن المنير لمذهبه بظاهر الاستثناء ; لأنه نفى الحل واستثنى المنشد فدل على أن الحل ثابت للمنشد ; لأن الاستثناء من النفي إثبات ، قال : ويلزم على هذا أن مكة وغيرها سواء ، والسياق يقتضي تخصيصها

                                                                                                                                            قال الحافظ : والجواب أن التخصيص إذا وافق الغالب لم يكن له مفهوم ، والغالب أن لقطة مكة لا ييأس ملتقطها من صاحبها ، وصاحبها من وجدانها لتفرق الخلق في الآفاق البعيدة فربما داخل الملتقط الطمع في تملكها من أول وهلة ولا يعرفها فنهى الشارع عن ذلك وأمر أن لا يأخذها إلا من عرفها وقال إسحاق بن راهويه : معنى قوله في الحديث " إلا لمنشد " أي : من سمع ناشدا يقول : من رأى كذا فحينئذ يجوز لواجد اللقطة أن يرفعها ليردها على صاحبها ، وهو أضيق من قول الجمهور ; لأنه قيده بحالة للمعرف دون حالة ، ويرد عليه قوله : " إلا لمعرف " والحديث يفسر بعضه بعضا ، وقد حكى في البحر عن العترة وأبي حنيفة وأصحابه وأحد قولي الشافعي أنه لا فرق بين لقطة الحرم وغيره

                                                                                                                                            واحتج لهم بأن الأدلة لم تفصل




                                                                                                                                            الخدمات العلمية