الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ الشرط ] السادس الاختيار

                                                      فيمتنع تكليف الملجأ ، وهو من لا يجد مندوحة عن الفعل مع حضور عقله كمن يلقى من شاهق فهو لا بد له من الوقوع ، ولا اختيار له فيه ، ولا هو بفاعل له ، وإنما هو آلة محضة كالسكين في يد القاطع ، وحركة كحركة المرتعش ومثله المضطر .

                                                      واتفق أئمتنا على أن المضطر إلى فعل ينسب إليه الفعل الذي اضطر إليه وهو عند المعتزلة فوق الملجأ ، وعندنا مثله ، كمن شد وثاقه وألقي على شخص فقتله بثقله لكن الفقهاء صرحوا بتكليفه ، فقالوا : المضطر لأكل الميتة يجب عليه أكلها على الصحيح ، وفي وجه لا يجب . قد يوجه بأصول المعتزلة ، فيقال : لا فعل للمضطر ولا اختيار حتى يتعلق به الإيجاب ويكتفي بصورة الداعية ، لكن جهة التكليف فيه سيأتي بيانها في المكره .

                                                      وكذلك يمتنع تكليف المكره ومن لا يجد مندوحة عن الفعل إلا بالصبر على إيقاع ما أكره به ، كمن قال له قادر على ما يتوعد : اقتل زيدا وإلا [ ص: 74 ]

                                                      قتلتك ، لا يجد مندوحة عن قتله إلا بتسليم نفسه للهلاك ، فإقدامه على قتل زيد ليس كوقوع الذي ألقى من شاهق ، وإن اشتركا في عدم التكليف لكن تكليفه هذا أقرب من تكليف الملجأ ، ولهذا أبيح له الإقدام على شرب الخمر ، وكلمة الكفر .

                                                      وأما تأثيم المكره على القتل فليس من حيث إنه مكره وأنه قتل ، بل من حيث إنه آثر نفسه على غيره ، فهو ذو وجهين : الإكراه ولا إثم من ناحية ، وجهة الإيثار ولا إكراه فيها ، وهذا لأنك قلت : اقتل زيدا وإلا قتلتك ، فمعناه التخيير بين نفسه وبين زيد ، فإذا آثر نفسه فقد أثم ، لأنه اختيار ، وهذا كما قيل في خصال الكفارة : محل التخيير لا وجوب فيه ، ومحل الوجوب لا تخيير فيه .

                                                      وهذا تحقيق حسن يبين أنه لا يحتاج لاستثناء صورة القتل من قولنا المكره غير مكلف .

                                                      وقول الفقهاء : الإكراه يسقط أثر التصرف إلا في صور إنما ذكروه لضبط تلك الصور ، لا أنه مستثنى حقيقة . هذا هو الصحيح .

                                                      واعلم أن ظاهر نص الشافعي يدل على أنه غير مكلف فإنه احتج على إسقاط قوله بقوله تعالى : { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } .

                                                      قال الشافعي : وللكفر أحكام ، فلما وضعها الله تعالى عنه سقطت أحكام الإكراه عن القول كله ، لأن الأعظم إذا سقط سقط ما هو أصغر منه ، نقله البيهقي عنه في السنن " وعضده بحديث { رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه } . [ ص: 75 ]

                                                      وقد أطلق جماعة من أئمتنا في كتبهم الأصولية أن المكره مكلف بالفعل الذي أكره عليه ، ونقلوا الخلاف فيه عن المعتزلة منهم القاضي أبو بكر وإمام الحرمين في التلخيص " ، والشيخ أبو إسحاق في شرح اللمع " ، وابن القشيري وابن السمعاني في القواطع " ، وبناه المعتزلة على أصلهم في وجوب الثواب على الفعل المأمور به عند الامتثال ، وكيف يثاب على ما هو مكره عليه إذ لا يجب داعي الشرع ؟ وإنما يجيب داعي الإكراه ؟ وألحقوا هذا بالأفعال التي لا بد من وقوعها عادة كحصول الشبع عن الأكل والري عن الشرب ، فكما يستحيل التكليف بالواجب عقلا وعادة ، فكذا يستحيل بفعل المكره . [ المكره يصح تكليفه لفهم الخطاب ] والصحيح عندنا : أن المكره يصح تكليفه لفهم الخطاب ، وأن له اختيارا ما في الإقدام أو الانكفاف ، ولا استحالة في تكليفه ، وأما كونه متقربا فيرجع إلى نيته وهو غير الكلام في تكليفه . قال ابن القشيري : ونعني بالمكره من هو قادر على الإقدام والإحجام فيحمل مثلا على الصلاة بالإرجاف والخوف وقتل السيف ، والذي به رعشة ضرورية لا يوصف بكونه مكرها في رعدته . [ ص: 76 ]

                                                      وقالت المعتزلة : لا يصح تكليف المكره مع وفاقهم على اقتداره ، وزادوا علينا : فقالوا : القدرة تتعلق بالضدين ، وعلى هذا فلا معنى لتفصيل الإمام الرازي وأتباعه بين الإكراه الملجئ وغيره ، ولا لمن جعله قولا ثالثا في المسألة .

                                                      وكذا قال إمام الحرمين في التلخيص " : قال المحققون : لا يتحقق الإكراه إلا مع تصور اقتدار المكره ، فمن به رعشة ضرورية لا يوصف بكونه مكرها ، وإنما المكره المختار لتحريكها ، ولا استحالة في تكليف ما يدخل تحت اقتداره واختباره خلافا للقدرية ، وبالغوا حتى قالوا : إن القدرة تتعلق بالضدين ، والمكره القادر على الفعل قادر على ضده .

                                                      وأما أصحابنا فقالوا : إذا قدر على ما أكره عليه لم تتعلق قدرته بتركه ، وقد أجمع العلماء قاطبة على توجه النهي على المكره على القتل عن القتل ، وهذا عين التكليف . انتهى .

                                                      وهذا يعلم جوابه مما سبق أن تأثيم المكره على القتل ليس من حيث كونه مكرها .

                                                      وما نقلوه عن المعتزلة قد نازع فيه جماعة منهم إلكيا الطبري ، فقال : نقل عن بعض المعتزلة أن الإكراه ينافي التكليف . قال : وليس هذا مذهبا لأحد وإنما مذهبهم أن الإلجاء الذي ينافي اختيار العبد ينافي التكليف كالإيمان حالة اليأس .

                                                      وقال ابن برهان في الأوسط " المكره عندنا مخاطب بالفعل الذي أكره عليه ، ونقل عن أصحاب أبي حنيفة أنه غير مكلف . [ ص: 77 ] قال : وانعقد الإجماع على كونه مخاطبا بما عدا ما أكره عليه من الأفعال .

                                                      ونقل عن المعتزلة أن المكره غير مخاطب ، وهذا خطأ في النقل عنهم بل عندهم أنه مخاطب بل هو أولى بالخطاب من المختار ، لأن التكليف تحميل ما فيه كلفة ومشقة ، وحالة المكره أدخل في أبواب التكليف والمشاق من حالة المختار بسبب أنه مأمور بترك الفعل الذي أكره عليه وواجب الانقياد عليه والاستسلام ، وموعود عليه الأجر والثواب . إلا أن العلماء رأوا في كتبهم أن الملجأ ليس بمخاطب ، فظنوا أن الملجأ والمكره واحد . وليس كذلك بل الملجأ هو الذي لا يخاطب عندهم وهو الذي لا قدرة له على الترك بل يكون مدفوعا ومحمولا بأبلغ جهات الحمل . كمن شدت يداه ورجلاه رباطا وألقى على عنق إنسان بحيث لا يمكنه الاندفاع ، فهذا ليس له الاختيار ، وأما المكره فله قصد وقدرة فكان مكلفا .

                                                      ولهذا قالت المعتزلة : القدرة تصلح للضدين الفعل والترك ، لأنها لو صلحت لفعل دون فعل صار الشخص مدفوعا إليه وملجأ ، ولأمكنه الامتناع خلافا لأصحابنا ، فإن القدرة عندهم لا تصلح للضدين ، ولهذا المعنى قالوا : الإيمان حالة اليأس لا ينفع وهو إيمان الكافر يوم القيامة ، لأن الإيمان النافع بظهر الغيب : أما يوم القيامة فتصير المعارف ضرورية فلا ينفع ، لأنهم حينئذ ألجئوا . ا هـ .

                                                      وما قاله في الملجأ : إنه غير مكلف عند المعتزلة ، فهو قول المحققين من الأصحاب ، وإن كان الأولون أطلقوا القول ولم يفصلوا بل الأظهر التفصيل .

                                                      وقال في المحصول " : إنه المشهور وجرى عليه أتباعه ، وقال [ ص: 78 ] الآمدي : إنه الحق وقرره القرافي ، وينبني كلام المطلقين على أحد القسمين فيه .

                                                      وأما قول ابن برهان : إن المعتزلة لا يخالفون في تكليف المكره فليس كذلك لما سبق من نقل الفحول عنهم ، وكذلك نقله عن الحنفية أنه غير مخاطب لا يوجد في مشاهير كتبهم ، بل قال البزدوي في كتابه : المكره عندنا مكلف مطلقا ، لأنه مبتلى بين فرض وحظر ، وإباحة ورخصة إلخ ، وقد قالوا بنفوذ طلاق المكره وعتقه وغير ذلك . وسبق في فصل الأعذار المسقطة للتكليف كلام صاحب المبسوط " منهم فيه ونقل الإبياري عن الحنفية التفصيل بين الإقرار والإنشاء ، فالإكراه لا يؤثر عندهم في الإقرار ويؤثر في الإنشاء .

                                                      وأما المعتزلة فإنهم بنوا امتناع تكليف المكره بفعل ما أكره عليه على قاعدتين :

                                                      إحداهما : القول بالتحسين والتقبيح العقليين .

                                                      والأخرى : وجوب الثواب على الله ، لأن شرط التكليف ، عندهم الإثابة .

                                                      وقد نقض القاضي أبو بكر مذهب المعتزلة بالاتفاق على أنه يحرم القتل على من أكره عليه ، وكذا الزنا عند الجمهور ، فقد كلف حالة [ ص: 79 ] الإكراه ، ولم يرتض إمام الحرمين هذا ، وقال : إن القوم لا يمنعون من الشيء مع الحمل عليه ، فإن ذلك أشد في المحنة واقتضاء الثواب ، وإنما الذي منعوه الاضطرار إلى الفعل مع الأمر به .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية