الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                          [ ص: 52 ] فصل

                                                                                                                          القسم الثالث : ماء نجس

                                                                                                                          وهو ما تغير بمخالطة النجاسة ، فإن لم يتغير وهو يسير ، فهل ينجس ؛ على روايتين : وإن كان كثيرا فهو طاهر ، إلا أن تكون النجاسة بولا ، أو عذرة مائعة ، ففيه روايتان ، إحداهما : لا ينجس ، والأخرى : ينجس إلا أن يكون مما لا يمكن نزحه لكثرته ، فلا ينجس .

                                                                                                                          وإذا انضم إلى الماء النجس ماء طاهر كثير طهره إن لم يبق فيه تغير ، وإن كان الماء النجس كثيرا ، فزال تغيره بنفسه أو بنزح بقي بعده كثير طهر ، وإن كوثر بماء يسير ، أو بغير الماء ، فأزال التغير ، لم يطهر . ويتخرج أن يطهر . والكثير ما بلغ قلتين ، واليسير ما دونهما ، وهما خمسمائة رطل بالعراقي . وعنه : أربعمائة وهل ذلك تقريب أو تحديد ؛ على وجهين .

                                                                                                                          وإذا شك في نجاسة الماء أو كان نجسا فشك في طهارته ، بنى على اليقين . وإن اشتبه الماء الطاهر بالنجس لم يتحر فيهما على الصحيح من المذهب ، ويتيمم . وهل يشترط إراقتهما أو خلطهما ؛ على روايتين ، وإن اشتبه طهور بطاهر توضأ من كل واحد منهما ، وصلى صلاة واحدة . وإن اشتبهت الثياب الطاهرة بالنجسة ، صلى في كل ثوب صلاة وزاد صلاة .

                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                          فصل

                                                                                                                          ( القسم الثالث : ماء نجس ) .

                                                                                                                          هذا شروع في بيان ما يسلب الماء صفتيه : طهارته وتطهيره ( وهو ما تغير بمخالطة النجاسة ) في غير محل التطهير فينجس إجماعا ، حكاه ابن المنذر ، وحكى ابن البنا أن بعضهم أخذ من كلام الخرقي العفو عن يسير الرائحة ، وهو شاذ ، إذ لا فرق بين كثير التغير ويسيره .

                                                                                                                          مسألة : يحرم استعماله إلا ضرورة ، الماء النجس لدفع عطش أو لقمة ، ويجوز سقيه البهائم قياسا على الطعام إذا تنجس ، وقال الأزجي : لا يجوز قربانه بحال بل يراق ( فإن لم يتغير ، وهو يسير فهل ينجس ؛ الماء بعد مخالطة النجاسة 2 على روايتين ) أظهرهما ينجس .

                                                                                                                          قال في " النهاية " : وعليه الفتوى ، وقدمه في " المحرر " ، وجزم به في " الوجيز " لما روى ابن عمر قال : سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الماء يكون بالفلاة ، وما ينوبه من الدواب والسباع ، فقال : إذا بلغ الماء قلتين لم ينجسه شيء .

                                                                                                                          وفي رواية لم يحمل الخبث .

                                                                                                                          رواه الخمسة ، والحاكم ، وقال على شرط الشيخين ، ولفظه لأحمد ، وسئل ابن معين عنه ، فقال : إسناده جيد ، وصححه الطحاوي ، قال الخطابي : ويكفي شاهدا على صحته أن نجوم أهل الحديث صححوه ، ولأنه عليه السلام أمر بإراقة الإناء الذي ولغ فيه الكلب ، ولم يعتبر التغيير .

                                                                                                                          وعموم كلامه يشمل الجاري والراكد ، وهو المذهب ، وفي ثانية : أن [ ص: 53 ] الجاري لا ينجس إلا بالتغير ، اختارها الموفق ، وجمع ، ورجحها في " الشرح " .

                                                                                                                          وفي أخرى : تعتبر كل جرية بنفسها ، اختارها القاضي وأصحابه ، فإن كانت يسيرة نجست ، وإلا فلا ، والجرية ما أحاط بالنجاسة فوقها وتحتها إلى قرار النهر ، ويمنة ويسرة ما بين حافتي النهر زاد في " المغني " ، و " الشرح " : ما قرب من النجاسة أمامها وخلفها ، ولابن عقيل : ما فيه النجاسة ، وقدر مساحتها فوقها وتحتها ، ويمينها ويسارها ، انتهى . فإن كانت النجاسة ممتدة فهل تجعل كل جرية منها كنجاسة مفردة ، أو كلها نجاسة واحد ؛ فيه وجهان ، والثانية : لا ينجس إلا بالتغيير ، اختاره ابن عقيل ، وابن المنى ، والشيخ تقي الدين ، وفاقا لمالك ، لما روى أبو سعيد : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل : أنتوضأ من بئر بضاعة ؛ ، وهي بئر تلقى فيها الحيض ، والنتن ، ولحوم الكلاب ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - الماء طهور لا ينجسه شيء .

                                                                                                                          رواه أحمد ، وأبو داود ، والترمذي وحسنه ، قال أحمد : حديث بئر بضاعة صحيح ، قلت : ويعضده حديث أبي أمامة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه ، وطعمه ، ولونه رواه ابن ماجه ، والدارقطني .

                                                                                                                          فرع : يسير النجاسة مثل كثيرها في التنجس ، وإن لم يدركها الطرف أي : لا تشاهد بالبصر ، وفي " عيون المسائل " لا بد أن يدركها الطرف ، [ ص: 54 ] وفاقا للشافعي . وقيل : إن مضى زمن تسري فيه زاد في " الشرح " إلا أن ما يعفى عن يسيره ، كالدم ، حكم الماء الذي تنجس به حكمه في العفو عن يسيره .

                                                                                                                          ( وإن كان كثيرا ) ولم يغير بالنجاسة ( فهو طاهر ) بغير خلاف في المذهب ما لم يكن بول آدمي ، أو عذرته لخبر القلتين ، وبئر بضاعة ، وذهب أبو حنيفة ، وأصحابه إلى نجاسته إلا أن يبلغ حدا يغلب على الظن أن النجاسة لا تصل إليه ، واختلف فيه فقيل : ما إذا حرك أحد طرفيه لم يتحرك الآخر ، وقيل : عشرة أذرع في مثلها ، وما دون ذلك فهو قليل ، وإن بلغ ألف قلة ( إلا أن تكون النجاسة بولا هل تفسد الماء ) أي : بول آدمي بقرينة ذكر العذرة ، فإنها مختصة به ، ولا فرق بين قليله وكثيره ، وخص في " التلخيص " الخلاف به فقط ، وقاله أحمد في رواية صالح ( أو عذرة مائعة ) لأن أجزاءها تتفرق في الماء وتنتشر ، فهي كالبول بل أفحش ، والمذهب : أن حكم الرطبة ، واليابسة إذا ذابت كذلك ، نص عليه ، قال في " الشرح " وقدمه في " الرعاية " والأولى التفريق بين الرطبة والمائعة ( ففيه روايتان إحداهما : لا ينجس ) اختارها أبو الخطاب ، وابن عقيل ، وقدمه السامري ، وفي " المحرر " لخبر القلتين ، ولأن نجاسة الآدمي لا تزيد على نجاسة بول الكلب ، وهو لا ينجسها ، فهذا أولى ( والأخرى ينجس ) نص عليه في رواية صالح ، والمروذي ، وأبي طالب اختارها الخرقي ، والشريف ، والقاضي ، وابن عبدوس ، وأكثر شيوخ أصحابنا ، لما روى أبو هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : [ ص: 55 ] لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ، ثم يغتسل فيه .

                                                                                                                          لفظ البخاري ، وقال مسلم : ثم يغتسل منه ، وهذا يتناول القليل والكثير ، وهو خاص في البول . وخبر القلتين محمول على بقية النجاسات فحصل الجمع بينهما ( إلا أن يكون مما لا يمكن نزحه لكثرته فلا ينجس ) هذا مستثنى مما سبق ، وهو الماء إذا كان كثيرا ، ووقعت فيه نجاسة ولم يتغير فهو طاهر ، واستثني من ذلك ما إذا كانت النجاسة بولا أو عذرة مائعة ، فإنه ينجس على المذهب ، وإن لم يتغير ما لم يبلغ الماء حدا يشق نزحه . قال في " الشرح " : لا نعلم خلافا أن الماء الذي لا يمكن نزحه إلا بمشقة عظيمة ، هل ينجس إذا وقعت فيه نجاسة مثل المصانع التي جعلت موردا للحاج بطريق مكة يصدرون عنها ولا ينفذ ما فيها أنها لا تنجس إلا بالتغيير ، قال في " المغني " : لم أجد عن أحمد ، ولا عن أحد من أصحابه تقدير ذلك بأكثر من المصانع التي بطريق مكة ، وقال الشيرازي : المحققون من أصحابنا يقدرونه ببئر بضاعة ، وهي ستة أشبار في مثلها . قال أبو داود : وقدرتها فوجدتها ستة أذرع ، وسألت الذي فتح لي باب البستان هل غير بناؤها ؛ قال : لا ، وقال : سمعت قتيبة بن سعيد قال : سألت قيم بئر بضاعة عن عمقها ، فقال : أكثر ما يكون فيها الماء إلى العانة قلت ، فإذا نقص ، قال : دون العورة .

                                                                                                                          تنبيهات - الأول : أن كل مائع كزيت وسمن ينجس قليله وكثيره بملاقاة النجاسة في رواية صححها في " الشرح " ، وقدمها في " الرعاية " لأنه لا يطهر غيره [ ص: 56 ] فلم يرفع النجاسة عن نفسه كاليسير ، وفي أخرى : كالماء ينجس إن قل أو تغير ، وإلا فلا ، وفي ثالثة : ما أصله الماء كالخل التمري ، فهو كالماء ، وغيره ينجس مطلقا ، وقال الشيخ تقي الدين : ولبن كزيت .

                                                                                                                          الثاني : ظاهر كلامهم أن نجاسة الماء النجس عينية ، وذكر الشيخ تقي الدين : لا ، لأنه يطهر غيره ، فنفسه أولى ، وإنه كالثوب النجس ، ولهذا يجوز بيعه .

                                                                                                                          الثالث : إذا غيرت نجاسة بعض الطهور الكثير ، ففي نجاسته ما لم يتغير مع كثرته وجهان ، والأشهر أنه طهور .

                                                                                                                          ( وإذا انضم إلى الماء النجس ماء طاهر ) أي : طهور ( كثير طهره ، إن لم يبق فيه تغير ، وإن كان الماء النجس كثيرا فزال تغيره بنفسه ، أو بنزح بقي بعده كثير ، طهر ) هذا شروع في بيان تطهير الماء النجس ، وهو ينقسم ثلاثة أقسام : أحدها : أن يكون الماء النجس دون قلتين ، فتطهيره بالمكاثرة حسب الإمكان زاد في " الرعاية " عرفا ، واعتبر الأزجي ، والسامري الاتصال فيه بقلتين طهوريتين ، إما أن يصب فيه ، أو يجري إليه من ساقية ، أو نحو ذلك ، فيزول بهما تغيره إن كان متغيرا ، وإن كان غير متغير طهر بمجرد المكاثرة ، لأن القلتين تدفع النجاسة عن نفسها ، وعما اتصل بها ، ولا ينجس إلا بالتغيير ، وفهم منه أن النجس القليل لا يطهر بزوال تغيره بنفسه ، لأنه علة نجاسته الملاقاة لا التغيير ، الثاني : أن يكون قلتين فإن كان غير متغير بالنجاسة ، فتطهيره [ ص: 57 ] بالمكاثرة . أو متغيرا بها فتطهيره بالمكاثرة إذا زال التغير ، وبزوال تغيره بنفسه ، لأن علة التنجيس زالت ، كالخمرة إذا انقلبت بنفسها خلا ، وقال ابن عقيل : لا تطهر ، بناء على أن النجاسة لا تطهر بالاستحالة ، الثالث : الزائد على القلتين ، فإن كان غير متغير فتطهيره بالمكاثرة فقط ، وإن كان متغيرا فتطهيره بالأمرين السابقين ، وبثالث : وهو أن ينزح منه حتى يزول التغير ، ويبقى بعد النزح قلتان ، هذا إن كان متنجسا بغير البول والعذرة ، ولم يكن مجتمعا من متنجس كل ما دون قلتين ، نص عليه ، فإن نقص عنهما قبل زوال التغير ، ثم زال لم يطهر ، لأن علة التنجس في القليل مجرد ملاقاة النجاسة ، ويعتبر زوال التغير في الكل .

                                                                                                                          تنبيه : إذا كان متنجسا بغير بول آدمي وعذرته ، فإن كان بأحدهما ، ولم يتغير ، فتطهيره بإضافة ما يشق نزحه ، وإن تغير ، وكان مما يشق نزحه ، فتطهيره بإضافة ما يشق نزحه مع زوال تغيره ، أو بنزح يبقى بعده قلتان ، أو بزوال تغيره بنفسه ، وإن كان بما لا يشق نزحه فبإضافة ما يشق نزحه ، كمصانع مكة مع زوال التغير ( وإن كوثر ) ، أو كان كثيرا فأضيف إليه ( بماء يسير ) طهور ، ( أو بغير الماء ) كالتراب ، والخل ، ونحوهما ، لا مسك ونحوه ، ( فأزال التغير ) لم يطهر على المذهب ، لأنه لا يدفع النجاسة عن نفسه ، فعن غيره أولى ( ويتخرج [ ص: 58 ] أن يطهر ) ، وقاله بعض أصحابنا لخبر القلتين ، ولأن علة النجاسة زالت ، وهي التغير ، أشبه ما لو زال بالمكاثرة ، وقال ابن عقيل : التراب لا يطهر ، لأنه يستر النجاسة بخلاف الماء ، وقيل به في النجس الكثير فقط ، جزم به في " المستوعب " ، وغيره ، وأطلق في " الإيضاح " روايتين في التراب .

                                                                                                                          مسألة : إذا اجتمع من نجس وطهور وطاهر قلتان بلا تغير فكله نجس ، وقيل : طاهر ، وقيل : طهور ، وإن أضيفت قلة نجسة إلى مثلها ، ولا تغير لم تطهر في المنصوص كنجاسة أخرى ، وفي غسل جوانب بئر نزحت وأرضها روايتان .

                                                                                                                          ( والكثير ما بلغ قلتين معناه ) هما تثنية قلة ، وهي اسم لكل ما ارتفع وعلا ، ومنه قلة الجبل ، والمراد هنا الجرة الكبيرة ، سميت قلة لعلوها وارتفاعها ، وقيل : لأن الرجل العظيم يقلها بيده أي : يرفعها ، والتحديد وقع بقلال هجر ، وفي حديث الإسراء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ثم رفعت إلى سدرة المنتهى ، ، فإذا ورقها مثل آذان الفيلة ، وإذا نبقها مثل قلال هجر . رواه البخاري ، ولأنها مشهورة الصفة معلومة المقدار لا يختلف كالصيعان ، ولأن خبر القلتين دل بمنطوقه على رفعهما النجاسة عن أنفسهما ، وبمفهومه على نجاسة ما لم يبلغهما ، فلذلك جعلناهما حدا للكثير ( واليسير ما دونهما ) أي : دون القلتين مقدارهما ( وهما خمسمائة [ ص: 59 ] رطل بالعراقي ) قدمه في " المحرر " ، و " الفروع " ، وذكره في " الشرح " ظاهر المذهب لقول عبد الملك بن جريج : رأيت قلال هجر ، فرأيت القلة تسع قربتين ، أو قربتين وشيئا ، والاحتياط إثبات الشيء ، وجعله نصفا ، لأنه أقصى ما يطلق عليه اسم شيء منكر ، فيكون مجموعهما خمس قرب بقرب الحجاز ، كل واحدة تسعمائة رطل عراقية ، باتفاق القائلين بتحديد الماء بالقرب ، والرطل العراقي : مائة وثمانية وعشرون درهما قاله في " المغني " القديم ، وعزاه إلى أبي عبيد ، وقيل : وثلاثة أسباع درهم ذكره في " التلخيص " وقيل : وأربعة أسباع درهم قاله في " المغني " الجديد ، وهو المشهور ، فعلى هذا هو سبع الرطل الدمشقي ونصف سبعه ، فتكون القلتان بالدمشقي مائة رطل وسبعة أرطال وسبع رطل ، ويعبر عنه بأوقية وخمسة أسباع أوقية ، وبالقدسي : ثمانون رطلا وسبعا رطل ، ونصف سبع ، وبالحلبي : تسعة وثمانون رطلا وسبعا رطل ، وبالمصري : أربعمائة وستة وأربعون رطلا وثلاثة أسباع رطل ، ومساحتهما مربعا : ذراع وربع طولا وعرضا وعمقا ، ومدورا : ذراع طولا ، وذراعان ونصف ذراع عمقا ، والمراد به : ذراع اليد ، صرح به بعضهم ( وعنه : أربعمائة ) رواه عنه الأثرم . وقدمه ابن تميم ، لقول يحيى بن عقيل : رأيت قلال هجر ، وأظن القلة تأخذ قربتين . رواه الجوزجاني ، وعلى هذا هما بالدمشقي : خمسة وثمانون رطلا وثلثا رطل وأربعة أسباع أوقية ، وفي ثالثة : هما قربتان وثلث ، جعلا للشيء ثلثا .

                                                                                                                          [ ص: 60 ] ( وهل ذلك تقريب ) صححه في " المغني " ، و " الشرح " ، و " الفروع " لأن الشيء إنما جعل نصفا احتياطيا ، والغالب استعماله فيما دون النصف ( أو تحديد ) ؛ هو ظاهر قول القاضي ، واختاره الآمدي ، لأن ما جعل احتياطيا يصير واجبا كغسل جزء من الرأس مع الوجه ( على وجهين ) ظاهر كلامه أن الخلاف راجع إلى الروايتين ، وكلامه في " المغني " ، و " المحرر " يقتضي اختصاص الخلاف بالأولى . قال ابن المنجا : وهو الأشبه إذ قيل : القربة تسعمائة بالإجماع ، لأنه لا ترديد في كون القلة قربتين ، وإنما الترديد في الزائد عليهما ، وإن قيل : هي مائة تقريبا حسن مجيء الخلاف المذكور . قال ابن حمدان : الأصح أن الخمسمائة تقريب ، والأربعمائة تحديد ، وفائدة الخلاف تظهر فيما إذا نقصت القلتان رطلا أو رطلين ، ووقع فيهما نجاسة ، فعلى الأولى طاهر ، لأنه نقص يسير لا أثر له ، وعلى الثاني : نجس ، لأنه نقص عن قلتين .

                                                                                                                          مسائل : إذا وقع نجاسة في قليل ، ولم تغيره ، وقلنا : ينجس بها ، فانتضح منه على ثوب ونحوه ، نجس على المذهب ، وله استعمال كثير لم يتغير ، ولو مع قيام النجاسة فيه ، وبينه وبينها قليل ، وإن شك في كثرة الماء ، أو نجاسة عظم ، أو روثة ، أو جفاف نجاسة على ذباب وغيره ، أو ولوغ كلب أدخل رأسه في إناء ، وثم بفيه رطوبة ، فوجهان . ونقل حرب : فيمن وطئ روثة ، فرخص فيه إذا لم يعرف ما هي .

                                                                                                                          ( وإذا شك في نجاسة الماء ) فهو طاهر ، لأنها متيقنة فلا ينعقد بالشك ، [ ص: 61 ] وإن وجده متغيرا ، لأنه يحتمل أن يكون بمكثه ، أو بما لا يمنع ، وليس هذا خاصا بالماء ، بل يجري فيه وفي غيره ، ( أو كان نجسا فشك في طهارته الماء بنى على اليقين ) أي : الأصل ، لأن الشيء إذا كان على حال ، فانتقاله عنها يفتقر إلى عدمها ، ووجود الأخرى ، وبقاؤها وبقاء الأولى لا يفتقر إلا إلى مجرد البقاء ، فيكون أيسر من الحدوث وأكثر ، والأصل إلحاق الفرد بالأعم الأغلب . فإن أخبره عدل بنجاسته ، الماء وذكر السبب قبل ، وإن لم يعينه فقال القاضي : لا يلزم قبول خبره ، لاحتمال اعتقاد نجاسته بسبب لا يعتقده المخبر ، وقيل : يقبل ، كالرواية ، ويكفي مستور الحال في الأصح ، كعبد وأنثى ، وإن أخبره أن كلبا ولغ في هذا الإناء فقط ، وقال آخر : إنما ولغ في هذا ، هل يمكن الطهارة بأحدهما حكم بنجاستهما ، لأن صدقها ممكن ، فإن عينا كلبا ووقتا يضيق عن شربه منهما أي من إنائين هل يحكم بنجاستهما ؛ تعارضا ، ولم يحكم بنجاسة واحد منهما ، فإن قال أحدهما : ولغ في هذا ، وقال الآخر : نزل ولم يشرب ، هل يجوز الطهارة بهذا الماء قدم قول المثبت ، إلا أن يكون ضريرا فيقدم قول البصير عليه .

                                                                                                                          فرع : إذا أصابه ماء ، ولا أمارة تدل على النجاسة ، كره سؤاله عنه نقله صالح لقول عمر : يا صاحب الحوض لا تخبرنا ، فلا يلزم الجواب ، وقيل : بلى كما لو سئل عن القبلة ، وقيل : الأولى السؤال والجواب ، وقيل : بلزومهما ، وأوجب الأزجي إجابته إن علم نجاسته .

                                                                                                                          ( وإن اشتبه الماء الطاهر ) أي : الطهور ( بالنجس ) تنقسم هذه المسألة إلى صور ، منها : أن يزيد عدد النجس ، أو يتساويان ، فهذا لا يجوز التحري [ ص: 62 ] فيهما بغير خلاف ، ومنها أن يزيد عدد الطاهر على عدد النجس ، قال ابن المنجا : وهي مسألة الكتاب ، فيكون من باب إطلاق اللفظ المتواطئ إذا أريد به بعض محاله ، وهو مجاز شائع ( لم يتحر فيهما على الصحيح من المذهب ) لأنه اشتبه عليه المباح بالمحظور في موضع لا تبيحه الضرورة ، كما لو اشتبهت أخته بأجنبيات ، أو كان أحدهما بولا ، لأن البول لا مدخل له في التطهير ، والثانية : له التحري إذا زاد عدد الطهور ، وهو قول أبي بكر ، وابن شاقلا ، والنجاد ، لأن الظاهر إصابته الطهور ، وجهة الإباحة ترجحت ، أشبه ما لو اشتبهت عليه أخته في نساء بلد كبير ، لأنه يشق عليه اجتناب الكل ، ولذلك يجوز له النكاح من غير تحر ، وعلى هذا هل يكتفي بمطلق الزيادة ، أو كون الطهور أكثر عرفا ، أو كون النجس تسع الطهور ؛ فيه أوجه ، وظاهر كلامهم لا فرق بين الأعمى وغيره ، وهل يلزم من علم النجس إعلام من أراد أن يستعمله ؛ فيه احتمالات ، ثالثها : يلزم إن شرطت إزالتها لصلاة ، وإن توضأ من أحدهما بلا تحر ، فبان طهورا ماء طاهر وآخر نجس لم يصح ، ويعايا بها ، وقال أبو الحسين : يصح ( ويتيمم ) في الصور السابقة ، لأنه عادم للماء حكما ، وظاهره أنه إذا تيمم وصلى به ، ثم علم النجس الماء النجس فلا إعادة عليه ، وهو كذلك في الأصح ( وهل يشترط إراقتهما أو خلطهما ؛ الماء الطاهر والنجس حتى يصح التيمم على روايتين ) كذا أطلقهما في " الفروع " إحداهما : لا يشترط - لصحة التيمم - إعدامهما بخلط أو إراقة ، جزم بها في " الوجيز " ، وقدمها ابن تميم وغيره ، وصححها في " المغني " و " الشرح " لأنه غير قادر على استعماله ، أشبه [ ص: 63 ] ما لو كان في بئر لا يمكنه الوصول إليه ، والثانية : تشترط الإراقة ، ليكون عادما للماء حقيقة وحكما ، واختارها الخرقي ، وأبو البركات ، وهذا إذا أمن العطش ، ولم يكن عنده طهور بيقين ، ولم يمكن تطهير أحدهما بالآخر ، والمحرم بغصب كالنجس فيما ذكرنا .

                                                                                                                          فرع : إذا احتاج إلى شرب أو أكل وعنده ماء طاهر وماء نجس ، ولم يميز بينهما لم يجز بلا تحر في الأصح ، فإن فعل ، قال ابن حمدان : أو تطهر من أحدهما بتحر ، ثم وجد ماء طهورا ، وجب غسل ثيابه وأعضائه ، وقيل : يسن ، ويريق النجس إن علمه واستغنى عنه ، وإن خاف العطش توضأ بالطاهر ، وحبس النجس ، وقيل : ويتيمم ، وهو أولى كما لو خاف احتياجهما للعطش .

                                                                                                                          فرع : إذا توضأ بماء ، ثم علم نجاسته أعاد ، نقله الجماعة ، خلافا " للرعاية " ، ونصه : حتى يتيقن براءته ، وذكر في " الفصول " ، والأزجي : إن شك هل كان وضوءه قبل نجاسة الماء أو بعده ؛ لم يعد ، لأن الأصل الطهارة .

                                                                                                                          ( وإن اشتبه طهور بطاهر هل يجوز التوضؤ ؛ توضأ من كل واحد منهما ) قال في " الوجيز " مع عدم طهور مشتبه ، وظاهر ما ذكره المؤلف أنه يتوضأ من كل واحد منهما وضوءا كاملا ، صرح به في " المغني " ، و " المحرر " لأنه أمكنه تأدية فرضه بيقين ، فلزمه ذلك كما لو نسي صلاة من خمس لا يعلم عينها ، والمذهب أنه يتوضأ [ ص: 64 ] منهما وضوءا واحدا ، فيأخذ من هذا غرفة ، ومن هذا غرفة مطلقا ، فإن توضأ منهما مع طهور بيقين وضوءا واحدا صح ، وإلا فلا ، فإن احتاج إلى أحدهما للشرب تحرى وتوضأ بالطهور عنده ، وتيمم ليحصل له اليقين ، ذكره في " الشرح " ( وصلى صلاة واحدة ) قال في " المغني " ، و " الشرح " : بغير خلاف نعلمه ، لأنه أمكنه أداء فرضه بيقين من غير حرج ، فلزمه ، كما لو كانا طهورين ، ولم يكفه أحدهما .

                                                                                                                          ( وإن اشتبهت الثياب الطاهرة بالنجسة كيف يصلي ) وهو يعلم عددها ( صلى في كل ثوب صلاة ) ينوي بها الفرض احتياطا ، كمن نسي صلاة من يوم ولم يجز التحري مطلقا ، بخلاف القبلة والأواني ، وفرق أحمد بينهما بأن الماء يلصق ببدنه ، فيتنجس به ، وأنه يباح طلبه فيه عند العدم ، بخلاف الماء النجس ، قال الأصحاب : ولأن القبلة يكثر الاشتباه فيها ، والتفريط هنا حصل منه بخلافها ، ولأن لها أدلة تدل عليها بخلاف الثياب ( وزاد صلاة ) لأنه صلى في ثوب طاهر يقينا ، وإن لم يعلم عدد النجس ، صلى حتى يتيقن أنه صلى في طاهر . صرح به الأصحاب ، فإن كثر ذلك وشق صلاته في الكل ، فقال ابن عقيل : يتحرى في أصح الوجهين دفعا للمشقة ، والثاني : لا يتحرى ، لأنه يندر جدا ، وقيل : يصلي في واحد بلا تحر ، وفي الإعادة وجهان ، ولا تصح في ثياب مشتبهة مع وجود طاهر يقينا ، وكذا حكم الأمكنة الضيقة ، وأما الواسعة فيصلي حيث شاء بلا تحر .




                                                                                                                          الخدمات العلمية