الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
خذ الآن - هداك الله - في تفريغ الفكر ، وتخلية البال ؛ وانظر فيما نعرض عليك ، ونهديه إليك ؛ متوكلا على الله ، ومعتصما به ، ومستعيذا به من الشيطان الرجيم ؛ حتى تقف على إعجاز القرآن العظيم .

[ ص: 185 ] سماه الله - عز ذكره - " حكيما " و " عظيما " و " مجيدا " .

وقال : لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد .

وقال : لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون .

وقال : ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعا .

وقال : قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا .

وأخبرنا أحمد بن محمد بن الحسين القزويني ، حدثنا أبو عبد الرحمن أحمد بن عثمان ، حدثنا أبو يوسف الصيدلاني ، حدثنا محمد بن سلمة ، عن أبي سنان ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي البختري الطائي ، عن الحارث الأعور ، عن علي - رضي الله عنه - قال :

قيل : يا رسول الله ، إن أمتك ستفتتن من بعدك ؛ فسأل أو سئل : ما المخرج من ذلك ؟

فقال : " بكتاب الله العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد ؛ من ابتغى العلم في غيره أضله الله ، ومن ولي هذا من جبار فحكم بغيره قصمه الله ؛ وهو الذكر الحكيم ، والنور المبين ، والصراط المستقيم . فيه خبر من قبلكم ، وتبيان من بعدكم ؛ وهو فصل ، ليس بالهزل . وهو الذي لما سمعته الجن قالوا : إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به لا يخلق على طول الرد ، ولا تنقضي عبره ، ولا تفنى عجائبه
.

وأخبرني أحمد بن علي بن الحسن ، أخبرنا أبي ، أخبرنا بشر بن عبد الوهاب ، [ ص: 186 ] أخبرنا هشام بن عبيد الله ، حدثنا المسيب بن شريك ، عن عبيدة ، عن أسامة بن أبي عطاء ؛ قال : أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى علي - رضي الله عنه - في ليلة ، فذكر نحو ذلك في المعنى ، وفي بعض ألفاظه اختلاف .

وأخبرنا أحمد بن علي بن الحسن ، أخبرنا أبي ، أخبرنا بشر بن عبد الوهاب ، أخبرنا هشام بن عبيد الله ، حدثنا المسيب بن شريك ، عن بشر بن نمير ، عن القاسم ، عن أبي أمامة ؛ قال :

قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من قرأ ثلث القرآن أعطي ثلث النبوة ، ومن قرأ نصف القرآن أعطي نصف النبوة ، ومن قرأ القرآن كله أعطي النبوة كلها غير أنه لا يوحى إليه " . وذكر الحديث .

* * *

ولو لم يكن من عظم شأنه إلا أنه طبق الأرض أنواره ، وجلل الآفاق ضياؤه ، ونفذ في العالم حكمه ، وقبل في الدنيا رسمه ؛ وطمس ظلام الكفر بعد أن كان مضروب الرواق ، ممدود الأطناب ، مبسوط الباع ، مرفوع العماد ليس على الأرض من يعرف الله حق معرفته ، أو يعبده حق عبادته ، أو يدين بعظمته ، أو يعلم علو جلالته ، أو يتفكر في حكمته . فكان كما وصفه الله تعالى جل ذكره ، من أنه نور ، فقال : وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من [ ص: 187 ] نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم .

فانظر - إن شئت - إلى شريف هذا النظم ، وبديع هذا التأليف ، وعظيم هذا الرصف ؛ كل كلمة من هذه الآية تامة ، وكل لفظ بديع واقع .

قوله : وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا : يدل على صدوره من الربوبية ، ويبين عن وروده عن الإلهية . وهذه الكلمة بمنفردها وأخواتها كل واحدة منها لو وقعت بين كلام كثير - تميز عن جميعه ، وكان واسطة عقده ، وفاتحة عقده ، وغرة شهره ، وعين دهره .

وكذلك قوله : ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا ، فجعله روحا ؛ لأنه يحيي الخلق ، فله فضل الأرواح في الأجساد . وجعله نورا لأنه يضيء ضياء الشمس في الآفاق . ثم أضاف وقوع الهداية به إلى مشيئته ، ووقف وقوع الاسترشاد به على إرادته ، وبين أنه لم يكن ليهتدي إليه لولا توفيقه ، ولم يكن ليعلم ما في الكتاب ولا الإيمان لولا تعليمه ؛ وأنه لم يكن ليهتدي - فكيف كان يهدي - لولاه ، فقد صار يهدي ، ولم يكن من قبل ذلك ليهتدي ، فقال :

وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور .

فانظر إلى هذه الكلمات الثلاث : فالكلمتان الأوليان مؤتلفتان ، وقوله : ألا إلى الله تصير الأمور كلمة منفصلة مباينة للأولى ، قد صيرهما شريف النظم أشد ائتلافا من الكلام المؤالف ، وألطف انتظاما من الحديث الملائم .

وبهذا يبين فضل الكلام ، وتظهر فصاحته وبلاغته .

الأمر أظهر - والحمد لله - والحال أبين من أن يحتاج إلى كشف .

[ ص: 188 ] تأمل قوله : فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم .

انظر إلى هذه الكلمات الأربع التي ألف بينها ، واحتج بها على ظهور قدرته ، ونفاذ أمره ، أليس كل كلمة منها في نفسها غرة ؟ وبمنفردها درة ؟

وهو - مع ذلك - يبين أنه يصدر من علو الأمر ، ونفاذ القهر ؛ ويتجلى في بهجة القدرة ، ويتحلى بخالصة العزة ، ويجمع السلاسة إلى الرصانة ، والسلامة إلى المتانة ، والرونق الصافي ، والبهاء الضافي .

ولست أقول : إنه شمل الإطباق المليح ، والإيجاز اللطيف ، والتعديل والتمثيل ، والتقريب والتشكيل - وإن كان قد جمع ذلك وأكثر منه – لأن العجيب ما بينا من انفراد كل كلمة بنفسها ، حتى تصلح أن تكون عين رسالة أو خطبة ، أو وجه قصيدة أو فقرة . فإذا ألفت ازدادت به حسنا وإحسانا ، وزادتك - إذا تأملت - معرفة وإيمانا .

* * *

ثم تأمل قوله : وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم .

هل تجد كل لفظة ، وهل تعلم كل كلمة ، تستقل بالاشتمال على نهاية البديع ، وتتضمن شرط القول البليغ ؟

فإذا كانت الآية تنتظم من البديع ، وتتألف من البلاغات ، فكيف لا تفوت [ ص: 189 ] حد المعهود ، ولا تجوز شأو المألوف ؟ وكيف لا تحوز قصب السبق ، ولا تتعالى عن كلام الخلق ؟

التالي السابق


الخدمات العلمية