الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

من وسائل القرآن في إصلاح المجتمع

الأستاذ / أمين نعمان الصلاحي

- أهمية دراسة وفقه السنن الاجتماعية الكونية لإصلاح المجتمع

من أقسام علم الاجتماع ما يسمى بعلم الاجتماع الوصفي، وهو علم يدرس المجتمعات ويصف ظواهرها الاجتماعية؛ لمقارنتها مع مثيلاتها في بقية المجتمعات لاستخلاص قوانين اجتماعية عامة [1] .

والحق أن حياة المجتمعـات الإنسانية هي المعين الذي لا ينضب للوقوف على السنن والقـوانين الاجتمـاعية، واللافت للنـظر أن القرآن في قصصه عن الأقـوام السابقة يبتعد عن التفاصيل التاريخية، ويتجه نحو تفسير حركة التاريخ، لأخذ العظات والعبر، واستخلاص السنن والقوانين العامة لحركة التاريخ الاجتماعي، بينما تتجه التوراة مثلا نحو السرد التاريخي، فهي تذكر أبناء الأنبياء ونساءهم وأعمارهم، وتغرق في تفاصيل الأحداث والمسميات [2] . [ ص: 66 ]

يقول الشيخ محمـد الغزالي [3] ، رحمـه الله: «إن روح القصـص القرآني هـو في احتوائه على جملة من سنن الله الكونية في قيام الأمم وفنائها، وتعلـم هذه القوانين الاجتمـاعية الخالدة يشبه دراسة علوم الكون المختـلفة، ومعرفة الضـوابط التي تحكم علاقات المادة بعضها بالبعض الآخر» [4] .

والمتأمل في القرآن يرى العناية البالغة التي يوليها لإصلاح المجتمع، ومن ذلك تأكيده في كثير من آياته أهمية فقه السنن والقوانين الاجتماعية الكونية؛ ذلك أن القرآن لا يكشف عن السنن الاجتماعية الكونية كسنن حتمية جبرية، ولكنه يكشف عنها كسنن يمكن السيطرة عليها، والتحكم بها، وتسخيرها في إصلاح المجتمع، وترقية الحياة.

ويصف القرآن قلوب أولئك والذين لا يستفيدون من تلك السنن بالعمى،

يقول تعالى: ( ( فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ) ) (الحج:45-46). [ ص: 67 ]

والقرآن حين يدعو الناس أن يتفهموا تلك السنن فلكي ينالوا رحمة الله ويبتعدوا عن عقابه:

( ( وإن يعودوا فقد مضت سنت الأولين ) ) (الأنفال:38).

أي وإن يعودوا لأعمالهم الفاسدة الناشئة عن تصوراتهم الخاطئة فقد مضت سنة الله في إنزال العقاب على أمثال هؤلاء.

ومن المهم هنا أن ندرك أن الوعي بتلك السنن وملاحظة الأمثلة والأحداث يعـطي للناس بصـرا وبصـيرة ومعرفـة نظرية وعملية حتى لا يكرروا أخطاء من سبقهـم، بل إن الوعي بالسنن وفقه طريقة عملها يفتح أمام الناس أبوابا للنجاة من خـلال مدافعة السنن بعضها بالبعض الآخر، وأيضا فإن من يفقه السنن لا تصدمه الأحداث، بل تكون لديه صـلابة في الموقف، بخـلاف من يجهل مصـدر الأحداث فإنه ليس لديه إلا الحيرة والخوف والقلق [5] .

ولهذا السبب رأينا القرآن يولي عناية كبيرة لقصص الأمم السابقة، حتى يضع أيدينا على مواطن الداء، ويفتح أبصارنا على سنن الانحطاط والارتقاء، يقول الشيخ محمد الغزالي : «وقد كثرت القصص لتحصي جملة كبيرة من الأمراض الاجتماعية، وتستأصل جرثومتها بصنوف العبر وشتى النذر.. إن الحضارات المندثرة كجثث الموتى، قد يشرحها مبضع طبيب ليتعرف أسباب [ ص: 68 ] هلاكها، وليضيف بهـذه المعرفة حصـانة جـديدة إلى علم الطب تتوقى بها الإنسانية ما تجهل من متاعب والآم..

والمجتمعات التي طواها الماضي تحت الثرى، يجب إذا نضبت الحياة منها أن نتعرف كيف عاشت؟ وكيف تصادقت وتخاصمت؟ وهل تلاقت على جد أو مجون؟ وهل استجابت للحق أو للباطل؟

إن هذه الأسئلة تعنينا نحن، وعلى ضوء إجابتها قد تستقيم خطانا من عوج، وقد توفق للصواب بعد شرود» [6] .

- نماذج من السنن الاجتماعية الكونية

وهي نماذج كشف عنها القرآن، نستدعيها للإفادة منها في إصلاح المجتمع

أولا: سنة التغيير

قال تعالى: ( ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) ) (الرعد:11).

فهذه الآية تقرر إحدى السنن الاجتماعية المهمة وهي: أن تغيير المجتمع يبدأ من تغيير ما بالأنفس.

وهذه السنة تشمل الناس كلهم، بدليل أن كلمة (قوم) في الآية لم تأت مخصوصة بقوم معينين، ومجيئها نكرة في سياق النفي يدل على هذا. [ ص: 69 ]

فمضمون الآية إذن ينطبق على البشر كلهم، وكلمة (قوم) في الآية تعني الجمع، أو الجماعة التي يطلق عليها أمة أو مجتمع.

والآية تشير إلى تغييرين:

الأول: تغيير القوم لما بأنفسهم.

والثاني: تغيير الله لما بالقوم.

وتغيير القوم لما بأنفسهم يراد به تغيير المعتقدات والأفكار والمفاهيم والظنون في مجالي الشعور واللاشعور [7] .

وهذا التغيير هو الذي ينبغي أن يحـدث أولا، ثـم يتبعـه تغيير الله لما بالقوم، والله عز وجل سيغير ما بالقوم حتما إن هم غيروا ما بأنفسهم، وأما ما يرجوه بعضهم من أن «يحدث الله التغيير الذي يخصه قبل أن يقوم القوم (المجتمع) بالتغيير الذي خصهم الله به، فهو مخالف لنص الآية، وبالتالي إبطالا لمكانة الإنسان وأمانته، ومسئوليته، ولما منحه الله من مقام الخلافة على أرضه؛ لأن هذا التحديد الذي قضت به الآية في مجالات التغيير، وهذا الترتيب فيما ينبغي أن يحصل أولا، وما يحدث تاليا، هو الذي يضع البشر أمام مسئولية حوادث التاريخ، ومن هذه النافذة يمكن إبصار أثر البشر في أحداث التاريخ ومسئوليتهم إزاءها» [8] . [ ص: 70 ]

- الاستفادة من هذه السنة في إصلاح المجتمع

إن هذه السنة الربانية هي القاعدة الأساس في إصلاح المجتمع والمحافظة على صلاحه؛ وعلى دعاة التغيير ورواد الإصلاح أن يفقهوا هذه السنة حق الفقه حتى لا تذهب جهودهم أدراج الرياح.

وهذه السنة لها شقان:

- الشق الأول: التغيير الاجتماعي الإيجابي،

وإليه الإشارة بقول الله تعالى: ( ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) ) (الرعد:11).

فإذا أراد المصلحون إحداث التغيير الإيجابي في المجتمع، فعليهم أن يدركوا أن البداية لذلك هي من تغيير ما بالأنفس، وعليهم أن يبذلوا قصارى جهدهم للعمل على تغيير ما بالأنفس أولا؛ لأن تغيير ما بالأنفس هو الخطوة الأولى، والركيزة الأساس التي لا بد منهـا، ولا بديل عنها لتغيير ما بالواقع، فالتغيير يبدأ أولا في عالم الأفكار، ثم ينتقل إلى عالم الأشياء.

- الشق الثاني: التغيير الاجتماعي السلبي،

وإليه الإشارة بقول الله تعالى: ( ( ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم ) ) (الأنفال:53).

ومهمة المصلحين هي حماية المجتمع من هذا التغيير السلبي، الذي هو فساد يطرأ على الأفكار والمشاعر والتصورات، ثم تنعكس آثاره بعد ذلك على السـلوكيات والتصـرفات. فالانحراف يبدأ في المجتمـع من انحراف [ ص: 71 ] ما بالأنفس أولا، ثم يصيب المجتمع نتيجة لذلك من الضعف والهوان ما قد يكون سببا في انحساره أو اندثاره، بحسب حجم وطبيعة الانحراف الذي حل بالنفوس، وظهرت أعراضه في السلوك.

ثانيا: سنة الاستبدال

يقول تعالى: ( ( إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير ) ) (التوبة:39)؛

ويقول سبحانه: ( ( ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ) ) (محمد: 38).

إن الإسلام بوصفه رسالة عالمية سامية؛ فإنه يتطلب مجتمعا رساليا ينهض بأعباء الرسالة، ويحقق مهمة الاستخلاف في الأرض، وليس القيام بذلك أمرا سهـلا، ولـكنه يتطـلب مجتمعـا مؤمنا برسـالة الإسلام، ومؤهلا بصفات أهمها الخيرية والوسطية لتحقيق الشهود الحضاري

كما قال تعالى: ( ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ) ) (البقرة:143).

وقد يحصل أن تفسد أحوال المجتمع، وتختل قيمـه وموازينه، وتعجز قواه الحية عن إحداث التغيـير الاجتمـاعي المطلوب، الذي يبدأ من تغيير [ ص: 72 ] ما بالأنفس كما قال سبحانه: ( ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) ) (الرعد:11).

وإذا وصل المجتمع إلى الحالة التي يستعصي فيها على التغيير الاجتماعي الإيجابي المطلوب، فإن ذلك يكون إيذانا باستبداله بمجتمع آخر، يكون أقدر منه على حمل الرسالة، وأداء الأمانة، والقيام بمهمة الاستخلاف في الأرض، وتحقيق الشهود الحضاري، وذلك هو ما نعنيه بسنة الاستبدال، التي يمكن تلخيصها بالقول: إن فساد المجتمع وانحرافه سبب لاستبداله بغيره.

- الاستفادة من سنة الاستبدال في إصلاح المجتمع

إن سنة الاستبدال تجعل المجتمع الإسلامي وجها لوجه أمام مسئولياته الرسالية والحضارية، وكلما ازداد وعي المجتمع بهذه السنة، فإن وعيه سيزداد بأهمية الإصلاح والتقويم والمراجعة المستمرة، وبذلك تترسخ القناعة بضرورة الإصلاح، وبأهمية دور المصلحين في حماية المجتمع من التقهقر والانكماش والاندثار الحضاري .

ثالثا: سنة الأجل

قال تعالى: ( ( لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ) ) (يونس: 49)،

وقال سبحانه: ( ( ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون ) ) (المؤمنون:43)،

وقال عز وجل: ( ( وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا ) ) (الكهف:59). [ ص: 73 ]

في هذه الآيات يحدد القرآن للتحـولات الاجتمـاعية الكبرى في حياة المجتمعات أجلا معـلوما، ووقتا محددا، فالمجتمعات التي انحرفت ومارست الظلم والفساد لن تهلك بين عشية وضحاها، ولن يصيبها الاضمحلال والاندثار في لمح البصر، ولكن ستظل عوامل الفناء والتحلل تعمـل في جسـدها إلى أن يأتي الوقت المعلوم الذي ينهار فيه المجتمع عقوبة له على تماديه في الشر والفساد:

( ( وجعلنا لمهلكهم موعدا ) ) (الكهف:59).

وبالمقابل فإن المجتمعات الناشئة التي قامت تبني نهضتها، وتؤسس لمجدها وعزها، لا يمكنها أن تحقق النهوض بين عشية وضحاها، بل هي تحتاج إلى وقت تتكامل فيه أسباب النهوض والبناء، لا سيما إذا فهمنا أن التغيير الحقيقي إنما يبدأ من تغير ما بالأنفس، وهو تغيير يحتاج إلى جهد جهيد، كما يحتاج إلى الوقت اللازم حتى تنضج ثماره، وتظهر آثاره.

وذلك هو ما نعنيه بسنة الأجل، التي يمكن تلخيصها بالقول: إن لكل تحول اجتماعي شروطه الموضوعية، وعمره الزمني.

- الاستفادة من سنة الأجل في إصلاح المجتمع

إنه لمن المهم والضروري جدا أن يفقه المصلحون هذه السنة الاجتماعية، حتى لا يستعجلوا النتائج قبل أوانها، وحتى لا يقعوا في اليأس والإحباط،

فالقرآن يعلمنا أن: ( ( لكل أجل كتاب ) ) (الرعد:38). [ ص: 74 ]

وفي قصـة موسى ، عليه السلام، يعلمنا القرآن أهمية عامل الزمن في إحداث التحول الاجتماعي المطلوب،

قال تعالى: ( ( وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين ) ) (المائدة: 20-26).

فلقد أراد موسى، عليه السلام، أن يدخل الأرض المقدسة، ولكن قومه (مجتمعه) خذلوه؛ لأنـهم كانوا قد تربوا في ظل فرعون على حياة الذل والاستكانة والخنـوع، ففسدت بذلك ملكاتهم الفكرية والنفسية، وهنا كان لا بد من سنـة الأجل: أربعين سنـة حـكم الله فيهـا عـلى بني إسرائيل بالتيه في صحراء سيناء ، وكانت تلك المدة هي الزمن المطلوب، [ ص: 75 ] والأجل المعـلوم، لإخراج جيل جديد، يتربى في صحراء سيناء ، ويتنسم فيها عبير الحرية، حيث لا طغاة هنالك ولا مستبدون، وهذا الجيل الحر هو الذي دخل الأرض المقدسة بعد ذلك بقيادة يوشع بن نون [9] تلميذ موسى، عليه السلام.

والملاحظ هنا أن موسى ، عليه السلام، لم يدخل الأرض المقدسة، بل مات دون تحقيق هذا الهدف، فهل يعني ذلك أن يوشع كان أكثر كفاءة وقدرة من موسى، عليه السلام؟! معاذ الله! وأين يوشع من موسى كليم الرحمن، وأحد أولي العزم من الرسل؟! ولكن المسألة هنا ليست مسألة قيادة فقط، بل لا بد فيها من توافر الشروط الموضوعية، وتلك الشروط احتاجت إلى زمن.. إلى أجل معلوم، وكان هذا الأجل بعد أن رحل موسى، عليه السلام، إلى ربه.

ومن هنا ندرك خطأ بعض دعاة الإصلاح ورواده حينما يربطون التحول الاجتماعي بأعمارهم، ويريدون أن يتحقق مشروع النهوض بالأمة في خلال حياتهم، مع أن هذا المشروع قد يحتاج في إنجازه إلى عدة أجيال، أو إلى جيل لم يتمخض عنه المجتمع بعد. [ ص: 76 ]

وإذن فـلا بد من العمـل، ومع العمل لابد من مراعاة سنة الأجل؛ لأن عدم مراعـاة هـذه السنة قد أدى إلى اعتسافات خطيرة، ومزالق كبيرة، وإشكالات كثيرة، كانت ولا زالت سببا في تأخير النهوض بمجتمعاتنا، ولهذا فنحن أحوج ما نكون اليوم إلى تلك العقـول الإصـلاحية الكبـيرة، التي تعمل، وتبذر بذرة الخـير في المجتمـع، دون أن يكون همها أن ترى الثمرة العاجلة القريبة لعملها، ودون أن تصاب باليأس والإحباط والقنوط؛ لأنها توقن أن بذرة الخير لا بد وأن تثمر، وأن لكل أجل كتاب.

رابعا: سنة التداول

قال تعالى: ( ( وتلك الأيام نداولها بين الناس ) ) (آل عمران:140).

وهذه الآية يبين الله فيها سنة التداول، ومعنى هذه السنة: أن عوامل الضعف والقوة تعتري كل المجتمعات، وأن موازين القوى متحولة وليست ثابتة، فلا المجتمعات القوية تبقى على قوتها أبد الدهر، ولا المجتمعات الضعيفة تبقى على ضعفها إلى ما لا نهاية..

وهذه السنة قد يكون عمرها أطول من عمر الإنسان، فقد يعيش الإنسان ويموت في ظل أحوال وموازين وقوى أممية واجتماعية معينة، وبالتالي لا يصح أن يجعل الإنسان من حياته معيارا للحكم على هذه [ ص: 77 ] السنة، وقد نبه إلى ذلك العلامة ابن خلدون [10] ، رحمه الله، فقال: «ومن الغلط الخفي في التأريخ الذهول عن تبدل الأحوال في الأمم والأجيال، بتبدل الأعصار، ومرور الأيام، وهو داء دوي شديد الخفاء؛ إذ لا يقع إلا بعد أحقاب متطاولة، فلا يكاد يتفطن له إلا الآحاد من أهل الخليقة.

وذلك أن أحوال العالم والأمم، وعوائدهم لا تدوم على وتيرة واحدة، ومنهاج مستقر، إنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة، وانتقال من حال إلى حال، وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار، فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول، سنة الله التي قد خلت في عباده» [11] .

- الاستفادة من سنة التداول في إصلاح المجتمع

الذي يفهم من سياق الآية المقررة لسنة التداول، أنه ينبغي للمجتمع، بل ويجب عليه أن يحافظ على عوامل قوته، وأسباب عافيته، وأن يحذر من التبدل السيء الذي قد يحيق به؛ لأن سنة التداول شأن السنن الاجتماعية الأخرى لا تحابي أحدا، مع تأكيد أن هذه السنة كغيرها من السنن ليست حتمية جبرية، ولكنها تعمل وفقا لقانون الأسباب والمسببات. [ ص: 78 ]

فمن المعلوم في السيرة النبوية أن انتصار المسلمين في أول معركة أحد قد تحول إلى هزيمة في آخرها، وأن هزيمة المشركين في أول المعركة قد تحولت إلى نصر في آخرها، وتعليقا من القرآن على هذه الحادثة نزلت الآية:

( ( إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس ) ) (آل عمران: 140).

جاء في تفسير الجلالين: (( ( ( إن يمسسكم ) ) : يصيبكم بأحد ( ( قرح ) ) : بفتح القاف وضمها: جهد من جرح ونحوه ( ( فقد مس القوم ) ) الكفار ( ( قرح مثله ) ) ببدر ( ( وتلك الأيام نداولها ) ) نصرفها ( ( بين الناس ) ) )) [12] .

وإذا نظرنا في السبب الموجب لوقوع سنة التداول بمعناها السلبي في معركة أحد، فسنرى أن عصيان الرماة المسلمين ومخالفتهم لأوامر النبي صلى الله عليه وسلم، هو الذي جعل الإدالة للمشركين في تلك المعركة [13] .

وقـد قرر الله هـذه الحقيقـة بقوله: ( ( أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير ) ) (آل عمران:165). [ ص: 79 ]

وهنالك معنى آخر في سنة التداول يجب أن لا نغفل عنه وهو أنها تفتح أمام المصلحين آفاقا رحبة وواسعة، وتبدد اليأس والقنوط من نفوسهم، وذلك حين يفقهون هذه السنة، ويدركون أن موازين القوى، التي قد تميل في ظرف ما نحو أهل الشر والإفساد فإنها لن تدوم، بل يمكن تغييرها، وتسخيرها في خدمة الخير والحق.. وإذن فلا حزن، ولا ضعف، ولا وهن! وهذا المعنى يمكن أن نلمحه بوضوح من قول الله تعالى وهو ينهى المؤمنين عن الوهن والحزن بعد ما أصابهم في معركة أحد :

( ( ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس ) ) (آل عمران:139-140).

فقـد ذكـرهـم سبحـانه بسنـة التـداول في سياق نـهيه لهـم عن الوهن والحزن.

على أن المؤمن لا يغيب عنه أيضا أن في سنة التداول ابتلاء وتمحيصا من الله تعالى:

( ( وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين ) ) (آل عمران: 140).

خامسا: سنة التدافع

قال تعالى: ( ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين ) ) (البقرة:251). [ ص: 80 ]

وقال سبحانه: ( ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز ) ) (الحج:40).

وهذه سنة أخرى من سنن الحياة الاجتماعية وهي سنة التدافع.. يقررها القرآن بوضوح وجلاء، ويبين آثارها في حياة الإنسانية جمعاء، فالمجتمعات الإنسانية تعيش في حالة من التدافع تمنع أن يستولي الطغيان والفساد على حياة البشرية.

وهذا التدافع كما يكون بين الحق والباطل فإنه يكون كذلك بين أهل الباطل أنفسهم، فقد يدفع الله ظالما بظالم، وقد يكبح جماح طاغية بطاغية آخر.

ونتيجة ذلك التدافع هو منع استيلاء وسيطرة الفساد والظلم على حياة الإنسانية، والله يخبرنا أنه لولا هذه السنة لانتشر الفساد في الأرض، ولهدمت أماكن العبادة والمساجد، والاعتداء على أماكن العبادة والمساجد هو اعتداء على الحريات الفردية والجماعية المقدسة في أعلى درجات القدسية، مما يعني أن ما دون ذلك من الحرمات هو منتهك ومعتدى عليه بلا ريب.

والذي يمنع من ذلك الفساد العريض، ومن تلك الاستباحة المنكرة للمقدسات والحرمات هو سنة المدافعة، فلم يزل الله يدفع أهل الشر والفساد بأهل الخير والصلاح، ويدفع بعض الظالمين ببعضهم، وبهذا تحافظ المجتمعات على حيويتها ونمائها، فالحياة تصبح آسنة متعفنة لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض. [ ص: 81 ]

- الاستفادة من سنة التدافع في إصلاح المجتمع

إن اتساع الأفـق الفكري والنفسي لدى دعـاة ورواد الإصلاح هو سر عملهم الدءوب، وعطائهم المستمر، وتضحياتهم الكبيرة، وليس هنالك ما يوسع الآفاق الفكرية والنفسية كفقه سنن الله الاجتماعية الكونية في حياة المجتمعات الإنسانية، تلك السنن التي اعتنى القرآن ببيانها أيما عناية.

وسنة التـدافع تعطينا مثـالا واضحا على ذلك، فالحيـاة الاجتماعية لا تسير على وتيرة واحدة، ولا تمضي في اتجاه واحد، وإنما هي اتجاهات متعددة ومختلفة، ومصالح متضاربة ومتناقضة، وقوى متحالفة ومتنافسة، وفي خضم هذا التدافع الهائل في الحياة الفردية والجماعية يجب على المسلم أن يقوم بواجبه الذي يفرضه عليه القرآن، فالمسلم لا يعذر أبدا إن قعد وهو يرى الفساد يستشري، والمنكر يستعلي، والباطل يصول ويجول؛ لأن واجبه حينئذ أن يدافع الفساد بالصلاح، والشر بالخير، والمنكر بالمعروف، والباطل بالحق، وليس هذا فحسب، بل عليه أن يستجيب لمستوى المدافعة، فإذا كان أهل الباطل يتكاتفون ويتحالفون ويتعاونون فيما بينهم لنشر الفساد، فإن الواجب على أهل الحق أن يتحالفوا ويتكاتفوا ويتعاونوا فيما بينهم لنشر الخير ودحر الشر،

قال تعالى: ( ( والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ) ) (الأنفال: 73) [14] . [ ص: 82 ]

سادسا: سنة عموم الفتنة

قال تعالى: ( ( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب ) ) (الأنفال:25).

في هذه الآية يأمر الله مجتمع المؤمنين أن يتقي الفتنة العامة التي لا تصيب أهل الظلم والفساد فقط، ولكنها تطال بشرها الصالح والطالح، ويتعدى أثرها لكل أبناء المجتمع [15] .

ومعنى الأمر باتقاء الفتنة هنا: الأمر بمنع حصولها عن طريق مدافعة أسباب وقوعها.

وهذا الأمر الإلهي باتقاء الفتن العـامة التي تعصف بحياة المجتمع، يؤكد ما سبق وقلناه: إن القرآن حينما يكشف عن السنن الاجتماعية الكونية، فإنه لا يكشف عنها كسنن حتمية، خارجة عن نطاق التحكم والسيطرة، ولكنه يكشف عنها كسنن يمكن مدافعتها، والسيطرة عليها، وتسخيرها لإصلاح المجتمع، والإفادة منها في تنمية الحياة وترقيتها.

ولعل أوضح مثال على ذلك قول الله تبارك وتعالى:

( ( فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين ) ) (يونس: 98). [ ص: 83 ]

فقوم يونس -هنا- دفعوا عن أنفسهم سنة نزول العذاب بالأمم المكذبة لرسلها حين آمنوا كلهم، جاء في كتب التفسير [16] أن يونس ، عليه السلام، أنذرهم وقوع العذاب بعد ثلاثة أيام، فلما رأوا نذر العذاب محدقة بهم آمنوا كلهم، وتضرعوا إلى الله عز وجل شبابا وشيبا، صغارا وكبارا، رجالا ونسـاء: أن يكشف عنهـم العذاب، فكشف الله عنهم العذاب،

كما قال سبحانه: ( ( كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين ) ) (يونس: 98).

وهذه المدافعة أمر تميز به قوم يونس من بين سائر الأقوام،

كما يفهم من قوله سبحانه: ( ( فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين ) ) (يونس: 98). أي: فهلا كانت قرية آمنت قبل معاينة العذاب كما فعل قوم يونس حتى نكشف عنهم العذاب، فإن قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم العذاب ومتعناهم إلى حين، والمراد بالحين هنا العمر الطبيعي الذي يعيشه الإنسان [17] .

وفي ضـوء ما تقدم يمكننا أن نفهم معنى الأمر الإلهي:

( ( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب ) ) (الأنفال:25). [ ص: 84 ]

ولفظ الفتنة يطلق ويراد به: الابتلاء والاختبار والامتحان،

قال تعالى: ( ( ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون ) ) (الأنبياء:35).

وقال سبحانه: ( ( إنا مرسلو الناقة فتنة لهم فارتقبهم واصطبر ) ) (القمر:27)؛

ويطلق ويراد به العذاب كما في قوله سبحانه: ( ( يوم هم على النار يفتنون ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون ) ) (الذاريات:13-14).

ولفظ الفتنة في قوله سبحانه: ( ( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب ) ) (الأنفال:25).

يراد به البلية العامة عقوبة من الله للمجتمع كما يفهم من قوله سبحانه في ختام الآية ( ( واعلموا أن الله شديد العقاب ) ) [18] .

وعلى هذا يكون معنى هذه السنة: أن الناس إذا لم يقوموا بواجبهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأخذ على يد الظالم، ومقاومة الفساد والانحراف، فإن نتيجة ذلك هي تمادي الشر والفساد والظلم والانحراف في الحياة الاجتماعية، مما يؤدي في نهاية المطاف إلى العذاب والبلاء العام الذي يطال جوانب الحياة كلها، ويصطلي بناره أبناء المجتمع كلهم، والواجب على أفراد المجتمع أن يدفعوا عن أنفسهم وقوع هذا البلاء العام بمدافعة أسبابه. [ ص: 85 ]

- الاستفادة من سنة عموم الفتنة في إصلاح المجتمع

إن سنة عموم الفتنة تضع المجتمع أمام مسئولياته في الحفاظ على أمنه وسلامته واستقراره، وذلك من خلال ممارسة الإصلاح، ومواجهة بؤر الفساد، والتصدي لمظاهر الانحراف.

والواقع أكبر شاهد على صدق هذه السنة، فلقد رأينا مجتمعات سكتت عن فساد المستبدين، وجبنت أمام سطوة الظالمين، وتخاذلت في مواجهة الفاسدين، فكان نتيجة ذلك أن دخلت تلك المجتمعات في دوامة من الفتن والصراعات الدامية التي أتت على كل شيء، ولم تستثن أحدا، فدفعت تلك المجتمعات ثمنا باهظا من دمها وأمنها واستقرارها وسيادتها واقتصادها؛ جراء تقاعسها وتخاذلها عن القيام بواجبها في الإصلاح والتغيير، وقد كان بإمكان تلك المجتمعات أن تصحح أوضاعها، وأن تقوم اعوجاجها، بخسائر أقل وأهون بكثير، لو أنها أخذت زمام المبادرة الواعية، وواجهت بشجاعة بؤر الفساد، ومصادر الشر والانحراف.

إن الوعي بهذه السنة أعني سنة عموم الفتنة والوعي بإمكانية وضرورة مدافعتها، وحماية المجتمع من آثارها، هو ما يميز المجتمعات الحية عن غيرها من المجتمعات التي أصابها الشلل النفسي الإرادي، والموت الحضاري.. ولذلك فالمجتمعات التي تعي هذه السنة، وتحسن مدافعتها، هي المجتمعات الخليقة بحياة يسودها الأمن والاستقرار والنماء، وهي الجديرة بحياة تحمى فيها الحقوق، وتصان فيها الحريات. [ ص: 86 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية