الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          أولا: الإشارة بالأصابع

          ورد في أحاديث كثيرة أن الرسول استخدم أصابعه عند تعليمه أصحابه رضي الله عنهم في إشارات تعليمية هادفة، فتارة يستخدم إصبعا واحدا، وتارة أخرى يستخدم إصبعين، وثالثة [ ص: 67 ] يستخدم ثلاث أصابع، وحينا يشير بأربع، وحينا آخر يستخدم أصابعه الخمس. وفي كل مرة تحقق إشارته هدفا تعليميا من زيادة وضوح معنى، إلى إثارة انتباه، إلى ترسيخ فكرة. ومن تلك الأحاديث ما يلي:

          1- قال رسول الله: ( والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه (وأشار يحيى بالسبابة ) في اليم فلينظر بم ترجع ) [1] ويحيى أحد الراوة، و (اليم ) هو البحر.

          ففي هذا الحديث نجد أن الرسول يستخدم وسيلة الإشارة الحسية التي يرتبط فيها المفهوم المجرد بشيء ملموس وهو هنا إصبع. ولا شك أن ذلك أشد وقعـا في نفوس الحاضرين من مجرد القول: إن الدنيا لا تساوي شيئا بالنسبة للآخرة.

          2- عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي قال: ( من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو وضم أصابعه ) [2] [ ص: 68 ] ( جاريتين ) بنتين.

          (عال جاريتين ) قام عليهما بالمؤنة والتربية ونحوهما.

          إن هذه الحركة منه أبلغ في إيصال المعنى المقصود إلى أذهان الحاضرين من مجرد القول: إن من عال بنتين حتى تبلغا يكون قريبا مني يوم القيامة.

          3- عن سهل بن سعد السـاعدي رضـي اللـه عـنـه، عن الرسول أنه قال: ( بعثت أنا والساعة كهذه من هذه، أو كهاتين ) (وقرن بين السبابة والوسطى ) [3]

          فإشارته بإصبعيه لبيان قرب مبعثه من قيام الساعة لها من الوضوح والوقع والثبات في الأذهان أشد من القول: بعثت قرب الساعة.

          4- ومثله حديث البخاري وغيره: ( أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا ) ، وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما شيئا [4] حيث [ ص: 69 ]

          إن الإشارة بالسبابة والوسطى والتفريج بينهما قليلا تحدد المفهوم المقصود شرحه بأبلغ مما تفيده عبارة تقريرية مثل: كافل اليتيم يكون قريبا من النبي في الجنة. (كافل اليتيم ) القائم بأموره.

          5- عن أبي عثمان قال: ( كتب إلينا عمر ونحن بأذربيجان أن النبي نهى عن لبس الحرير إلا هكذا، وصف لنا النبي إصبعيه، ورفع زهير -أحد الرواة - الوسطى والسبابة ) [5]

          ففي هذا الحديث نجد أن التوضيح العملي من قبل النبي للمقدار المباح من الحرير للرجال، بأن صف إصبعيه أمام المتعلمين، يساعد على بقاء أثر التعلم لديهم بأقوى من اللفظ المجرد عن هذه الوسيلة.

          6- عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أن رسول الله قال: ( من مسح رأس يتيم أو يتيمة لم يمسحه إلا لله كان له بكل شعرة مرت عليها يده حسنات، ومن أحسن إلى يتيمة أو يتيم عنده، كنت أنا وهو في الجنة كهاتين. وقرن بين إصبعيه ) [6] 0 [ ص: 70 ]

          7- عن عوف بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله: ( أنا وامرأة سفعاء الخدين كهاتين يوم القيامة -وجمع بين إصبعيه السبابة والوسطى - امرأة ذات منصب وجمال آمت من زوجها، حبست نفسها على أيتامها حتى بانوا أو ماتوا. ) [7]

          ( سفعاء الخدين ) : قال في الصحاح: سفعته النار والسموم، إذا لفحته لفحا يسيرا فغيرت لون البشرة. والسفعة في الوجه سواد في خدي المرأة الشاحبة [8]

          . وقال الشيخ البنا: أراد أنها بذلت نفسها وتركت الزينة والترفه، حتى تغير لونها وأسود لما تكابده من المشقة والضنك إقامة على ولدها بعد وفاة زوجها، ولم يرد أنها كانت من أصل الخلقة كذلك، لقوله: ( امرأة ذات منصب وجمال ) .. ( آمت ) أي صارات أيما لا زوج لها.. ( بانوا ) أي استقلوا بأمرهم لكبرهم وانفصلوا عنها، أو ماتوا [9]

          8- ( عن مجيبة الباهلية عن أبيها، أو عمها، أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، [ ص: 71 ] ثم انطلق فأتاه بعد سنة وقد تغيرت حاله وهيئته، فقال: يا رسول الله، أما تعرفني؟

          قال: ومن أنت؟

          قال: أنا الباهلي الذي جئتك عام الأول.

          قال: فما غيرك وقد كنت حسن الهيئة ؟

          قال: ما أكلت طعاما منذ فارقتك إلا بليل.

          فقال رسول الله: لم عذبت نفسك؟

          ثم قال: صم شهر الصبر ويوما من كل شهر.

          قال: زدني فإن بي قوة.

          قال: صم يومين.

          قال: زدني.

          قال: صم ثلاثة أيام.

          قال: زدني.

          قال: صم من الحرم واترك، صم من الحرم واترك، صم من [ ص: 72 ] الحرم واترك، وقال بأصابعه الثلاث فضمها ثم أرسلها.

          )


          ( شهر الصبر) هو شهر رمضان [10]

          9- ( عـن البـراء بن عازب قـال: سمـعت رسـول الله وأشار بأصابعه -وأصابعي أقصر من أصابع رسول الله - يشير بإصبعه يقول: لا يجوز من الضحايا: العوراء البين عورها، والعرجاء البين عرجـها، والمريضة البين مرضها، والعجفاء التي لا تنقي ) .

          ( العجفاء ) المهزولة.

          ( التي لا تنقي ) أي التي لا نقي لها، أي لا مخ لها لضعفها وهزالها [11]

          10- ( أخرج مسلم أن رجلا أتى النبي فقال: يا رسول الله، كيف أقول حين أسأل ربي؟ [ ص: 73 ] قال: قل: اللهم اغفر لي، وارحمني، وعافني، وارزقني -ويجمع أصابعه إلا الإبهام- فإن هؤلاء تجمع لك دنياك وآخرتك. ) [12]

          11- عن بشيـر بن أبي مسـعود رضي الله عنه أنه سمع رسول الله يقول: ( نزل جبريل فأمني فصليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، ) ( يحسب بأصابعه خمس صلوات ) [13]

          12- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي قال: ( ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة، ولا فيما دون خمس ذود صدقة، ولا فيما دون خمس أواق صدقة. )

          ( وعن يحيى بن عمارة قال: سمعت أبا سعيد الخدري يقول: سمعت رسول الله يقول: وأشار النبي بكفه بخمس أصابعه، ثم ذكر بمثل حديث ابن عيينة ) -أحد الرواة - السابق [14] [ ص: 74 ]

          ( أوسق ) جمع وسق وهو ستون صاعا. والصاع أربعة أمداد، والمد مكيال، وهو رطل وثلث عند أهل الحجاز. (خمس ذود ) خمس من الأبل.

          13- ( عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله جمع أصابعه فوضعها على الأرض ثم قال: هذا ابن آدم. ثم رفعها خلف ذلك قليلا، وقال: هذا أجله، ثم رمى بيده أمامه وقال: وثم أمله. ) [15]

          14- وإذا كنا رأينا الرسول في الأحاديث السابقة يستخدم أصابعه الشريفة، فإنه قد يستخدم أحيانا أصابع المتعلم لتوضيح المعنى المراد، فقد أخرج الترمذي ( عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: من يأخذ عني هؤلاء الكلمات فيعمل بهن أو يعـلم من يعمل بـهن؟ فقال أبو هريرة: فقـلت: أنا يا رسول الله. فأخذ بيدي، فعد خمسا وقال:

          اتق المحارم تكن أعبد الناس.. وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس.. وأحسـن إلى جارك تكن مـؤمنا.. وأحب للناس [ ص: 75 ] ما تحب لنفسك تكن مسلما، ولا تكثر الضحك، فإن كثرة الضحك تميت القلب )
          [16]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية