( ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون ) .
[ ص: 276 ] الآيات في سرد الأحكام كما تقدم فلا حاجة لربط كل آية بما قبلها ، والربط ظاهر على القول بأن المراد بالمخالطة في الآية السابقة نكاح اليتامى . أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والواحدي عن مقاتل قال : نزلت هذه الآية في ابن أبي مرثد الغنوي استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في ( ( عناق ) ) أن يتزوجها وهي مشركة وكانت ذات حظ من جمال فنزلت . يعني ( ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ) ذكر ذلك السيوطي في أسباب النزول ، ثم قال وقوله تعالى : ( ولأمة مؤمنة ) الآية . أخرج الواحدي من طريق عن السدي أبي مالك عن قال : ابن عباس نزلت هذه الآية في كانت له أمة سوداء وأنه غضب عليها فلطمها ، ثم إنه فزع فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره وقال : لأعتقنها ولأتزوجنها . ففعل ، فطعن عليه ناس وقالوا : ينكح أمة ! فأنزل الله هذه الآية عبد الله بن رواحة ، وأخرجه عن ابن جرير منقطعا . السدي
وظاهره أن قوله تعالى : ( ولأمة مؤمنة ) إلى ( أعجبتكم ) آية مستقلة نزلت في حادثة غير الحادثة التي أنزل فيها ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ) وهذا الظاهر من صنيعه خفي في نفسه بل هو باطل ألبتة ، ولا شك أن الآية واحدة، نزلت مرة واحدة عند حاجة الناس إلى بيان أحكامها ، ولا مانع أن يكون ذلك بعد حدوث ما روي عن قوله تعالى : ( أبي مرثد وعن . عبد الله بن رواحة
وفي روح المعاني ما نصه : روى الواحدي وغيره ، عن رضي الله تعالى عنهما ( ( ابن عباس مرثد بن أبي مرثد حليفا لبني هاشم إلى مكة ليخرج أناسا من المسلمين بها أسرى ، فلما قدمها سمعت به امرأة يقال لها عناق ، وكانت خليلة له في الجاهلية ، فلما أسلم أعرض عنها فأتته فقالت : ويحك يا مرثد ألا تخلو ؟ فقال لها : إن الإسلام قد حال بيني وبينك وحرمه علينا ، ولكن إن شئت تزوجتك . فقالت : نعم ، فقال : إذا رجعت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استأذنته في ذلك ثم تزوجتك ، فقالت له : أبي تتبرم ؟ ثم استعانت عليه فضربوه ضربا وجيعا ثم خلوا سبيله ، فلما قضى حاجته بمكة انصرف إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - راجعا وأعلمه الذي كان من أمره وأمر عناق وما لقي بسببها فقال : يا رسول الله أيحل لي أن أتزوجها ؟ وفي رواية : إنها تعجبني فنزلت ) ) وتعقب ذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث رجلا من غنى يقال له السيوطي بأن هذا ليس سببا لنزول هذه الآية ، وإنما هو سبب في نزول آية النور ( الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة ) ( 24 : 3 ) وروى عن السدي رضي الله تعالى عنهما أن هذه ( ( ابن عباس نزلت في وكانت له أمة سوداء ، وأنه غضب عليها فلطمها ثم إنه فزع فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره خبرها ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : ما هي يا عبد الله بن رواحة عبد الله ؟ قال : هي يا رسول الله [ ص: 277 ] تصوم وتصلي وتحسن الوضوء وتشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسوله ، فقال : يا عبد الله هي مؤمنة ، قال عبد الله : فوالذي بعثك بالحق لأعتقنها ولأتزوجنها ، ففعل ، فطعن عليه ناس من المسلمين ، فقالوا : نكح أمة ) ) وكانوا يريدون أن ينكحوا إلى المشركين وينكحوهم رغبة في أنسابهم ، فأنزل الله ( ولا تنكحوا ) الآية .
انتهى سياق الألوسي وهو أحسن من سياق السيوطي الذي قدمناه; لأنه مفصل وذاك مختصر اختصارا أوهم أن الذي نزل في هو قوله تعالى : ( ولأمة ) إلخ . عبد الله بن رواحة
على أن السيوطي قال في مقدمة كتابه في أسباب النزول : إن الصحابة يذكرون أن الآية نزلت في كذا ولا يريدون به إلا تفسيرها; أي : إن معناها يتناول ذلك ، وإذا ذكروا أسبابا فقد يعنون أنها نزلت عقبها . والألوسي يقول : إن السيوطي تعقب الواحدي في السبب الأول ، وليس في كتابه هذا شيء من هذا التعقب ، على أنه حوى كتاب الواحدي وزيادات ، وأما آية ( الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة ) ( 24 : 3 ) فقد ذكر لها السيوطي سببين ، أحدهما : ( ( أم مهزول كانت تسافح ) ) رواه أن رجلا أراد أن يتزوج امرأة يقال لها . والثاني : ( ( النسائي مزيد أراد أن يتزوج امرأة بمكة صديقة له يقال لها عناق ) ) رواه أن رجلا يقال له أبو داود والترمذي والنسائي والحاكم من حديث عن أبيه عن جده - وفي حديثه عنهما مقال - وقد روى الأول غير من ذكر ، وقوله هنا ( ( عمرو بن شعيب مزيد ) ) مصحف والصواب مرثد . ونكاح البغايا كان فاشيا ، والمشهورات منهن في الجاهلية كثيرات ، وقد نزلت الآية في الجميع .
وجملة القول أن ما روي في الآية التي نفسرها الآن متفق على أن المراد بالمشركات فيها غير الكتابيات من نساء العرب ، وذهب بعضهم إلى أن المراد بالمشركين والمشركات عام يشمل أهل الكتاب; لأن بعض ما هم عليه شرك ، وقد قال تعالى بعد ذكر بعض عقائدهم : ( سبحانه عما يشركون ) ( 9 : 31 ) واستدلوا على شركهم أيضا بقوله تعالى : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) ( 4 : 48 ) ولو لم يكونوا مشركين لجاز أن يغفر الله لهم ، وذهب الأكثرون إلى أن المراد بالمشركات مشركات العرب اللاتي لا كتاب لهن; لأن هذا هو عرف القرآن في لقب المشرك ، قال تعالى : ( ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين ) ( 2 : 105 ) الآية ، وقال تعالى : ( لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة ) ( 98 : 1 ) والعطف يقتضي المغايرة ، وهذا القول هو الذي يتفق مع قوله تعالى في بيان من يحل من النساء : ( والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ) ( 5 : 5 ) وهي في سورة المائدة ، وقد نزلت بعد سورة البقرة; ولذلك ذهب من قال بأن لفظ المشركات شامل للكتابيات إلا أن آية المائدة نسخت آية البقرة ، وقال بعضهم [ ص: 278 ] ومنهم ( الجلال ) : إنها خصصتها بغير الكتابيات ، والمقصود واحد . وزعم بعض المفسرين أن آية البقرة هي الناسخة لآية المائدة ، وهذا لا وجه له مع الاتفاق على أن سورة المائدة من آخر القرآن نزولا . وذهب بعض آخر إلى التأويل بأن آية المائدة مقيدة بما إذا أسلمن ، وهذا ليس بشيء; إذ لا دليل على القيد المحذوف; ولأن أيضا بالإجماع ، وجرى عليه العمل في عصر التنزيل قبل نزول الآية فما فائدة ذكره ؟ المشركات إذا أسلمن يحل نكاحهن
وقد اختلف في المجوس فقيل : يدخلون في المشركين لأنهم لا كتاب لهم ، وقيل : بل كان لهم كتاب ، وبعض الفقهاء يقول : لهم شبهة كتاب ، وقد يشعر بأنهم أهل كتاب قوله تعالى في سورة الحج : ( إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة ) ( 22 : 17 ) فالعطف يقتضي المغايرة . وقد فرق الفقهاء بين المشركين والمجوس في الجزية ولا حاجة للبحث في ذلك هنا .
أما ما استدل به الآخرون على شرك أهل الكتاب من قوله تعالى : ( سبحانه عما يشركون ) ( 9 : 31 ) وقوله : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ) ( 4 : 48 ) الآية فقد أجابوهم عن الأول بأن قوله : ( يشركون ) لا يقتضي أن من حكى عنهم ذلك الفعل يشتق لهم منه وصفا يكون عنوانا لهم فيدخلوا في صنف من يسميهم القرآن بالمشركين " والذين أشركوا " ; فإن الأوصاف كثيرا ما يراد بها عند أهل التخاطب صنف مخصوص لا يدخل فيه كل من يتلبس بالفعل الذي اشتق منه الوصف . مثال ذلك لفظ ( العلماء ) يطلق الآن عند المسلمين على صنف من الناس لا يدخل فيه كل من يتعلم علما أو علوما ، ولو تعلم ما يتعلمون وفاقهم فيه ما لم يكن على زيهم ومشاركا لهم في مجموع المزايا التي كانوا بها صنفا مستقلا ، ويطلق هذا اللفظ عند قوم آخرين على صنف آخر ، وأجابوا عن الثاني بأنه مسوق لبيان فظاعة الشرك والتغليظ فيه وكونه غاية البعد عن الله تعالى ، بحيث قضى بألا تتعلق مشيئته بغفرانه ، على أنه لو شاء أن يغفر كل ذنب سواه لفعل; إذ لا مرد لمشيئته ، فلا يدخل هذا فيما نحن فيه; إذ لا يدل على أن كل من ليس مشركا يغفر الله له ، فيقال : إن نفي الشرك عن أهل الكتاب يستلزم مغفرة الله تعالى لهم مع قيام الأدلة على أنه لا يغفر لمن تبلغه دعوة الحق الذي جاء به الإسلام فيجحدها عنادا واستكبارا .