الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( إنما يأمركم بالسوء والفحشاء ) دون غيرهما من الحق والخير ، فأما السوء فهو كل ما يسوءك وقوعه أو عاقبته ، فمن الشرور ما يقدم عليه المرء مندفعا بتزيين الشيطان له ، حتى إذا فعل الشر فاجأه السوء وعاجله الضرر ، ومن الأعمال ما لا يظهر السوء في بدايته ، ولكنه يتصل بنهايته ، كمن يصده عن طلب العلم أن بعض المتعلمين أضاع وقته وبذل كثيرا من ماله ثم لم يستفد من التعليم شيئا ، فهذا قياس شيطاني يصرف بعض الناس عن طلب العلم بأنفسهم ، وبعض الآباء عن تعليم أولادهم ، فتكون عاقبتهم السوءى ذات ناحيتين : سلبية وهي الحرمان من فوائد العلم ، وإيجابية وهي مصائب الجهل ، وكل منهما ديني ودنيوي ، فلا بد من البصيرة والتأمل في تمييز بعض الخواطر من بعض ، فإن الشيطانية منها ربما لا تظهر بادي الرأي ، وأما الفحشاء فكل ما يفحش قبحه في أعين الناس من المعاصي والآثام ، ولا يختص بنحو الزنا كما قال بعضهم : والفحشاء في الغالب أقبح وأشد من السوء ، وأسوأ السوء - مبدأ وعاقبة - ترك الأسباب الطبيعية التي قضت حكمة الباري بربط المسببات بها اعتمادا على أشخاص من الموتى أو الأحياء يظن بل يتوهم أن لهم نصيبا من السلطة الغيبية والتصرف في الأكوان بدون اتخاذ الأسباب ، ومثله اتخاذ رؤساء في الدين يؤخذ بقولهم ويعتمد على فعلهم ، من غير أن يكون بيانا وتبليغا لما جاء عن الله ورسوله ، فإن في هذين النوعين من السوء إهمالا لنعمة العقل وكفرا بالمنعم بها ، وإعراضا عن سنن الله تعالى وجهلا باطرادها ، وصاحبه كمن يطلب من السراب الماء ، أو ينعق بما لا يسمع غير الدعاء والنداء ، وهذا شأن متخذي الأنداد ( ومن يضلل الله فما له من هاد ) ( 13 : 33 ) وأما الرؤساء الذين يحملون العامة على هذا التقليد في الأمرين فقد بين تعالى اتباعهم لوحي الشيطان بقوله : ( وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ) أي : ويأمركم أن تقولوا على الله في دينه الذي دان به عباده ما لا تعلمون علم اليقين أن الله شرعه لهم من عقائد وأوراد وأعمال تعبدية وشعائر دينية ، أو تحليل ما الأصل فيه التحريم ، وتحريم ما الأصل فيه الإباحة ، ولا يثبت شيء من ذلك بالرأي والاجتهاد من قياس واستحسان ; لأنهما ظن لا علم ، فالقول على الله بغير علم اعتداء على حق الربوبية بالتشريع ، وهو شرك صريح ، وهذا أقبح ما يأمر به الشيطان ، فإنه الأصل في إفساد العقائد وتحريف الشرائع ، واستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير .

                          أليس من القول على الله بغير علم زعم هؤلاء الرؤساء أن لله وسطاء بينه وبين خلقه لا يفعل سبحانه شيئا بدون وساطتهم ، فحولوا بذلك قلوب عباده عنه وعن سنته في خلقه ، ووجهوها إلى قبور لا تعد ولا تحصى ، وإلى عبيد ضعفاء لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ، [ ص: 73 ] ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا ؟ وقد يسمون هذا توسلا إليه ; أي : يتقربون إليه بالشرك به ، ودعاء غيره من دونه أو معه . وهو يقول : ( فلا تدعوا مع الله أحدا ) ( 72 : 18 ) ويقول : ( بل إياه تدعون ) ( 6 : 41 ) أي : دون غيره .

                          أليس من القول على الله بغير علم ما اختلقوه من الحيل لهدم ركن الزكاة وهو من أعظم أركان الإسلام ؟

                          أليس من القول على الله بغير علم ما زادوه في العبادة وأحكام الحلال والحرام عما ورد في الكتاب والسنة المبينة له والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول عن الله تعالى : ( ( وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها ) ) ؟

                          قال الأستاذ الإمام هنا : كل من يزيد في الدين عقيدة أو حكما من غير استناد إلى كتاب الله أو كلام المعصوم فهو من الذين يقولون على الله ما لا يعلمون . ومثل لذلك بالزائرات للقبور وما يأتينه هناك من البدع والمنكرات باسم الدين ، وبتشييع الجنائز بقراءة البردة ونحوها بالنغمة المعروفة . وبحمل المباخر الفضية والأعلام أمامها ، وبالاجتماع لقراءة الدلائل ونحوها من الأوراد بالصياح الخاص ، وقال : إن كل هذا جاء من استحسان ما عند الطوائف الأخر . وليس في الإسلام صيحة غير صيحة الأذان . وقد قال تعالى في الصلاة : ( ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها ) ( 17 : 110 ) وأما التلبية فلم يشرع فيها رفع الصوت والصياح الشديد ، وإنما يكون العجيج من كثرة الناس واختلاف أصواتهم ، وإن لم يرفعوا عقيرتهم جهد المستطاع كما يفعل مقلدة التصوف . قال : وإن كثيرا من البدع في العقائد والأحكام قد دخلت على المسلمين بتساهل رؤساء الدين وتوهمهم أنها تقوي أصل العقيدة وتخضع العامة لسلطان الدين ، أو لسلطانهم المستند إلى الدين . ولقد دخلت كنيسة ( بيت لحم ) فسمعت هناك أصواتا خيل إلي أنها أصوات طائفة من أهل الطريق يقرءون حزب البر مثلا ثم علمت أنهم قسيسون ، فهذه البدع قد سرت إلينا منهم كما سرت إليهم من الوثنيين ; استحسانا منهم ما استحسنوه من أولئك توهما أنه يفيد الدين أبهة وفخامة ويزيد الناس به استمساكا ، فكان أن ترك الناس مهمات الدين اكتفاء بهذه البدع ، فإن أكثر الصائحين في الأضرحة وقباب الأولياء وفي الطرق والأسواق بالأوراد والأحزاب لا يقيمون الصلاة ، ومن عساه يصلي منهم فإنه لا يحرص على الجماعة بعض حرصه على الاجتماع للصياح بقراءة الحزب في ليلة الولي فلان ، ولقد أنس الناس بهذه البدع واستوحشوا من شعائر الدين والسنن حتى ظهر فيهم تأويل قوله عز وجل :

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية