الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ثم قال : ( وأقام الصلاة ) أي : أداها على أكمل وجه وأقومه وأدامها ، وهذا هو الركن الروحاني الركين للبر ، وإقامة الصلاة التي يكرر القرآن المطالبة بها لا تتحقق بأداء أفعال الصلاة وأقوالها فقط . وإن جاء بها المصلي تامة على الوجه الذي يذكره الفقهاء ; لأن ما يذكرونه هو صورة الصلاة وهيئتها ، وإنما البر والتقوى في سر الصلاة وروحها الذي تصدر عنه آثارها من النهي عن الفحشاء والمنكر ، وقلب الطباع السقيمة ، والاستعاضة عنها بالغرائز المستقيمة ، فقد قال تعالى : ( إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين ) ( 70 : 19 - 22 ) فمن حافظ على الصلاة الحقيقية تطهرت نفسه من الهلع والجزع إذا مسه الشر ، ومن البخل والمنع إذا مسه الخير ، وكان شجاعا كريما قوي العزيمة شديد الشكيمة لا يرضى بالضيم ، ولا يخشى في الحق العذل واللوم ; لأنه بمراقبته لله تعالى في صلاته ، واستشعاره عظمته وسلطانه الأعلى في ركوعه وسجوده يكون الله تعالى غالبا على أمره ، فلا يبالي ما لقي من الشدائد في سبيله ، وما أنفق من فضله ابتغاء مرضاته ، وصورة الصلاة لا تعطي صاحبها شيئا من هذه المعاني ، فليست بمجردها من البر في شيء ، وإنما شرعت للتذكير بذلك السناء الإلهي ، والاستعانة بها على توجه القلب إليه ، واستغراقه في ذكره ومناجاته ودعائه ، وهو روحها وسرها الذي يستعان به وبالصبر على جميع المقاصد العالية والمجاهدات ، فهذا هو البر . وقد تقدم القول في معنى الصلاة وإقامتها والاستعانة بها ، وإنما نعيد التذكير كلما أعاده الكتاب العزيز .

                          ( وآتى الزكاة ) المفروضة ; أي : أعطاها مستحقيها . قلما تذكر إقامة الصلاة في القرآن إلا ويقرن بها إيتاء الزكاة ، فالصلاة مهذبة للروح ، والمال - كما يقولون - قرين الروح ، فبذله في سبيل الحق ركن عظيم من أركان البر ، وآية من أظهر آيات الإيمان ، ولذلك أجمع الصحابة عليهم الرضوان على محاربة مانعي الزكاة ، ولكن الذين لا يعرفون من الدين والإيمان إلا تقليد بعض الكتب التي ألفها الميتون ، ونشرها الرؤساء والحاكمون ، يمنعون الزكاة عمدا [ ص: 96 ] باسم الدين ، بما تعلمهم هذه الكتب من الحيل التي تمنع بها الحقوق الثابتة ، وآكدها الزكاة التي ذكر الكتاب مصارفها الثمانية ، وقضى بأن تبقى ببقائها كلها أو بعضها ، ويسمونها حيلا شرعية ، وما نسبتها إلى الشرع إلا كنسبة منجل الحاصد إلى الزرع ، أو العاصفة في القلع .

                          فمانع الزكاة يهدم في الظاهر ركنا من أعظم أركان الإسلام ، وينقض في الباطن من تحته أساس الإيمان ; لأنه يحتال على الله تعالى في إبطال فريضته ، وإزالة حكمته ، فهو لم يرض بحكمه ، ولم يذعن لأمره ، بل فسق عن أمر مولاه ، واتخذ إلهه هواه ، وتجرأ على تبديل كلمات الله ، فنسخ الآيات الكثيرة من كتابه الآمرة بإيتاء الزكاة على أنها آية الإيمان وصلاح العمران ، ثم هو يسمي هذا الحنث العظيم ، والجرم الكبير حكما مشروعا ، ودينا متبوعا ووالله إن نسبة هذا السفه إلى الشرع لأدل على الكفر من ذلك المنع ، إذ لا يعقل أن يشرع الله لنا شيئا ويؤكده علينا سبعين مرة ثم يرضى بأن نحتال عليه ونخادعه في تركه ، ونزعم أنه - تقدس وتعالى - أذن لنا بهذه المخادعة والمخاتلة ! إذن لماذا فرض وأوجب ، ورغب ورهب ، ووعد وأوعد ، وحكم وأحكم ؟ هل كان ذلك لغوا من الكلام ، وجهلا بحكمة وضع الأحكام ؟ على أن تلك الحيل الشيطانية لم يجد لها واضعوها شبهة من تحريف كتاب الله وتأويل آياته كما هي طريقتهم في اتباع أهوائهم ، وتأييد آرائهم ، فإن الله تعالى لم يذكر في كتابه الحول والنصاب ، وإنما ذكر ما هو روح الدين ومقصده وهو إيتاء الزكاة وكونه آية الإيمان ، وتركه آية النفاق والكفران .

                          وقد بينت السنة بالهدى والعمل كيفية الأخذ وقدر المأخوذ وسائر الأحكام ، وليس فيها شيء يصح أن يكون شبهة لإبطال الكتاب والهروب من الاهتداء به ، ولكن المخذولين لما تركوا الاهتداء بالكتاب والسنة ، وجعلوا عبارات الكتب التي صنفوها هي مآخذ الدين وينابيعه صاروا يحتالون في تطبيق أعمالهم على تلك العبارات المخلوقة ، فيكتب أحدهم مثلا : تجب الزكاة على مالك النصاب إذا تم الحول وهو مالك له ، ثم يعمد هو وغيره إلى تطبيق دينه على هذه العبارات فيهب ماله قبل انقضاء الحول بيوم أو يومين إلى امرأته ولو مع الاشتراط عليها أن تعيده له بعد يوم أو يومين ، ويقول : إنه لم تجب عليه الزكاة بحسب نص الكتاب الذي سماه فقها ، ويدك بكلمة كتابه المخلوق كتاب الله القديم ، وسنة رسوله الحكيم ، وحكمة دينه القويم ، ويزعم مع هذا كله أنه مسلم مؤمن بالله وكتابه ورسوله ، بل يزعم أنه عالم فقيه في الدين ، يجب تقليده واتباعه على المؤمنين ، وربما يتبجح إذا سمع أو قرأ قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ( من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ) ) لأنه يزعم أن الله أراد به خيرا ففقهه في الدين ، والحديث متفق عليه ، وفي رواية زيادة ( ( ويلهمه رشده ) ) .

                          فيا أهل الفطرة السليمة التي لم يفسدها فقه هؤلاء المحتالين على الله لهدم دينه أفتونا : [ ص: 97 ] هل العلم بمثل هذه الحيلة ينطبق على أصول البر التي ذكرها الله في هذه الآية ، وعلى الفقه والرشد الذي ذكره النبي في حديثه هذا ، أم هذه فتنة من فتن التقليد وأخذ الدين من الكتب المحدثة دون كتاب الله المجيد ؟

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية