ثم قال تعالى : ( ويسألونك عن اليتامى ) إلخ ، أخرج أبو داود والنسائي والحاكم وغيرهم قال : لما نزلت ( ابن عباس ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ) ( 17 : 34 ) و ( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ) ( 4 : 10 ) الآية . انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه ، فجعل يفضل له الشيء من طعامه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد ، فاشتد ذلك عليهم ، فذكروا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله ( ويسألونك عن اليتامى ) الآية . ذكره عن السيوطي في أسباب النزول .
نعم إن آيات الوصية في اليتامى كثيرة، ومنها ما نزل في مكة كقوله تعالى : ( ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ) ( 17 : 34 ) [ ص: 272 ] في سورة الإسراء ، وقوله تعالى : ( فأما اليتيم فلا تقهر ) ( 93 : 9 ) في سورة الضحى، وقوله عز وجل : ( فذلك الذي يدع اليتيم ) ( 107 : 2 ) في سورة الماعون ، جعل دع اليتيم - وهو دفعه وجره بعنف - أول آيات التكذيب بالدين .
وأجمع ما ورد في ذلك وآكده آيات سورة النساء وهي مدنية كسورة البقرة ، ومنها قوله تعالى : ( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا ) ( 4 : 10 ) ولكن سورتها نزلت بعد سورة البقرة . وقد كان السابقون الأولون من المؤمنين يحفظون حدود الله تعالى ، ويأخذون القرآن بقوة; لأنهم لبلاغتهم يفهمون الوعيد في مثل هذه الآية ، فتحدث لهم من الذكرى والعظة ما لا يجد مثله من لم يؤت بلاغتهم ، وليس المراد ببلاغتهم أنهم قرءوا علم المعاني والبيان فحفظوا في أذهانهم عللا كثيرة للتقديم والتأخير في المسند والمسند إليه ونحو ذلك ، وإنما هي مقاصد الكلام ومغازيه تغوص في أعماق القلوب كما يغوص الماء في الإسفنج ، فلا تدع فيها مكانا يتعاصى على تأثيرها كما قال الأستاذ الإمام . هذا الاتعاظ والاعتبار بوصايا الكتاب العزيز في اليتامى قد ملك نفوس المؤمنين فتركهم في حيرة وحرج من أمر القيام عليهم واستغلال أموالهم; خوفا أن ينالهم شيء من الظلم المذكور في آية سورة النساء; لأن الظلم يتناول كل ما نقص من الحق ، وشاهده قوله تعالى : ( كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا ) ( 18 : 33 ) فإذا اختلط اثنان في النفقة وأكل أحدهما مما اشترى بمالهما أكثر من الآخر تكون الزيادة من مال الآخر ، فإن كان راشدا فرضاه ولو بالعرف أو القرينة إذن يبيح هذا التناول ، وأما إذا كان الخليط يتيما فإن الزيادة تكون مظنة الظلم أو هي منه حتما; ولذلك تأثم الصحابة عليهم الرضوان من مخالطة اليتامى بعد نزول آية النساء ، وإن كانت العادة جارية بتسامح الناس في مؤاكلة الخلطاء والشركاء من غير تدقيق ، فكان بعضهم يأبى القيام على اليتيم ، وبعضهم يعزل اليتيم عن عياله فلا يخالطونه في شيء حتى إنهم كانوا يطبخون له وحده ، ثم إنهم فطنوا إلى أن هذا - على ما فيه من الحرج عليهم - لا مصلحة فيه لليتيم بل هو مفسدة له في تربيته ومضيعة لماله ، وفيه من القهر المنهي عنه ما لا يخفى; فإنه يكون في البيت كالكلب، أو الداجن في مأكله ومشربه . ومن هنا جاءت الحيرة واحتيج إلى السؤال عن طريق الجمع بين الأمرين ، والتوحيد بين المصلحتين ، بأن يعيش اليتيم في بيت كافله عزيزا كريما كأحد عياله ، ويسلم الكافل من أكل شيء من ماله بغير حق ، وكان من فضل الله تعالى ورحمته أن أنزل الوحي في إزالة الحيرة وكشف الغمة ، فقال لنبيه : ( قل ) لهؤلاء السائلين عن القيام على اليتامى وكفالتهم ، وعن المصلحة في عزلهم أو مخالطتهم ( إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم ) يعني أي إصلاح لهم خير من عدمه فلا تتركوا شيئا مما تعلمون أن فيه صلاحا لهم في أموالهم وأحوالهم من تربية وتهذيب ، هذا ما أفاده تنكير ( إصلاح ) وإن تخالطوهم لرؤيتكم الخير لهم في المخالطة في المعيشة فهم إخوانكم في الدين ، وإنما شأن الإخوان المخالطة في المعاشرة .
[ ص: 273 ] وقد أزالت الكلمة الأولى من هذا الجواب الوجيز شبهة المتأثمين من كفالتهم ، وكشفت الكلمة الثانية شبهة القوام المتحرجين من مخالطتهم ، ومن هذا الجواب عرفنا حقيقة السؤال ، وهذا من ضروب الإيجاز التي لم تعرف إلا من القرآن .
أما معنى كون الإصلاح لهم خيرا فهو أن القيام عليهم لإصلاح نفوسهم بالتهذيب والتربية ، وإصلاح أموالهم بالتثمير والتنمية ، هو خير من إهمال شأنهم وتركهم لأنفسهم تفسد أخلاقهم وتضيع حقوقهم ، خير لهم لما فيه من صلاحهم ، وخير للقوام والكافلين لما فيه من درء مفسدة إهمالهم ، ومن المصلحة العامة في صلاح حالهم ، ولما في ذلك من حسن القدوة في الدنيا ، وحسن المثوبة في الأخرى . قال في التفسير الكبير : قال القاضي : هذا الكلام يجمع النظر في صلاح مصالح اليتيم بالتقويم والتأديب وغيرها لكي ينشأ على علم وأدب وفضل; لأن هذا الصنع أعظم تأثير فيه من إصلاح حاله بالتجارة ، ويدخل فيه أيضا إصلاح ماله كي لا تأكله النفقة من جهة التجارة ، ويدخل فيه أيضا معنى قوله تعالى : ( وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ) ( 4 : 2 ) .
وأما قوله : ( وإن تخالطوهم فإخوانكم ) فمعناه أنه لا وجه للتأثم من مخالطتهم في المأكل والمشرب والمكسب ، فهم إخوانكم في الدين ، ومن شأن الإخوة أن يكونوا خلطاء وشركاء في الملك والمعاش ، ولا ضرر على أحد منهم في ذلك، بل هو نافع لهم; لأن كل واحد منهم يسعى في مصلحة الجميع ، والمخالطة مبنية بينهم على المسامحة لانتفاء مظنة الطمع وتحقق الإخلاص وحسن النية ، كأنه يقول : وإن تخالطوهم فعليكم أن تعاملوهم معاملة الإخوة في ذلك، فيكون اليتيم في البيت كالأخ الصغير تراعى مصلحته بقدر الإمكان ، ويتحرى أن يكون في كفته الرجحان ، وقيل : إن المراد بالمخالطة المصاهرة، وأخوة الإسلام علة لحلها ، وقد أطال أبو مسلم في ترجيح هذا الوجه .
وهذا الذي هدانا إليه الكتاب العزيز في شأن اليتامى من معاملتهم كالإخوان مبني على ما أودع الفطرة السليمة من الحب والإخلاص للأقربين ، وقد طرأ الفساد على هذه الرابطة النسبية في بلاد كثيرة بما أفسدت السياسة في الأمة ، فصار الأخ يطمع في مال أخيه ، ويحفر له من المهاوي ما لعله هو يقع فيه ، وأمثال هؤلاء الذين فسدت طباعهم واعتلت خلائقهم لا يوكل إليهم الرجوع إلى الفطرة وتحكيمها في معاملة اليتامى كالإخوة; لذلك لم يكتف القرآن بذلك حتى وضع للضمير والوجدان قاعدة يرجع إليها في هذا الشأن ، فقال : ( والله يعلم المفسد من المصلح ) أي : إنه لم يكل أمر مخالطة اليتامى إلى حكم نزعة القرابة وعاطفة الأخوة من قلوبكم إلا وهو يعلم ما تضمر هذه القلوب من قصد الإصلاح لهم أو الإفساد ، فعليكم أن تراقبوه في أعمالكم ونياتكم ، وتعلموا أن سيحاسبكم على مثقال [ ص: 274 ] الذرة مما تعملون لهم . والمصلح : هو من يأتي بالإصلاح عملا ، والمفسد : هو من يأتي بالإفساد فعلا ، وحال كل منهما ظاهرة للعيان ، وإنما أيقظ الله تعالى القلوب إلى ذكر علمه بذلك لتلاحظ اطلاعه على العمل ، وتتذكر جزاءه عليه فتراقبه فيما خفي منه ، لعلها تأمن من مزالق الشهوة ، وتسلم من مزال الشبهة; فإن شهوة الطامع تولد لصاحبها شبهة أكل مال اليتيم ، كما يأكل صاحبها مال أخيه الضعيف ، ولا عاصم من ذلك إلا بمراقبة الله تعالى وتقواه . وإلا فإننا نرى أكثر الأوصياء على الأيتام في هذا الزمان يظهرون للملأ إصلاح أحوالهم ، وتثمير أموالهم ، مع العفة والزهادة فيها ، وهم في الباطن يأكلونها أكلا لما ، حتى إن واحدهم يصبح غنيا بعد فقر ولا عمل له إلا القيام على اليتيم ، والأجرة المفروضة له على الوصاية لا غناء فيها فيكون غنيا بها . وكل من يطلب أن يكون وصيا على يتيم ويسعى لذلك سعيه فهو موضع للظنة ، وقلما يوجد فيهم من يرضى بما يفرض له على عمله ، وسيأتي ما يحل للوصي من مال اليتيم وما يحرم في سورة النساء إن شاء الله تعالى .
ثم بين لنا سبحانه وتعالى منته علينا ورحمته بنا بما أذن لنا من مخالطة اليتامى فقال : ( ولو شاء الله لأعنتكم ) أي : أوقعكم في العنت ، وهو المشقة وما يصعب احتماله ، بأن يكلفكم القيام بشئون اليتامى وتربيتهم وحفظ أموالهم ، ولا يأذن لكم بمخالطتهم ولا بأكل لقمة واحدة من طعامهم ، ولكنه لسعة رحمته لا يكلف نفسا إلا وسعها ، ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) ( 22 : 78 ) ولذلك أباح لكم مخالطة اليتامى على أن تعاملوهم معاملة الإخوة ، ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم ، وقد عفا عما جرى العرف على التسامح فيه لعدم استغناء الخلطاء عنه ، ووكل ذلك إلى ذمتكم وأمركم بمراقبته فيه ، وهو الرقيب المهيمن الذي لا يخفى عليه شيء من عملكم ولا من قصدكم ونيتكم . ( إن الله عزيز حكيم ) فلو شاء إعناتكم لعز على غيره منعه من ذلك; إذ لا عزة تعلو عزته ، ولكن مضت حكمته بأن تكون شريعته جامعة لمصالح عباده ، جارية على سنن الفطرة المعتدلة التي فطرهم عليها .
هكذا جعل الأستاذ الإمام ذكر ( العزيز ) في هذا المقام لتقرير إمكان تعلق المشيئة بالإعنات ، وذكر ( الحكيم ) لتقرير التفضل بعدم تعليق المشيئة به ، وكل من الأمرين مفهوم من قوله : ( ولو شاء الله لأعنتكم ) ويحتمل أن يكون ذكر الاسمين الكريمين تقريرا لعزته وحكمته تعالى في المسائل الثلاث في الآيتين : مسألة الخمر والميسر ، ومسألة الإنفاق ، ومسألة اليتامى ، فإنها وردت في الآيات معطوفا آخرها على أولها ، ولله العزة بمنع الناس بعض الشهوات ، وبتكليفهم الإنفاق من فضول أموالهم ، وبتكليفهم تحري الإصلاح للأيتام مع الإذن بمخالطتهم ، ومن حكمته أن منعهم ما يضرهم من ذلك ، وكلفهم ما فيه مصلحتهم ، وأن هداهم إلى وجه منفعة النافع ومضرة الضار .
الأستاذ الإمام : النكتة في وصل السؤال عن اليتامى بالسؤال عن الإنفاق والسؤال [ ص: 275 ] عن الخمر والميسر أنه لما كان ذانك السؤالان مبنيين لحال فريقين من الناس في الإنفاق وبذل المال - على ما تقدم - ناسب أن يذكر بعدهما السؤال عن صنف هو من أحق أصناف الناس بالإنفاق عليه وبذل المال في سبيل تربيته وإصلاح شأنه وهو صنف اليتامى ، وليس الترغيب بالإنفاق عليهم ببعيد من هذه الآية ، وقد تكرر في غير هذه السورة ، كأنه سبحانه وتعالى يذكرنا عند الإذن بمخالطة اليتامى والترغيب في الإصلاح لهم بأن النفقة عليهم من أموالنا مندوب إليها ، وأنهم من المستحقين لما ننفقه من العفو الزائد عن حاجاتنا; فلا يليق بنا أن نعكس القضية ونطمع في فضول أموالهم; لأنهم ضعفاء قاصرون لا يستطيعون دفاعا عن حقوقهم ، ولا ذودا عن مصالحهم ، فجمع الأسئلة الثلاثة في الآيتين وعطف بعضها على بعض في غاية الإحكام والالتئام .
وترون من هذا السؤال وجوابه كيف كانت عناية المؤمنين في حفظ أحكام الله واتقاء اعتداء حدوده ، وكيف شدد الله تعالى الأمر في شأن اليتامى ، فلم يأذن بالقيام عليهم إلا بقصد الإصلاح ، ولا بمخالطتهم إلا مخالطة أخوة ، وكيف وجه القلوب مع هذا إلى مراقبته ، والتذكر لإحاطة علمه ، ثم ترون كيف اتخذ الناس هذه الآيات وسيلة للتلذذ بنغمات قارئيها ، أو للتعبد بألفاظها دون الاهتداء بمعانيها ، ومن أخذته هزة عند سماع مثل قوله تعالى : ( والله يعلم المفسد من المصلح ) فإنها لا تلبث أن تزول ، ثم هو لا يزول عن إفساده ولا يرجع إلى رشاده ، ومنهم من يتزيا بزي المتقين ، ويظهر في صورة الصالحين ، ويكثر من التسبيح والتلاوة ، وحضور صلاة الجماعة ، حتى إذا ما جعل وصيا على يتيم لا ترى لذلك التحنث أثرا في عمله ، ولا ذلك السمت حائلا دون زلله ، فهو إن أصلح شيئا يفسد أشياء ، ولا يراقب الله ولكن يراقب الحسبة والقضاء; ذلك أن الإسلام قد صار تقاليد صورية ، وحركات بدنية ، ليس له منبع في القلوب ، ولا أثر صالح في الأعمال ، وإن الله تعالى لا ينظر إلى الصور والأبدان ، ولا يعبأ بالحركات والأقوال ولكن ينظر إلى القلوب والأرواح ، وما ينشأ عن صلاحها من خير وإصلاح .