قال تعالى : ( ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو ) قال السيوطي في كتاب أسباب النزول : أخرج من طريق ابن أبي حاتم سعيد أو عكرمة عن ابن عباس أن نفرا من الصحابة حين أمروا بالنفقة في سبيل الله أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : إنا لا ندري ما هذه النفقة التي أمرنا في أموالنا فما ننفق منها ؟ فأنزل الله ( ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو ) وأخرج أيضا عن يحيى أنه بلغه أن معاذ بن جبل وثعلبة أتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالا : يا رسول الله إن لنا أرقاء وأهلين فما ننفق من أموالنا ؟ فأنزل الله هذه الآية . وليس المعنى [ ص: 268 ] أن السؤال الأول عن الخمر والميسر نزل وحده ثم نزل هذا السؤال بعده ، بل المراد أن هذه الأسئلة كانت مما يقع من الصحابة فأنزل الله هذه الآيات بيانا لهذه الأحكام ، وإجابة للسائلين عندما استعدوا للأخذ بها ، وما ورد يدل على أن المراد أي جزء من أموالهم ينفقون ، وأي جزء منها يمسكون ، ليكونوا ممتثلين لقوله : ( وأنفقوا في سبيل الله ) ( 2 : 195 ) ومتحققين بقوله : ( ومما رزقناهم ينفقون ) وما في معنى ذلك من الآيات التي تنطق بأن الإنفاق في سبيل الله من آيات الإيمان وشعبه اللازمة له على الإطلاق ، الذي يشعر أن على المؤمن أن ينفق كل ما يملك في سبيل الله . وقد قضت الحكمة بهذا الإطلاق في أول الإسلام وبمدح الإيثار على النفس; لأن المسلمين كانوا فئة قليلة في أمم وشعوب وقبائل تناصبهم العداوة وتبذل في ذلك الأموال والأرواح ، فإذا لم يتحدوا حتى يكونوا كشخص واحد ، ويبذل كل واحد ما بيده لمصلحتهم العامة ، لا تستقيم لهم حال ولا تقوم لهم قائمة ، وهذه هي السنة العامة في كل دين عند ابتداء ظهوره وأول نشأته ، ثم بعد أن تعتز الملة وتكثر الأمة ، ويصير يكفي لحفظ مصلحتها ما يبذله كل ذي غنى من بعض ماله ، ويفرغ الجمهور للأعمال الخاصة بحيث يتمكن ذو العمل أن يفيض من كسبه على أهله وولده ، بعد أن كان مستغرقا في السعي لتعزيز دينه ووقايته من المحو والزوال ، بعد هذا كله تختلف الحال فلا يسهل على كل واحد أن يؤثر كل محتاج على نفسه وأهله وولده; ولذلك توجهت النفوس بعد استقرار الإسلام إلى تقييد تلك الإطلاقات في الإنفاق ، فسألوا ماذا ينفقون ؟ فأجيبوا بأن ينفقوا العفو ، وهو الفضل والزيادة عن الحاجة ، وعليه الأكثر ، وقال بعضهم : إن العفو نقيض الجهد; أي : ينفقون ما سهل عليهم وتيسر لهم مما يكون فاضلا عن حاجتهم وحاجة من يعولون .
قرأ أبو عمرو ( العفو ) بالرفع والباقون بالنصب، والإعراب ظاهر ، والزيادة أمر مجمل يحتاج إلى بيان ، فهل المراد حاجة اليوم أو الشهر أو السنة ؟ رجح بعضهم الأخير; لأن . وقال الأستاذ الإمام : إن القرآن أطلق العفو ليقدره كل قوم في كل عصر بحسب ما يليق بحالهم; لأنه خطاب عام ليس خاصا بأهل جزيرة العرب ، ولا بحال الناس في زمن البعثة . والمراد بهذا الإنفاق ما وراء الزكاة المفروضة المحدودة كصدقة التطوع على الأفراد وعلى المصالح العامة ، وإن كان لفظ العفو يصدق على الزكاة; لأنها لا تكون إلا من الزائد على الحاجة الذي لا جهد ولا مشقة فيه . النبي - صلى الله عليه وسلم - ادخر لأهله قوت سنة
وقد ورد في الأحاديث الصحيحة ما يؤيد هذا ، فقد أخرج البخاري ومسلم وأبو داود من حديث والنسائي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( ( أبي هريرة ) ) وأخرج خير الصدقة ما كان [ ص: 269 ] عن ظهر غنى ، وابدأ بمن تعول من حديثه أيضا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( ( ابن خزيمة ) ) . خير الصدقة ما أبقت غنى ، واليد العليا خير من اليد السفلى ، وابدأ بمن تعول ، تقول المرأة : أنفق علي أو طلقني ، ويقول مملوكك : أنفق علي أو بعني ، ويقول ولدك : إلى من تكلني ؟
وقد نوه الأستاذ الإمام في هذا المقام بالإنفاق في حفظ مصالح الأمة وأعمالها الخيرية ، فقال ما مثاله : إن الأمة المؤلفة من مليون واحد إذا كانت تبذل من فضل مالها في مصالحها العامة ، كإعداد القوة وتربية النابتة على ما يؤهلها لاستعمالها ويقرر الفضيلة في أنفسها تكون أعز وأقوى من أمة مؤلفة من مائة مليون لا يبذلون شيئا من فضول أموالهم في مثل ذلك; ذلك بأن الواحد من الأمة الأولى يعد بأمة; لأن أمته عون له، تعده جزءا منها ويعدها كلا له; والأمة الثانية كلها لا تعد بواحد; لأن كل جزء من أجزائها ( أي أفرادها ) يخذل الآخر ويرى أن حياته بموته فيكون كل واحد منها في حكم الميت . وفي الحقيقة إن مثل هذا الجمع لا يسمى أمة; لأن كل واحد من أفراده يعيش وحده وإن كان في جانبه أهل الأرض ، فهو لا يتصل بمن معه ليمدهم ويستمد منهم ، ويتعاون الجميع على حفظ الوحدة الجامعة لهم التي تحقق معنى الأمة فيهم . وإنه لم تنهض أمة ولا ملة إلا بمثل هذا التعاون ، وهو مساعدة الغني للفقير ، وإعانة القوي للضعيف ، وبذل المال ، والعناية في حفظ المصلحة العامة; بهذا ظهر القليل على الكثير وكانت لهم السيادة ، وبترك هذا انحلت الأمم الكبيرة ، وفقدت الملك والسعادة .
قال الأستاذ الإمام : إن النكتة في الجمع بين السؤال عن الخمر والميسر ، والسؤال عن الإنفاق في آية واحدة هي المقارنة بين حال فريقين من الناس : فريق ينفق المال بغير حساب في سبيل الإثم ، إما للتفاخر والتباهي فيما لا فخر فيه ولا شرف في الحقيقة ، وإما لمجرد اللذة وإن ساءت عواقبها ، وفريق ينفقه في سبيل الله يزيل به ضرورة إخوانه المساكين والضعفاء ، ويرفع به من شأن أمته بما يجعله للمصالح العامة وأعمال الخير ، وأعظم المصالح والأعمال في هذا العصر هو التعليم والتربية . ولو بذل المصريون عشر ما ينفقون في الخمر والميسر - ولا سيما ما يسمونه المضاربة - على التعليم ، لتيسر لهم تعميم المدارس في بلادهم ، وتوجيه التعليم فيها إلى ما يجدد ملتهم ويعيد إليهم ما فقدوا من كرامتهم .
وقوله تعالى : ( كذلك يبين الله لكم الآيات ) معناه : مثل هذا النحو وعلى هذه الطريقة من البيان قد قضت حكمة الله بأن يبين لكم آياته في الأحكام المتعلقة بمصالحكم ومنافعكم ، وذلك بأن يوجه عقولكم إلى ما في الأشياء من المضار والمنافع ( لعلكم تتفكرون ) فيظهر لكم [ ص: 270 ] الضار منها أو الراجح ضرره فتعلموا أنه جدير بالترك فتتركوه على بصيرة واقتناع بأنكم فعلتم ما فيه المصلحة ، كما يظهر لكم النافع فتطلبوه ، فمن رحمته لم يرد أن يعنتكم ويكلفكم ما لا تعقلون له فائدة إرغاما لإرادتكم وعقلكم ، بل أراد بكم اليسر فعلمكم حكم الأحكام وأسرارها ، وهداكم إلى استعمال عقولكم فيها ، لترتقوا بهدايته عقولا وأرواحا ، لا لتنفعوه سبحانه أو تدفعوا عنه الضر; فإنه غني عنكم بنفسه ، حميد بذاته ، عزيز بقدرته .
ثم بين جل شأنه أن هذا البيان المعد للتفكر ليس خاصا بمصالح الدنيا وحدها ، ولا بطلب الآخرة على انفرادها ، وإنما هو متعلق بهما جميعا فقال : ( في الدنيا والآخرة ) أي : تتفكرون في أمورهما معا ، فتجتمع لكم مصالح الجسد والروح فتكونون أمة وسطا ، وأناسي كاملين ، لا كالذين حسبوا أن الآخرة لا تنال إلا بترك الدنيا وإهمال منافعها ومصالحها بالمرة فخسروها وخسروا الآخرة معها; لأن الدنيا مزرعة الآخرة ، ولا كالذين انصرفوا إلى اللذات الجسدية كالبهائم ففسدت أخلاقهم وأظلمت أرواحهم ، وكانوا بلاء على الناس وعلى أنفسهم فخسروا الآخرة والدنيا معها . وهذا الإرشاد إلى التفكر في مصالح الدنيا والآخرة جميعا هو في معنى ما جاء في الدعاء بقوله تعالى : ( ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ) ( 2 : 201 ) وتقدم تفسيرها ، فالله تعالى يبين في مثل هذه الآيات أن الإسلام هاد ومرشد إلى توسيع دائرة الفكر واستعمال العقل في مصالح الدارين ، وقدم الدنيا في الذكر لأنها مقدمة في الوجود بالفعل ، وكل ما أمرنا الله تعالى به وهدانا إليه فهو من ديننا; ولذلك قال علماؤنا : إن جميع الفنون والصناعات التي يحتاج إليها الناس في معايشهم من الفروض الدينية ، إذا أهملت الأمة شيئا منها فلم يقم به من أفرادها من يكفيها أمر الحاجة إليه ، كانت كلها عاصية لله تعالى مخالفة لدينه ، إلا من كان عاجزا عن دفع ضرر الحاجة وعن الأمر به للقادر عليه ، فأولئك هم المعذورون بالتقصير .
على هذا قام صرح مجد الإسلام عدة قرون ، كان المسلمون كلما عرض لهم شيء بسبب التوسع في العمران يتوقف عليه حفظه وتعميم دعوته النافعة قاموا به حق القيام ، وعدوا القيام به من الدين عملا بمثل هذه الآية وغيرها من الآيات ، ومضوا على ذلك قرونا كانوا فيها أبسط الأمم وأعلاها حضارة وعمرانا ، وبرا وإحسانا ، إلى أن غلا أقوام في الدين واتبعوا سنن من قبلهم في إهمال مصالح الدنيا ، زعما أن ذلك من الزهد المطلوب ، أو التوكل المحبوب ، وما هو منهما في شيء ، وكان من أثر ذلك أن أهملت الشريعة فلا توجد حكومة إسلامية على وجه الأرض تقيمها; لأنه لا يوجد من أهلها من يصلح لحكم الناس في هذه العصور التي اتسعت فيها مصالح الأمم والحكومات بالتوسع في العلوم والصناعات وارتباط العالم بعضه ببعض ، ثم صار علماء المسلمين أنفسهم يعدون الاشتغال بالعلوم والفنون التي [ ص: 271 ] تتوقف عليها مصالح الدنيا صادة عن الدين مبعدة عنه ، بل يوجد فيهم من يقول : إنها مفسدة لعقائده مفضية إلى الخروج منه . وهذا هو دخول جحر الضب الذي دخله من قبلنا ، وهو كما ترى خروج عن هدي القرآن .
وقد يقال : إذا كان المنقطع لعلوم الدين لا يأمن على عقيدته أن تذهب ودينه أن يفسد إذا هو تفكر في مصالح الدنيا وعرف العلوم التي لا تقوم هذه المصالح بدونها ، فكيف يكون حال من يدرسون هذه العلوم الدنيوية من المسلمين وليسوا على شيء يعتد به من العلوم الدينية ؟ لا جرم أن هذا قضاء على الإسلام بأنه آفة العمران ، وعدو العلم والنظام ، وهو قضاء جائر يبطله القرآن ، وتنقضه سيرة السلف الصالحين الذين سبقونا بالإيمان ، ولكن أين من يتبعهما الآن ؟ ! وقد قام فريق من الذين لم ينظروا في كتاب الله مرة نظرة معتبر ، ولم يتلوا منه آية تلاوة مفكر متدبر ، يقسمون المسلمين إلى قسمين : قسم لا تجب المبالاة بدينه ، ولا يهتم به في شكه أو يقينه ، فله أن يتعلم ما يشاء صحت عقيدته أو فسدت ، صلحت أعماله أو خسرت . وقسم آخر يجب أن يصان عقله عن كل فكر ، ويحاط بجميع الوسائل التي تمنعه من النظر فيما عليه الناس من خير وشر ، وما يعرض في الكون من نفع وضر ، كيلا يفسد النظر عقيدته ، ويضل الفكر السليم بصيرته ، وهذا القسم هو الذي تفوض إليه الرياسة الدينية ، ويعهد إليه بقيادة الأمة في صلاح الأعمال وانتظام الأحوال ، وأعظم قسم في الأمة هو القسم الأول بحكم الضرورة ، بل هو الأمة كلها بالتقريب ، وقد صار بيده زمام جميع أمورها وقوة الحكم فيها; إذ لا يمكن أن يتيسر لهذا القسم الثاني ، وهو خلو من العلم بحالها ، ودون كل واحد منها في العقل ، وفوقه في الغباوة والجهل ، أن يقود واحدا منها، بله قيادتها كلها ؟ فهل يتفق مثل هذا للخلف ، مع شيء من سنة السلف ؟ ألا عاقل يقول لهؤلاء المشعوذين : كيف ساغ في عقولكم أن يسلم إلى الجاهل قيادة العاقل ؟ وكيف يتيسر حفظ الدين بالعدول عن سنن المرسلين ، ومخالفة سير السلف الصالحين ؟