اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم هذا استئناف بين ما في قوله : يضاهئون قول الذين كفروا من قبل من الإجمال فإن أهل الكتاب لو أطلقوا لقب ابن الله على عزير والمسيح إطلاقا مجازيا ، كما أطلق في كتبهم ، ولم يضاهئوا به من قبلهم من الوثنيين لما كانوا به كفارا ، وإنما كانوا كفارا بهذه الوثنية التي أشير إليها بهذه المضاهأة وبينها بهذه الآية .
الأحبار : جمع حبر - بفتح الحاء المهملة وكسرها - وهو العالم من أهل الكتاب والرهبان : جمع راهب ، ومعناه في اللغة الخائف ، وهو عند النصارى المتبتل المنقطع للعبادة ، والرهبانية في النصرانية بدعة ، كما قال تعالى في سورة الحديد : ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم ( 57 : 27 ) وكانت نيتهم فيها صالحة ، كما قال تعالى : إلا ابتغاء رضوان الله ذلك بأن الأصل فيها تأثير مواعظ المسيح عليه السلام في الزهد ، والإعراض عن لذات الدنيا ، ثم صار أكثر منتحليها من الجاهلين والكسالى فكانت عبادتهم صورية أعقبتهم رياء وعجبا وغرورا بأنفسهم ، وبتعظيم العامة لهم ، ولذلك قال تعالى : فما رعوها حق رعايتها ولما صارت النصرانية ذات تقاليد منظمة في القرن الرابع وضع رؤساؤهم نظما وقوانين للرهبانية ولمعيشتهم في الأديار . وصار لها عندهم فرق كثيرة يشكوا بعض أحرارهم من مفاسدهم فيها . فكان ذلك مصدقا لقوله تعالى في سلفهم المخلصين : فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وفي خلفهم المرائين وكثير منهم فاسقون ( 57 : 27 ) وهذه الآية من تحرير القرآن للحقائق في المسائل الكبيرة بعبارة وجيزة هي الحق المفيد فيها . وقد نهى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الرهبانية في الإسلام لما سنبينه في تفسير سورة الحديد إن شاء الله تعالى أن يحيينا ويوفقنا لتفسيرها .
والمعنى : اتخذ كل من اليهود والنصارى رؤساء الدين فيهم أربابا ، فاليهود اتخذوا أحبارهم وهم علماء الدين فيهم أربابا ، بما أعطوهم من حق التشريع فيهم وأطاعوهم فيه ، والنصارى اتخذوا رهبانهم أي عبادهم الذين يخضع العوام لهم أربابا كذلك ، والأظهر أن يكون المراد من الأحبار والرهبان جملة رجال الدين في الفريقين أي: من العلماء والعباد [ ص: 318 ] فذكر من كل فريق ما حذف مقابله من الآخر على طريقة الاحتباك - أي: اتخذ اليهود أحبارهم وربانيهم والنصارى قسوسهم ورهبانهم أربابا غير الله وبدون إذنه ، بإعطائهم حق التشريع الديني لهم ، وبغير ذلك مما هو حق الرب تعالى ، والرهبان عند النصارى أدنى طبقات رجال الدين ، فاتخاذهم أربابا يستلزم اتخاذ من فوقهم من الأساقفة والمطارنة والبطارقة بالأولى ، فالرهبان يخضعون لتشريع هؤلاء الرؤساء مدونا كان أو غير مدون ، والعوام يخضعون لتشريع الرهبان ولو غير مدون سواء قالوه بالتبع لمن فوقهم أو من تلقاء أنفسهم ; لثقتهم بدينهم ، وكذلك اتخذوا المسيح ابن مريم ربا وإلها . أشرك تعالى بين اليهود والنصارى في اتخاذ رجال الدين أربابا شارعين ، وذكر بعد ذلك ما انفرد به النصارى دون اليهود من اتخاذهم المسيح ربا وإلها يعبدونه ، واليهود لم يعبدوا عزيرا ، ولم يؤثر عمن قال منهم : إنه ابن الله أنهم عنوا ما يعنيه النصارى من قولهم في المسيح : إنه هو الله الخالق المدبر لأمور العباد ، ومن النصارى من يعبدون أمه عبادة حقيقية ويصرحون بذلك ، وجميع الكاثوليك والأرثوذكس يعبدون تلاميذه ورسله وغيرهم من القديسين في عرفهم ، يتوسلون بهم ، ويتخذون لهم الصور والتماثيل في كنائسهم ، ولكنهم لا يسمون هذا عبادة في الغالب . والظاهر أن من كان قد تنصر من مشركي العرب لم يكونوا يعبدون هؤلاء الرؤساء والكبراء في الملة إلا قليلا ، وأما اتخاذهم أربابا بالمعنى المأثور في تفسير الآية ، فقد كان عاما عند الفريقين ، فإن اليهود لم يقتصروا في دينهم على أحكام التوراة بل لم يلتزموها ، بل أضافوا إليها من الشرائع اللسانية عن رؤسائهم ما كان خاصا ببعض الأحوال من قبل أن يدونوه في المشنة والتلمود ، ثم دونوه فكان هو الشرع العام ، وعليه العمل عندهم .
وأما النصارى : فقد نسخ رؤساؤهم جميع أحكام التوراة الدينية والدنيوية على إقرار المسيح لها ، واستبدلوا بها شرائع كثيرة في العقائد والعبادات والمعاملات جميعا . وزادوا على ذلك انتحالهم حتى مغفرة الذنوب لمن شاءوا وحرمان من رحمة الله وملكوته . وهذا حق الله وحده : ومن يغفر الذنوب إلا الله ( 3 : 135 ) ؟ أي لا أحد . والقول بعصمة البابا رئيس الكنيسة في تفسير الكتب الإلهية ، ووجوب طاعته في كل ما يأمر به من العبادات وتحريم المحرمات .
روى الترمذي وحسنه وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في سننه وغيرهم عن ـ رضي الله عنه ـ قال ، عدي بن حاتم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله فقال : " أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم ، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه ، وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه " كذا في الدر المنثور . قال أتيت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو يقرأ في سورة براءة ، ابن كثير : وروى الإمام أحمد والترمذي من طرق وابن جرير عن [ ص: 319 ] ـ رضي الله عنه ـ أنه لما بلغته دعوة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فر إلى عدي بن حاتم الشام ، وكان قد تنصر في الجاهلية فأسرت أخته وجماعة من قومه ، ثم من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أخته وأعطاها ، فرجعت إلى أخيها فرغبته في الإسلام ، وفي القدوم على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فقدم عدي المدينة ، وكان رئيسا في قومه طيء ، وأبوه حاتم الطائي المشهور بالكرم ، فتحدث الناس بقدومه ، فدخل على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفي عنق عدي صليب من فضة وهو يقرأ هذه الآية : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله قال : فقلت : إنهم لم يعبدوهم ، فقال : " بلى ، إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم ، فذلك عبادتهم إياهم " وقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : يا عدي ما تقول ؟ أيضرك أن يقال الله أكبر ؟ فهل تعلم شيئا أكبر من الله ؟ ما يضرك ؟ أيضرك أن يقال لا إله إلا الله ؟ فهل تعلم إلها غير الله ؟ " ثم دعاه إلى الإسلام فأسلم ، وشهد شهادة الحق قال: فلقد رأيت وجهه استبشر ، ثم قال " إن اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون " وهكذا قال ، حذيفة بن اليمان وغيرهما في تفسير هذه الآية . اهـ وسنذكر في إسلامه حديثا آخر قريبا . وعبد الله بن عباس
ولبعض المفسرين أقوال في الآية جديرة بأن تنقل بنصها لما فيها من العبرة لأهل هذا العصر ، قال العلامة الشيخ سليمان بن عبد القوي الطوفي الحنبلي في تفسير هذه الآية من كتابه ( الإشارات الإلهية ، إلى المباحث الأصولية ) أي ما يتعلق بأصول العقائد ، وأصول الفقه في القرآن - ما نصه : " أما المسيح فاتخذوه ربا معبودا بالحقيقة ، وأما الأحبار لليهود ، والرهبان للنصارى ، فإنما اتخذوهم أربابا مجازا ; لأنهم أمروهم بتكذيب محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإنكار رسالته فأطاعوهم ، وغير ذلك مما أطاعوهم فيه فصاروا كالأرباب لهم بجامع الطاعة ، والنصارى يزعمون أن المسيح قال لتلاميذه عند صعوده عنهم : ما حللتموه فهو محلول في السماء . وما ربطتموه فهو مربوط في السماء ، فمن ثم إذا أذنب أحدهم ذنبا جاء بالقربان إلى البترك والراهب ، وقال : يا أبونا اغفر لنا - بناء على أن خلافة المسيح مستمرة فيهم ، وأنهم أهل الحل والعقد في السماء والأرض على ما نقلوه عن المسيح ، وهو من ابتداعاتهم في الدين وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا ( 9 : 31 ) الآية - بدليل قول المسيح : يابني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار ( 5 : 72 ) اهـ أقول : أما عبارته في الحل والربط فهي موافقة لترجمة اليسوعيين في التعبير بالفعل الماضي ، وأما الترجمة الأميركانية فهي بالفعل المضارع هكذا ( متى 18 : 18 الحق أقول لكم كل ما تربطونه على الأرض يكون مربوطا في السماء ، وكل ما تحلونه على الأرض يكون محلولا في السماء ) وأما أمر المسيح إياهم بعبادة الله ربه وربهم ، وكذلك موسى عليهما السلام فسيأتي [ ص: 320 ] وقال الإمام الرازي في تفسيره ( مفاتيح الغيب ) : الأكثرون من المفسرين قالوا : ليس المراد من الأرباب أنهم اعتقدوا أنهم آلهة العالم ، بل المراد أنهم أطاعوهم في أوامرهم ونواهيهم كان نصرانيا فانتهى إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو يقرأ سورة براءة فوصل إلى هذه الآية ، قال : فقلت : لسنا نعبدهم ، فقال : " أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ؟ ويحلون ما حرم الله فتستحلونه ؟ - قلت : بلى . قال : - فتلك عبادتهم عدي بن حاتم " وقال نقل أن الربيع : قلت لأبي العالية : كيف كانت تلك الربوبية في بني إسرائيل فقال : إنهم ربما وجدوا في كتاب الله ما يخالف أقوال الأحبار والرهبان ، فكانوا يأخذون بأقوالهم وما كانوا يقبلون حكم كتاب الله تعالى .
( ثم قال الرازي ) قال شيخنا ومولانا خاتمة المحققين والمجتهدين ـ رضي الله عنه ـ : قد شاهدت جماعة من مقلدة الفقهاء قرأت عليهم آيات كثيرة من كتاب الله تعالى في بعض مسائل ، وكانت مذاهبهم بخلاف تلك الآيات فلم يقبلوا تلك الآيات ، ولم يلفتوا إليها . وبقوا ينظرون إلي كالمتعجب ، يعني كيف يمكن العمل بظواهر هذه الآيات مع أن الرواية عن سلفنا وردت على خلافها ؟ ولو تأملت حق التأمل وجدت هذا الداء ساريا في عروق الأكثرين من أهل الدنيا اهـ .
ثم قال : ( فإن قيل ) بأنه تعالى لما كفرهم بسبب أنهم أطاعوا الأحبار والرهبان فالفاسق يطيع الشيطان فوجب الحكم بكفره كما هو قول الخوارج . ( والجواب ) أن الفاسق وإن كان يقبل دعوة الشيطان إلا أنه لا يعظمه لكن يلعنه ويستخف به ، أما أولئك الأتباع كانوا ( ؟ ) يقبلون قول الأحبار والرهبان ، ويعظمونهم فظهر الفرق .
قال : ( والقول الثاني ) في تفسير هذه الربوبية أن الجهال والحشوية إذا بالغوا في تعظيم شيخهم وقدوتهم ، فقد يميل طبعهم إلى القول بالحلول ، والاتحاد ، وذلك الشيخ إذا كان طالبا للدنيا بعيدا عن الدين ، فقد يلقي إليهم أن الأمر كما يقولون ويعتقدون ، وشاهدت بعض المزورين ممن كان بعيدا عن الدين كان يأمر أتباعه وأصحابه بأن يسجدوا له ، وكان يقول لهم : أنتم عبيدي ، فكان يلقي إليهم من حديث الحلول والاتحاد أشياء ، ولو خلا ببعض الحمقى من أتباعه فربما ادعى الألوهية ، فإذا كان هذا مشاهدا في هذه الأمة فكيف يبعد ثبوته في الأمم السالفة ؟ .
[ ص: 321 ] ( قال ) : وحاصل الكلام أن تلك الربوبية يحتمل أن يكون المراد منها أنهم أطاعوهم فيما كانوا مخالفين فيه لحكم الله - وأن يكون المراد منها أنهم قبلوا منهم أنواع الكفر فكفروا بالله - فصار ذلك جاريا مجرى أنهم اتخذوهم أربابا من دون الله - ويحتمل أنهم أثبتوا في حقهم الحلول والاتحاد ، وكل هذه الوجوه الأربعة مشاهد وواقع في هذه الأمة ، انتهى كلام الرازي .
( يقول محمد رشيد ) : إننا أوردنا هذا عن هذين المفسرين من أشهر مفسري القرون الوسطى وأكبر نظارها ; ليعتبر به مسلمو هذا العصر الذين يقلدون شيوخ مذاهبهم الموروثة بغير علم في العبادات والحلال والحرام ، بدون نص من كتاب الله قطعي الدلالة ، أو سنة رسوله القطعية المتبعة بالعمل المتواتر ، ولا من حديث صحيح ظاهر الدلالة أيضا ، بل فيما يخالف النصوص وكذا أصول أئمتهم أيضا - والذين يتبعون مشايخ الطرق في بدعهم وغلوهم وضلالهم ، ويوجد فيهم في هذا الزمان من هم مثل من ذكر الرازي ، ومن هم شر منهم ، وقد بلغني عن معاصر من الدجالين المنتحلين للتصوف في مصر ، أنه قال لبعض الزائرين له ممن يظن أنه لا يقول بالخرافات : إن مريدي وأتباعي يعتقدون أنني أعلم الغيب فماذا أفعل ؟ وبلغني عن رجلين لا يعرف أحدهما الآخر أن كلا منهما رأى في المسجد الحرام أحد تلاميذ هذا الدجال يقول : نويت أن أصلي ركعتين لسيدي الشيخ فلان - أو قال : لوجه الشيخ فلان .
وأما في كل ما يقولون بآرائهم وتقاليدهم أنه حلال أو حرام ، وإن خالف السنة ونص القرآن ، فهذا داء عام قلما كنت تجد قبل هذه السنين الأخيرة في البلد الكبير أحدا يخالفه ، فيؤثر ما صح في كتاب الله وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على قول مشايخ مذهبه إلا أفرادا غير مجاهرين ، ونحمد الله تعالى أن رأينا تأثيرا كبيرا لدعوتنا المسلمين إلى هداية الكتاب والسنة ، فصار يوجد في المقلدون لمنتحلي الفقه المذهبي مصر وغيرها ألوف من الناس على هذه الهداية ، ومنهم الدعاة إليها ، وأولو الجمعيات التي أسست للتعاون على نشرها ، على تفاوت بينهم في العلم بهما . وجهل بعضهم أصل هذه الدعوة ، ومن جدد نشرها .
( وقال ) السيد حسن صديق في تفسيره ( فتح البيان في مقاصد القرآن ) ما نصه : وفي هذه الآية ما يزجر من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ، عن التقليد في دين الله ، وتأثير ما يقوله الأسلاف ، على ما في الكتاب العزيز والسنة المطهرة . فإن ، وقامت به حجج الله وبراهينه ، ونطقت به كتبه وأنبياؤه ، هو كاتخاذ طاعة المتمذهب لمن يقتدي بقوله ويستن بسنته من علماء هذه الأمة مع مخالفته لما جاءت به النصوص اليهود والنصارى للأحبار والرهبان أربابا من دون الله للقطع بأنهم لم يعبدوهم ، بل أطاعوهم ، وحرموا [ ص: 322 ] ما حرموا ، وحللوا ما حللوا ، وهذا هو صنيع المقلدين من هذه الأمة . وهو أشبه به من شبه البيضة بالبيضة ، والتمرة بالتمرة ، والماء بالماء . فيا عباد الله ، ويا أتباع محمد بن عبد الله ، ما بالكم تركتم الكتاب والسنة جانبا ، وعمدتم إلى رجال هم مثلكم في تعبد الله لهم بهما ، وطلبه للعمل منهم بما دلا عليه وأفاداه ؟ فعملتم بما جاءوا به من الآراء التي لم تعمد بعماد الحق ، ولم تعضد بعضد الدين ، ونصوص الكتاب والسنة ، بل تنادي بأبلغ نداء ، وتصوت بأعلى صوت بما يخالف ذلك ، ويباينه ، فأعرتموهما آذانا صما ، وقلوبا غلفا ، وأفهاما مريضة ، وعقولا مهيضة ، وأذهانا كليلة ، وخواطر عليلة ، وأنشدتم بلسان الحال :
وما أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد
فدعوا أرشدكم الله وإياي كتبا كتبها لكم الأموات من أسلافكم ، واستبدلوا بها كتاب الله خالقهم وخالقكم ، ومتعبدهم ومتعبدكم ، ومعبودهم ومعبودكم ، واستبدلوا بأقوال من تدعونهم بأئمتكم ، وما جاءوكم به من الرأي أقوال إمامكم وإمامهم ، وقدوتهم وقدوتكم وهو الإمام الأول محمد بن عبد الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .دعوا كل قول عند قول محمد فما آمن في دينه كمخاطر
( أقول ) : والتحقيق أن اتخاذ الأرباب غير اتخاذ الآلهة ، وأنهما يجتمعان ويفترقان ، فإن رب العالمين هو خالقهم ، ومربيهم بنعمه ، ومدبر أمورهم بسنته الحكيمة ، وشارع الدين لهم ، وأما الإله فهو المعبود بالفعل ، أي: الذي تتوجه إليه قلوب العباد بالأعمال النفسية والبدنية والتروك ، للقربة ورجاء الثواب ومنع العقاب عن اعتقاد أنه صاحب السلطان الأعلى ، والقدرة على النفع والضر بالأسباب المعروفة وغير المعروفة إذ هو مسخرها ، وبغيرها إن شاء ، والحقيق بالعبادة هو الرب الخالق المدبر وحده ، ولكن من البشر من يترك عبادته ، ومنهم من يعبد غيره معه أو من دونه . وكانت العرب تتخذ أصناما تعبدها ، ولكنهم لم يتخذوها أربابا ، بل شهد القرآن بأنهم كانوا يعتقدون ويصرحون بأن الله الخالق لكل شيء هو رب كل شيء ومليكه ومدبر أمره ، وهو يحتج عليهم بأن الرب هو الحقيق بالعبادة وحده دون غيره ، فلا ينبغي لهم أن يعبدوا أحدا من دونه لا بشرا ولا ملكا ولا شيئا سفليا ولا علويا .
فمن اعتقد أن إنسانا أو ملكا أو غيرهما من الموجودات يخلق كما يخلق الله ، أو يقدر على تدبير شيء من أمور الخلق والتصرف فيها بقدرته الذاتية ، غير مقيد بسنن الله تعالى العامة في الأسباب والمسببات كأمثاله من أبناء جنسه فقد اتخذه ربا . وكذلك من أعطى أي [ ص: 323 ] إنسان حق التشريع الديني بوضع العبادات كالأوراد المبتدعة التي تتخذ شعائر موقوتة كالفرائض ، وبالتحريم الديني الذي يتبع خوفا من سخط الله ورجاء في ثوابه - فقد اتخذه ربا ، وأما إذا دعاه فيما لا يقدر عليه المخلوقون بما لهم من الكسب في دائرة السنن الكونية والأسباب الدنيوية ، أو سجد له أو ذبح القرابين له ، وذكر عليها اسمه ، أو طاف بقبره وتمسح به وقبله تقربا إليه وابتغاء مرضاته وعطفه أو إرضائه الله عنه ، وتقريبه إليه زلفى كما يطوف بالكعبة ويستلم الحجر الأسود ويقبله - ولم يعتقد مع هذا أنه يخلق ويرزق ويدبر أمور العباد - فقد اتخذه إلها لا ربا ، فإن جمع بين الأمرين فهو المشرك في الربوبية والألوهية معا كما بينا هذا مرارا كثيرة ، وقد ثبت في الآيات المحكمة القطعية الدلالة أن الله تعالى هو شارع الدين ، وأن رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو المبلغ له عنه : إن عليك إلا البلاغ ( 42 : 48 ) و ما على الرسول إلا البلاغ ( 5 : 99 ) و فإنما عليك البلاغ فهذه أنواع الحصر التي هي أقوى الدلالات . وأركان الدين التي لا تثبت إلا بنص كتاب الله تعالى أو بيان رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمراده منه ثلاثة : ( 1 ) العقائد . ( 2 ) العبادات المطلقة والمقيدة بالزمان أو المكان أو الصفة أو العدد ، ككلمات الأذان والإقامة المعدودة ، المشروط فيها رفع الصوت . ( 3 ) التحريم الديني . وما عدا ذلك من أحكام الشرع فيثبت باجتهاد الرأي فيما ليس له فيه نص ، ومداره على إقامة المصالح ، ودفع المفاسد كما بيناه في محله بالتفصيل ، ونصوص الكتاب وهدي السنة ، وعمل السلف الصالح ، وكلامهم كثير في هذا ، ولا سيما التحريم الديني الذي هو موضوعنا هنا وكونه لا يثبت إلا بدليل قطعي الرواية والدلالة . نقل ابن مفلح عن شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية أن السلف لم يطلقوا الحرام إلا على ما علم تحريمه قطعا ، وذكر عقبه أن في إطلاق الحرام على ما ثبت بدليل ظني روايتين في المذهب . ونحن نقول يكفينا هدي السلف الصالح المتفق عليه بينهم ترجيحا للرواية الموافقة لما نقله ابن تيمية وغيره وتضعيفا للرواية الأخرى وإن جرى عليها الكثيرون أو الأكثرون من المؤلفين المقلدين ومن بعدهم ، وتبعهم العوام حتى عسروا ما يسره الله من دينه ، وأوقعوا أنفسهم والناس في أشد الحرج الذي نفى الله تعالى قليله وكثيره بقوله : وما جعل عليكم في الدين من حرج ( 22 : 78 ) و ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ( 5 : 6 ) و يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ( 2 : 185 ) .
وروى في الأم عن الإمام الشافعي القاضي أبي يوسف معنى ما ذكره الشيخ تقي الدين ابن تيمية عن السلف رحمهم الله تعالى ، ولكن بعبارة أخص وأقوى وهي : [ ص: 324 ] " أدركت مشايخنا من أهل العلم يكرهون في الفتيا أن يقولوا هذا حلال وهذا حرام ، إلا ما كان في كتاب الله عز وجل بينا بلا تفسير . حدثنا ابن السائب عن وكان أفضل التابعين أنه قال : إياكم أن يقول الرجل إن الله أحل هذا أو رضيه ، فيقول الله له : لم أحل هذا ولم أرضه - ويقول : إن الله حرم هذا فيقول الله : كذبت لم أحرمه ، ولم أنه عنه . وحدثنا بعض أصحابنا عن ربيع بن خيثم ، أنه حدث عن أصحابه أنهم كانوا إذا أفتوا بشيء أو نهوا عنه قالوا هذا مكروه وهذا لا بأس به . فأما إبراهيم النخعي فما أعظم هذا " اهـ . ولم ينكر عليه أن نقول هذا حلال وهذا حرام هذا النقل ولا مضمونه ، بل أقره وما كان ليقر مثله إلا إذا اعتقد صحته . الشافعي
وما نقله الإمام أبو يوسف وشيخ الإسلام ابن تيمية عن السلف هو الثابت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه وكبار علماء التابعين وأئمة الأمصار . فأما السنة وعمل الصحابة فأقوى الحجج فيهما ما علم نصا وعملا من عدم تحريم الخمر والميسر تحريما عاما تشريعيا بآية البقرة التي تدل عليه دلالة ظنية بقوله تعالى : وإثمهما أكبر من نفعهما ( 2 : 219 ) بل ترك الأمر فيها لاجتهاد الأفراد فمن فهم من الآية التحريم تركهما ، ومن لم يفهم ذلك ظل على الأخذ بالإباحة اعتقادا وعملا أو اعتقادا فقط ـ رضي الله عنه ـ الذي ظل يراجع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ذلك ويدعو الله تعالى أن يبين لهم في الخمر بيانا شافيا إلى أن نزلت آيات المائدة القطعية الدلالة كما بينا هذا في تفسيرها ، وفي مواضع أخرى . كعمر بن الخطاب
وأما أئمة الأمصار فمن النقل العام عنهم ما ذكرناه آنفا ، ومنه النصوص الخاصة الكثيرة المنقولة عنهم في المسائل التي يرون حظرها والتعبير عما ليس فيه نص قطعي منها بمثل أكره كذا ، أو لا أراه ، أو لا أفعله وفاقا لما ذكره من أئمة التابعين عن علماء الصحابة وأمثاله من التابعين . ولكن قسم بعض أتباع أئمة الأمصار ما كانوا يصرحون بكراهته إلى كراهة تحريم وكراهة تنزيه ، وجعل بعضهم التحريم هو الأصل المراد عند الإطلاق غلوا في الدين . إبراهيم النخعي
قال ابن مفلح في مقدمة كتابه الفروع في بيان ما جرى عليه الحنابلة فيما يسمونه مذهب ـ رضي الله عنه ـ ، وقوله : لا ينبغي ، أو لا يصح ، أو أستقبحه ، أو هو قبيح ، أو لا أراه - للتحريم اهـ . ومنه يعلم الفرق بين احتياط الإمام أحمد ، واتقائه تحريم شيء على عباد الله بغير بينة قطعية عن الله تعالى ، وتساهل بعض الفقهاء من أتباعه وغيرهم وتشديدهم في ذلك . وأحمد الله أنهم لم يتفقوا على أن ما ذكر للتحريم ، فقد نقل عنه الإمام أحمد ابن مفلح نفسه قولا آخر مستنده روايات عن أحمد في عدم التحريم . ثم قال : وفي " أكره " أو " لا يعجبني " [ ص: 325 ] أو " لا أحبه " أو " لا أستحسنه " أو " يفعل كذا احتياطا " وجهان . و : أحب كذا أو يعجبني أو أعجب إلي ، للندب وقيل للوجوب إلخ .
وقوله : وجهان . يعني للأصحاب أحدهما : أنه لكراهة التنزيه ، والثاني : أنه للتحريم . وفي تصحيح الفروع عن بعضهم أن الأولى أن ينظر إلى القرائن في كل مسألة فتحمل على ما تدل عليه من الأحكام الخمسة . وأقول : ما كان أغناهم عن مجاراة غيرهم بجعل كلامه رحمه الله للتشريع واستنباط الأحكام الشرعية منه ولو بالاحتمال ، وإذا كان كلام الله عز وجل الدال على التحريم بالظن الراجح المحتمل لعدمه بالاجتهاد لم يجعله الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه دليلا على التحريم العام المطلق ويلزموا الأمة العمل به ، بل تركوه لاجتهاد الأفراد . فكيف يجوز أن نجعل كلام من لا يحتج بكلامه مطلقا بإجماع المسلمين دليلا على التحريم العام ؟ مع العلم بأن اجتهاد العالم حجة عليه لا على غيره ؟ وقد تقدم بطلان الأخذ بالتقليد ، ومنع الأئمة له في مثل ذلك في مواضع كثيرة .