وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله جمع رحم ( ككتف وقفل ) وأصله رحم المرأة الذي هو موضع تكوين الولد من بطنها ، ويسمى به الأقارب ؛ لأنهم في الغالب من رحم واحد ، وفي اصطلاح علماء الفرائض : هم الذين لا يرثون بفرض ولا تعصيب وهم عشرة أصناف : الخال والخالة ، والجد للأم ، وولد البنت ، وولد الأخت ، وبنت الأخ ، وبنت العم ، والعمة ، والعم [ ص: 103 ] للأم ، وابن الأخ للأم ، ومن أدلى بأحد منهم . وقد اختلف علماء السلف والخلف في أولو الأرحام : هم أصحاب القرابة بما ذكر ، واستدل المثبتون بعموم هذه الآية فإنه يشملهم ، وكذا عموم قوله تعالى : إرثهم لمن لا وارث له للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون ( 4 : 7 ) وبأحاديث آحادية في إرث الخال فيها مقال ، وبحديث " ابن أخت القوم منهم " وهو في الصحيحين وغيرهما وعليه أكثر العلماء ، وممن قال بتوريثهم من الصحابة : علي وابن مسعود وأبو الدرداء . ومن التابعين وأئمة الأمصار : مسروق ومحمد ابن الحنفية والنخعي وبعض أئمة العترة والثوري وأبو حنيفة وغيرهم ، وهو المختار عندي ولا سيما في هذا الزمان . وترى في كتب الفرائض ما يستحقه كل وارث منهم ، وروي عن أن هذه الآية وما قبلها نزلت في نسخ هذا الإرث وهذا مشهور عنه ، وهو من أضعف التفسير المروي عنه ـ رضي الله عنه ـ . ابن عباس
وروى البخاري وأبو داود عنه في تفسير والنسائي ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون ( 4 : 33 ) أنه فسر الموالي بالورثة . ثم قال في تفسير والذين عقدت أيمانكم ( 4 : 33 ) : كان المهاجرون لما قدموا المدينة يرث المهاجري الأنصاري دون ذوي رحمه للأخوة التي آخى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بينهم ، فلما نزلت : ولكل جعلنا موالي ( 4 : 33 ) نسخت . ثم قال : والذين عقدت أيمانكم من النصر والرفادة والنصيحة وقد ذهب الميراث فيوصى له اهـ . هذا لفظ البخاري في كتاب التفسير ، وهو أوضح من لفظه في كتاب الفرائض ، وفي كل منهما غموض وإشكال في إعرابه ومعناه . والمراد لنا منه أنه فسر المعاقدة بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار ، وبأن الناسخ لها هذه الآية . قال الحافظ في هذه الرواية : وحملها غيره على أعم من ذلك أي مما كانوا يتعاقدون عليه من الإرث ، ثم ذكر عنه مثل هذا وأن الناسخ له آية الأحزاب : وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا كان ذلك في الكتاب مسطورا ( 33 : 6 ) وهي مفصلة وسورتها قد نزلت بعد سورة الأنفال ، وفيها الكلام على غزوة الأحزاب التي كانت بعد غزوة بدر بسنتين وقيل بثلاث سنين ، فالتحقيق أن آية الأنفال وسورتها نزلت قبل آيات الإرث وقبل سورتي النساء والأحزاب فهي مطلقة عامة .
والمعنى المتبادر من نص الآية وقرينة السياق أنها : في ولاية الرحم والقرابة ، بعد بيان ولاية الإيمان والهجرة ، فهو عز شأنه يقول : وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض وأحق من المهاجرين والأنصار الأجانب بالتناصر والتعاون - وكذا التوارث في دار الهجرة في عهد وجوب الهجرة ثم في كل عهد - هم أولى بذلك في كتاب الله أي في حكمه الذي كتبه على عباده المؤمنين ، وأوجب به عليهم صلة الأرحام والوصية بالوالدين وذي القربى في هذه [ ص: 104 ] الآية وغيرها مما نزل قبلها وأكده فيما نزل بعدها كآية الأحزاب في معناها ، وكقوله بعد محرمات النكاح كتاب الله عليكم ( 3 : 24 ) فهو قد أوجبه في دين الفطرة ، كما جعله من مقتضى غرائز الفطرة ، فالقريب ذو الرحم أولى من غيره من المؤمنين بولاء قريبه وبره ، ومقدم عليهم في جميع أنواع الولايات المتعلقة بأمره كولاية النكاح وصلاة الجنازة وغير ذلك . وهذه الأولوية لا تقتضي عدم التوارث العارض بين المهاجرين والأنصار والمتعاقدين على أن يرث كل منهما الآخر كما كانت تفعل العرب ، وإذا وجد قريب وبعيد يستحقان البر والصلة فالقريب مقدم كما قال تعالى : وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين ( 3 : 36 ) وقال رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما رواه من حديث النسائي جابر بسند صحيح : أي فللمستحق من كل جانب . وهذا موافق لقوله تعالى في وصف أولي الألباب من المؤمنين بالقرآن من سورة الرعد المكية : ابدأ بنفسك فتصدق عليها ، فإن فضل شيء فلأهلك ، فإن فضل شيء عن أهلك فلذي قرابتك ، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ( 13 : 20 ، 21 ) الآية . وعهد الله هنا يشمل جميع ما عهده إلى البشر من التكاليف سواء كانت بلفظ العهد كقوله : ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان ( 36 : 60 ) الآيتين أو بلفظ آخر - ومنه يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان ( 7 : 27 ) وأمثاله من النداء في هذه السورة - ومن الوصايا في السورة التي قبلها ( الأنعام ) كما يشمل ما عاهدوا الله عليه بلفظ العهد أو بدونه ، وما يعاهد بعضهم بعضا عليه بشروطه ، ومنها ألا يكون على شيء محرم . ويدخل في العهد العام ما أوجبه من موالاة المؤمنين وحقوقهم ، ثم ذكر بعد صفة هؤلاء ما يقابلها من صفات الكافرين الذين يقطعون ما أمر الله به أن يوصل ، وهو ما ذكر هنا . وقفى عليه بالأمر بصلة الرحم ، وهو أهم ما أمر الله به أن يوصل ، ثم قال تعالى في صفة من يصلون عن هداية القرآن من سورة البقرة المدنية : الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون ( 2 : 27 ) وقد سبق في تفسيرها أن العهد الإلهي قسمان : فطري خلقي ، وديني شرعي .
وجملة القول : أن هو تفضيل لولايتهم على ما هو أعم منها من ولاية الإيمان وولاية الهجرة في عهدها ، ولكن في ضمان دائرتهما ، فالقريب أولى بقريبه ذي رحمه المؤمن المهاجري والأنصاري من المؤمن الأجنبي ، وأما قريبه الكافر فإن كان محاربا للمؤمنين أولوية أولي الأرحام بعضهم ببعض ، كما قال تعالى في سورة الممتحنة : فالكفر مع القتال يقطعان له حقوق الرحم يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء ( 60 : 1 ) الآيات ، [ ص: 105 ] وإن كان معاهدا أو ذميا فله من حق البر وحسن العشرة ما ليس لغيره . قال تعالى في الوالدين المشركين : وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا ( 31 : 15 ) ثم قال في الكفار عامة : لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين ( 60 : 8 ) فالبر والعدل مشروعان عامان في حدود الشرع ، ومحل تفصيل هذا البحث تفسير سورة الممتحنة .
ثم ختم الله تعالى هذه السورة بقوله : إن الله بكل شيء عليم فهو تذييل استئنافي لأحكام هذا السياق الأخير بل لجميع أحكام السورة وحكمها ، مبين أنها محكمة لا وجه لنسخها ولا نقضها ، فالمعنى أنه تعالى شرع لكم هذه الأحكام في الولاية العامة والخاصة والعهود وصلة الأرحام ، وما قبلها مما سبق من أحكام القتال والغنائم ، وقواعد التشريع ، وسنن التكوين والاجتماع ، وأصول الحكم المتعلقة بالأنفس ومكارم الأخلاق والآداب ، عن علم واسع محيط بكل شيء من مصالحكم الدينية والدنيوية . كما قال في السورة السابقة لهذه : ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم ( 7 : 52 ) الآية .
فنسأله تعالى في خاتمة تفسير هذه السورة أن يزيدنا علما وفقها بأحكام كتابه وحكمه ، وأن يزيدنا هداية بعلومه وآدابه ، وأن يوفقنا لإتمام تفسيره على ما يحب ويرضى ، والصلاة والسلام على من أنزله عليه هدى للمتقين ، وأرسله به رحمة للعالمين ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، وسلام على المرسلين ، والحمد لله رب العالمين .