[ ص: 92 ] إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا لهم مغفرة ورزق كريم والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم كان المؤمنون في عصر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أربعة أصناف : ( الأول ) المهاجرون الأولون أصحاب الهجرة الأولى قبل غزوة بدر ، وربما تمتد أو يمتد حكمها إلى صلح الحديبية سنة ست ، ( الثاني ) الأنصار ( الثالث ) المؤمنون الذين لم يهاجروا ( الرابع ) المؤمنون الذين هاجروا بعد صلح الحديبية .
وقد بين في هذه الآيات حكم كل منها ومكانتها فقال : إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله هذا الصنف الأول ، وهو الأفضل الأكمل ، وقد وصفهم بالإيمان ، والمراد به محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ من توحيد الله تعالى وتنزيهه ووصفه بما وصف به نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومن عالم الغيب كالملائكة والبعث والجزاء ، ومن الوحي والكتب المنزلة وغير ذلك من [ ص: 93 ] العقائد والعبادات والآداب والحلال والحرام ، والأحكام السياسية والمدنية ، وناهيك بسبق هؤلاء إلى هذا الإيمان ومعاداة الأهل والولد والأقربين والأولياء لأجله - ووصفهم بالمهاجرة من ديارهم وأوطانهم فرارا بدينهم من فتنة المشركين ، إرضاء لله تعالى ونصرا لرسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ووصفهم بالجهاد في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ، الإيمان بكل ما جاء به ، فأما ما كان منه بالأموال فهو قسمان : إيجابي : وهو إنفاقها في التعاون والهجرة ، ثم في الدفاع عن دين الله ونصر رسوله وحمايته ، وسلبي : وهو سخاء النفس بترك ما تركوه في وطنهم عند خروجهم منه - وأما ما كان منه بالنفس فهو قسمان أيضا : قتال الأعداء ، وعدم المبالاة بكثرة عددهم وعددهم ، وما كان قبل إيجاب القتال من احتمال المشاق ومغالبة الشدائد والصبر على الاضطهاد ، والهجرة من البلاد ، وما في ذلك من سغب وتعب وغير ذلك . فالجهاد بذل الجهد بقدر الوسع ومصارعة المشاق
قال : والذين آووا ونصروا وهذا هو الصنف الثاني في الفضل كالذكر ، وصفهم بأنهم الذين آووا الرسول ومن هاجر إليهم من أصحابه الذين سبقوهم بالإيمان ونصروهم ولولا ذلك لم تحصل فائدة الهجرة ولم تكن مبدأ القوة والسيادة ، فالإيواء يتضمن معنى التأمين من المخافة ، إذ المأوى هو الملجأ والمأمن ، ومنه : إذ أوى الفتية إلى الكهف ( 18 : 10 ) ، فأووا إلى الكهف ( 18 : 16 ) ألم يجدك يتيما فآوى ( 93 : 6 ) ، وفصيلته التي تؤويه ( 70 : 13 ) ، آوى إليه أخاه ( 12 : 69 ) وقد أطلق المأوى في التنزيل على الجنة وهو على الأصل في استعماله ، وعلى نار الجحيم ، وهو من باب التهكم ، ونكتته بيان أن من كانت النار مأواه لا يكون له ملجأ ينضوي إليه ، ولا مأمن يعتصم به ، وقد كانت ( يثرب ) مأوى وملجأ للمهاجرين شاركهم أهلها في أموالهم ، وآثروهم على أنفسهم ، وكانوا أنصار الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقاتلون من قاتله ويعادون من عاداه ، ولذلك جعل الله حكمهم وحكم المهاجرين واحدا في قوله : أولئك بعضهم أولياء بعض أي : يتولى بعضهم من أمر الآخرين أفرادا أو جماعات ما يتولونه من أمر أنفسهم عند الحاجة من تعاون وتناصر في القتال وما يتعلق به من الغنائم وغير ذلك ؛ لأن حقوقهم ومرافقهم ومصالحهم مشتركة ، حتى إن المسلمين يرثون من لا وارث له من الأقارب ، ويجب عليهم إغاثة المضطر ، وكفاية المحتاج منهم : كما أنه يشترط فيمن يتولى أمورهم العامة أن يكون منهم ، فالأولياء جمع ولي وهو كالمولى مشتق من الولاية - بفتح الواو - وبه قرأ الجمهور في الجملة الآتية ، وكسرها وبه قرأ حمزة فيها ، سواء قيل : إن معناهما واحد كالدلالة والدلالة أو قيل : إن لفظ الولاية بالفتح خاص بالنصرة والمعونة وكذا النسب والدين ، وبالكسر خاص بالإمارة وتولي [ ص: 94 ] الأمور العامة ؛ لأنها من قبيل الصناعات والحرف كالتجارة والنجارة والكتابة والزراعة ، واستعمال الأولياء في المعاني الأولى أكثر .
وقال بعض المفسرين : إن الولاية هنا خاصة بولاية الإرث ؛ لأن ، بمعنى أن المسلم المقيم في البادية أو في المسلمين كانوا يتوارثون في أول الأمر بالإسلام والهجرة دون القرابة مكة أو غيرها من بلاد الشرك ، لم يكن يرث المسلم الذي في المدينة وما في حكمها إلا إذا هاجر إليها ، واستمر ذلك إلى أن فتحت مكة ، وزال وجوب الهجرة ، وغلب حكم الإسلام في بدو العرب وحضرها ، فنسخ التوارث بالإسلام وهذا التخصيص باطل .
والمتعين أن يكون لفظ الأولياء عاما يشمل كل معنى يحتمله ، والمقام الذي نزلت فيه هذه الآية بل السورة كلها يأبى أن يكون المراد به حكما مدنيا من أحكام الأموال فقط ، فهي في الحرب وعلاقة المؤمنين بعضهم ببعض وعلاقتهم بالكفار ، وكل ما يصح أن يقال في مسألة التوارث أنها داخلة في عموم هذه الولاية سواء كان بالإسلام أم بالقرابة ، ولا بأس بذكر صفوة ما ورد وما قيل في ليعلم بالتفصيل بطلان ما قيل في حمل هذه الولاية على الإرث بها . المؤاخاة بين الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ
جاء في الصحيحين من حديث أنس قال قد حالف رسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين المهاجرين والأنصار في داري ، قاله لمن سأله عن حديث : ، وقد ذكر لا حلف في الإسلام في صحيحه مؤاخاتة ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين البخاري عبد الرحمن بن عوف ـ رضي الله عنهما ـ وأسنده في عدة أبواب وكذلك المؤاخاة بين وسعد بن الربيع الأنصاري سليمان رضي الله عنهما ، وأسند وأبي الدرداء مسلم في صحيحه أبي عبيدة بن الجراح وأبي طلحة ـ رضي الله عنهما . مؤاخاته ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين
وقال الحافظ في الفتح : قال : كانت المؤاخاة مرتين : مرة بين ابن عبد البر المهاجرين خاصة ، وذلك بمكة ، ومرة بين المهاجرين والأنصار على المواساة ، وكانوا يتوارثون ، كانوا تسعين نفسا بعضهم من المهاجرين وبعضهم من الأنصار ، وقيل : وكانوا مائة : فلما نزل : وأولو الأرحام ( 8 : 75 ) بطلت المواريث بينهم بتلك المؤاخاة ا هـ .
وأقول : الظاهر أن المراد بآية وأولو الأرحام آية ( 6 ) من سورة الأحزاب ، كما علم مما تقدم ، ثم اشتبه الأمر على بعض المفسرين وغيرهم فظنوا أنها آية ( 75 ) من الأنفال ، وكل منهما مشكل ، ولكن القول بأنها آية الأنفال أظهر إشكالا ، بل لا يبقى معها لذلك التوارث فائدة ولا لنسخه حكمة لقرب الزمن بين هذا الإرث وبين نسخه ، فإن سورة الأنفال نزلت عقب غزوة بدر في السنة الثانية من الهجرة ولم تكن الحاجة إلى ذلك الإرث قد تغير منها شيء ، ولا سيما على القول بأن المؤاخاة كانت بعد الهجرة بسنة وثلاثة أشهر ، وكذلك [ ص: 95 ] لم تكن الحال قد تغيرت عند نزول سورة الأحزاب عقب وقعتها وكانت سنة أربع على الأرجح ، وقال : كانت في شوال سنة خمس ، وإنما تظهر حكمة النسخ بعد فتح ابن إسحاق مكة سنة ثمان لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : رواه لا هجرة بعد الفتح ، وكذا بعد صلح البخاري الحديبية سنة ست بإباحة الهجرة بها .
وقال الحافظ : قال السهيلي : آخى بين أصحابه ليذهب عنهم وحشة الغربة ، ويتأنسوا من مفارقة الأهل والعشيرة ، ويشد بعضهم أزر بعض ، فلما عز الإسلام ، واجتمع الشمل وذهبت الوحشة أبطلت المواريث وجعل المؤمنين كلهم إخوة ، وأنزل : إنما المؤمنون إخوة ( 49 : 10 ) يعني في التوادد وشمول الدعوة ، واختلفوا في ابتدائها فقيل : بعد الهجرة بخمسة أشهر ، وقيل : بتسعة أشهر ، وقيل : وهو يبني المسجد ، وقيل : قبل بنائه ، وقيل بسنة وثلاثة أشهر قبل بدر اهـ .
أقول : فهل يعقل أن يكون حصل قبل غزوة التوارث بالمؤاخاة بدر بقليل أو كثير ونسخ بعدها في سنتها ؟ وهل تظهر الحكمة التي ذكرها السهيلي في هذه المدة ؟ كلا إن الإسلام قد عز بغزوة بدر ولكن الشمل لم يجتمع ، والوحشة لم تذهب ، والسعة في الرزق لم تحصل ، وكان لا يزال أكثر أولي القربى مشركين .
( ثم قال ) : وذكر محمد بن إسحاق المؤاخاة فقال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأصحابه بعد أن هاجر : " تآخوا أخوين أخوين " فكان هو وعلي أخوين ، وحمزة أخوين ، وزيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب أخوين ، وتعقبه ومعاذ بن جبل ابن هشام بأن جعفرا كان يومئذ بالحبشة إلخ .
( أقوال ) : وقد تكلفوا الجواب عن هذا ولكن في بقية الرواية تعقبات أخرى مثلها ، وابن إسحاق غير ثقة في الحديث عند الجمهور ، ومن وثقه لم ينكر أنه كان مدلسا ، فكيف إذا لم يذكر سندا كما هو المتبادر هنا ، إذ لو ذكر سندا لما سكت عنه الحافظ ابن حجر هنا ، وفيه أيضا أن بعض هذه المؤاخاة بين المهاجرين وحدهم ، فإن عليا وحمزة ـ رضي الله عنهم ـ من وزيد بن حارثة المهاجرين ، وهذا مناف لقول من قالوا : إن المؤاخاة بين المهاجرين كانت بمكة .
( ثم قال الحافظ ) محاولا حل إشكال بعض التعقبات : وكان ابتداء المؤاخاة أوائل قدومه المدينة ، واستمر يجددها بحسب من يدخل في الإسلام أو يحضر إلى المدينة ، والإخاء بين سلمان صحيح كما في الباب ، وعند وأبي الدرداء ابن سعد ، وآخى بين أبي الدرداء وسنده ضعيف ، والمعتمد ما في الصحيح ، وعوف بن مالك وعبد الرحمن بن عوف مذكور في هذا الباب ، وسمى وسعد بن الربيع جماعة آخرين . ابن عبد البر
[ ص: 96 ] " وأنكر ابن تيمية في الرد على ابن المطهر الرافضي المؤاخاة بين المهاجرين وخصوصا مؤاخاة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعلي قال : لأن ، فلا معنى لمؤاخاة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأحد منهم ولا لمؤاخاة مهاجري لمهاجري " . المؤاخاة شرعت لإرفاق بعضهم بعضا ، وليتآلف قلوب بعضهم على بعض
" وهذا رد للنص بالقياس وغفلة عن حكمة المؤاخاة ؛ لأن بعض المهاجرين كان أقوى من بعض بالمال والعشيرة والقوى ، فآخى بين الأعلى والأدنى ، ليرتفق الأدنى بالأعلى ، ويستعين الأعلى بالأدنى . وبهذا تظهر مؤاخاته ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعلي ؛ لأنه هو الذي كان يقوم به من عهد الصبا من قبل البعثة واستمر . وكذا مؤاخاة حمزة ؛ لأن وزيد بن حارثة زيدا مولاهم فقد ثبت أخوتهما وهما من المهاجرين " إلخ . وما ذكره لا يؤيد تعليله ، فإنه بين النبي صلى الله عليه وسلم وعلي ـ رضي الله عنه ـ من قبيل تحصيل الحاصل .
واحتج الحافظ على ابن تيمية بالمؤاخاة بين ابن الزبير المروية بسند حسن عند وابن مسعود الحاكم وعند وابن عبد البر الضياء في المختارة التي يصرح ابن تيمية بأن أحاديثها أقوى من أحاديث المستدرك ، ثم قال : " وقصة المؤاخاة الأولى أخرجها الحاكم من طريق جميع بن عمير عن : ابن عمر أبي بكر وعمر ، وبين طلحة والزبير ، وبين عبد الرحمن بن عوف وعثمان - وذكر جماعة - قال ، فقال علي : يا رسول الله إنك آخيت بين أصحابك فمن أخي ؟ قال : " أنا أخوك " ( قال الحافظ ) : وإذا انضم هذا إلى ما تقدم تقوى به اهـ . آخى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين
وأقول : إنما احتاج هذا الحديث إلى التقوية بما روي من المؤاخاة بين بعض المهاجرين ؛ لأن راويه جميع بن عمير التيمي مجروح ، أهون ما طعنوه به قول : في أحاديثه نظر ، ووافقه البخاري . وأشدها قول ابن عدي : كان من أكذب الناس ، وقول ابن نمير : كان رافضيا يضع الحديث . والظاهر أن الحافظ لم يطلع على رواية تؤيده في موضوعه ولو إجمالا ، ومنه إسناد ابن حبان في الاستيعاب . وقد صرح ابن عبد البر الحافظ العراقي شيخ الحافظ ابن حجر بأن روايات مؤاخاته ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعلي ـ رضي الله عنه ـ ضعيفة ، فهو موافق لابن تيمية في ذلك ، وقد ذكر ابن تيمية المؤاخاة بين بعض المهاجرين ، فهو إذا ينكر ما قيل من تلك المؤاخاة العامة ، وتحقيق هذا ليس من موضوعنا هنا ، وإنما ذكرناه استطرادا للحاجة إليه في إيضاح هذا البحث ، وسنذكر ما يتعلق بذلك من الإرث في تفسير : وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض ( 8 : 75 ) .