( البشارة الثالثة عشرة )
في الباب الثالث من إنجيل متى هكذا : ( 1 وفي تلك الأيام جاء يوحنا المعمدان يكرز في برية اليهود 2 قائلا : توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السماوات ، وفي الباب الرابع في إنجيل متى هكذا : ( 12 ولما سمع يسوع أن يوحنا أسلم انصرف إلى الجليل . . . 17 من ذلك الزمن يسوع يكرز ويقول : توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السماوات . . 23 وكان يسوع يطوف كل الجليل يعلم في مجامعهم و يكرز ببشارة الملكوت ) إلخ . وفي الباب السادس من إنجيل ابتدأ متى في بيان الصلاة التي علمها عيسى - عليه السلام - تلاميذه هكذا ( 10 - ليأت ملكوتك ) ولما أرسل الحواريين إلى البلاد الإسرائيلية للدعوة والوعظ ، وصاهم بوصايا منها هذه الوصية أيضا ( وفيما أنتم ذاهبون اكرزوا قائلين : إنه قد اقترب ملكوت السماوات ) كما هو مصرح به في الباب العاشر من إنجيل متى ، ووقع في الباب التاسع [ ص: 232 ] من إنجيل لوقا هكذا ( 1 ودعا تلاميذه الاثني عشر وأعطاهم قوة وسلطانا على جميع الشياطين وشفاء أمراض 2 وأرسلهم ليكرزوا بملكوت الله ويشفوا المرضى ) وفي الباب العاشر من إنجيل لوقا هكذا ( 1 وبعد ذلك عين الرب سبعين آخرين أيضا وأرسلهم ) إلخ . ( فقال لهم ) إلخ . ( 8 وأية مدينة دخلتموها وقبلوكم فكلوا مما يقدم لكم ( 9 ) واشفوا المرضى الذين فيها وقولوا لهم : قد اقترب منكم ملكوت الله ( 10 ) وأية مدينة دخلتموها ولم يقبلوكم فاخرجوا إلى شوارعها وقولوا ( 11 ) حتى الغبار الذي لصق بنا من مدينتكم ننفضه لكم ، ولكن اعلموا هذا أنه قد اقترب منكم ملكوت الله ) - فظهر أن كلا من يحيى وعيسى والحواريين والتلاميذ السبعين بشر بملكوت السماوات ، وبشر عيسى - عليه السلام - بالألفاظ التي بشر بها يحيى - عليه السلام - ، فعلم أن الملكوت كما لم يظهر في عهد يحيى - عليه السلام - ، فكذا لم يظهر في عهد عيسى - عليه السلام - ، ولا في عهد الحواريين والسبعين ، بل كل منهم مبشر به ، ومخبر عن فضله ومترج لمجيئه ، فلا يكون المراد بملكوت السماوات طريقة النجاة التي ظهرت بشريعة عيسى - عليه السلام - ، وإلا لما قال عيسى - عليه السلام - والحواريون والسبعون : إن ملكوت السماوات قد اقترب ، ولما علم التلاميذ أن يقولوا في الصلاة وليأت ملكوتك ؛ لأن هذه الطريقة قد ظهرت بشريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فهؤلاء كانوا يبشرون بهذه الطريقة الجليلة ، ولفظ ملكوت السماوات بحسب الظاهر يدل على أن هذا الملكوت يكون في صورة السلطنة لا في صورة المسكنة ، وأن المحاربة والجدال فيه مع المخالفين يكونان لأجله ، وأن مبنى قوانينه لا بد أن يكون كتابا سماويا ، وكل من هذه الأمور يصدق على الشريعة المحمدية .
وقول علماء المسيحية : إن المراد بهذا الملكوت شيوع الملة المسيحية في جميع العالم ، وإحاطتها بكل الدنيا بعد نزول عيسى - عليه السلام - . فتأويل ضعيف خلاف الظاهر ، ويرده التمثيلات المنقولة عن عيسى - عليه السلام - في الباب الثالث عشر من إنجيل متى مثلا قال : ( 24 يشبه ملكوت السماوات إنسانا زرع زرعا جيدا في حقله . . . ) ثم قال : ( 31 يشبه ملكوت السماوات حبة خردل أخذها إنسان وزرعها في حقله . . . ) ثم قال : ( 33 يشبه ملكوت السماوات خميرة أخذتها امرأة وخبأتها في ثلاثة أكيال دقيق حتى اختمر الجميع ) فشبه ملكوت السماوات بإنسان زارع لا بنمو الزراعة وحصادها ، وكذلك شبهه بحبة خردل لا بصيرورتها شجرة عظيمة وشبهه بخميرة لا باختمار جميع الدقيق . وكذا يرد هذا التأويل قول عيسى - عليه السلام - بعد بيان التمثيل المنقول في البيان الحادي والعشرين من إنجيل متى هكذا ( 43 لذلك أقول لكم : إن ملكوت الله ينزع منكم ويعطى لأمة [ ص: 233 ] تعمل أثماره ) فإن هذا القول يدل على أن المراد بملكوت السماوات طريقة النجاة نفسها لا شيوعها في جميع العالم وإحاطتها بكل العالم ، وإلا لا معنى لنزع الشيوع والإحاطة من قوم وإعطائها لقوم آخرين ، فالحق أن المراد بهذا الملكوت هي المملكة التي أخبر عنها دانيال - عليه السلام - في الباب الثاني من كتابه ، فمصداق هذا الملكوت وتلك المملكة نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - والله أعلم وعلمه أتم .